ميريت الثقافية تناقش العلمانية في فكر نصر ابو زيد
الأربعاء 05/أغسطس/2020 - 10:48 ص
طباعة
روبير الفارس
صدر العدد العشرون من مجلة "ميريت الثقافية"- أغسطس 2020، الشهرية الإلكترونية التي تصدر عن دار ميريت للنشر، المدير العام محمد هاشم ورئيس التحرير الشاعر سمير درويش، ويتصدر العدد "الملف الثقافي" بعنوان "نظرة الليبراليين الجدد للصهيونية"، وهو مقال طويل في حجم كتاب، كتبه الدكتور حاتم الجوهري بعنوان "الاستلاب للآخر والانسلاخ عن الذات عند يوسف زيدان- القدس نموذجًا"، ويحلل مجمل كتابات وتصريحات الدكتور يوسف زيدان عن موضوع القضية الفلسطينية بشكل عام، وموضوع مدينة القدس تحت الاحتلال الصهيوني بشكل خاص.
"الافتتاحية" التي يكتبها رئيس التحرير تتحدث حول القضية نفسها، بعنوان "الاحتلال الصهيوني.. بين النظرة الدينية، ونظرة الليبراليين الجدد"، ومنها: "ما أغفله الفريقان: الديني والليبرالي، أن فلسطين أرض محتلة بالمفهوم الحديث للاحتلال، فقد نزحت جاليات كثيرة من بلدان مختلفة واستوطنت في فلسطين، وتجمعت معًا وتسلَّحت وحاربت العرب وانتصرت عليهم، وكان من نتيجة الحرب تهجير المواطنين الفلسطينيين ومصادرة أراضيهم ومنازلهم".
وتضمن باب "تجديد الخطاب" ثلاثة مقالات: مشروع الجابري لمبادئ قراءة جديدة للتراث لشادي عمر الشربيني، الجهل بالعلمانية يؤدي إلى الحل الإسلامي لعصام الزهيري،
حيث قدم خلاله قراءة جديدة في فكر نصر ابو زيد تحت عنوان
الجهل بالعلمانية يؤدي إلى الحل الإسلامي
والحل الإسلامي يخلق مشكلات بلا حل حيث كتب الباحث المتخصص في فكر حركات الإسلام السياسي
عصام الزهيري
يقول
"حين يتخلى المفكر التنويري عن موقف الدفاع يظل في خانة التبرير تعبيرا عن عجزه عن النقد"
هذه العبارة المفتاحية كتبها د."نصرحامد أبوزيد" في دراسة أتمها أوائل التسعينيات وأعاد نشرها سنة 1995 مقدمة لكتابه "النص والسلطة والحقيقة: إرادة المعرفة وإرادة الهيمنة". عنوان الدراسة "التراث بين التوجيه الأيديولوجي والقراءة العلمية" ويشير في بدايتها إلى تحول "التراث" إلى وضعية قداسة لا تقبل النقد أو المساس بعد اختصاره في الإسلام من جهة وتحوله إلى "هوية" جامدة ووهمية للشخصية العربية التي فقدت مقومات وجودها الحضاري بعد أن عجزت عن استيعاب ما أنجزه العقل البشري في مجالات المعرفة العلمية.
المثقف العربي أو المفكر التنويري وجد نفسه دائما سجين موقع الدفاع أو موقف التبرير الملزم بإزاء جمود هذا التراث وتقديسه وتأبيه على حرية النقد واستخدام وسائل العقاب المعنوي والمادي بداية من التكفير والاضطهاد والعنف حتى السجن والقتل والتشريد في المنافي (بما صدق بعد ذلك على نصر حامد أبوزيد نفسه). وهو ما يعيده "أبوزيد" إلى بنية التصور الديني العربي للعالم، سواء كان على مستوى ديني أو فلسفي أو سياسي. وهو يرد ذلك كله في المحصلة إلى الاعتماد على مفهوم "الدولة / القبيلة"وما يرتبط به من تعلق مرضي بالماضي وهيمنة هذا التراث رغم تغير شكل الدولة، يقول: "ظل تداول السلطة يعتمد على الانقلاب العسكري سواء كان انقلابا باسم الخليفة أو انقلابا لحماية الوطن، وظلت كل سلطة انقلابية جديدة تحاول تعزيز مشروعيتها بالاستناد إلى التراث والماضي".
وابتداءا من "رفاعة رافع الطهطاوي" (1801-1873م) حتى "زكي نجيب محمود" (1905-1993م) وخلال هذه المسافة الزمنية التي تغطي صعود وسقوط ما سمي بـ"خطاب النهضة الحضاري" في العالم العربي، بداية بلقاء الحملة الفرنسية وقيام دولة محمد علي، إلى دولة يوليو والتداعيات التي ترتبت على صعود الخطاب الصحوي الإسلامي في عموم المنطقة، ظل الإسلام موجودا كإطار مرجعي جاهز في بنية خطاب النهضة دون أن يفلح الأخير في إنتاج وعي علمي بالدين والتراث، هذا الذي أخفق فيه خطاب النهضة "إخفاقا مذهلا" بتعبير "نصر أبوزيد". هذا الوجود للإسلام بحالته التراثية أو وجود التراث بحالته الدينية المقدسة ما ظل يعطي لخطاب النهضة وجودا شاحبا ويحيل بشكل متواصل إلى بديله - أو وجهه - السلفي التقليدي. وهو ما سمح للسلفية بالانقضاض على الانجازات التي يحققها خطاب النهضة في كل مرة تنهار فيها الواجهات وتسقط أقنعة الشعارات الحداثية عن وجه الدولة / القبيلة ومشروعها السياسي. حينها تصبح النزعة السلفية الأصل الذي يجد خلف واجهات خطاب النهضة نفس إسلامه القديم كما هو لم يمس.
الإزدواجية والانتقائية بديلا عن الوعي النقدي والقراءة المنهجية العلمية للتراث الديني كانت هي المعادلة التي وجد المفكر التنويري نفسه ملزما بها ومحاصرا فيها تحت وطأة ضغوط الاضطهاد التي يتعرض لها في كل مرة يقترب من ملامسة المحظور الديني في التراث أو بكلمة أدق المحظور التراثي - الهوياتي - في الإسلام. سواءا الازدواجية التي تلزمه باختيار "قيم من التراث تستحق البقاء" حسب عنونة د."زكي نجيب محمود" لأحد كتبه، أو باختيار "قيم من الحضارة الحديثة تستحق البقاء". ازدواجية شابت النظرة الإسلامية بعامة في موضعها القلق بين الماضي والحاضر، بين الهوية والقداسة من جهة والعلم والحقيقة من جهة أخرى.
وما يهمنا في هذا الموضع تناول استخلاصين مهمين توصلت إليها الدراسة المتعمقة في سمات خطاب النهضة العربي. والاستخلاص الأول يتصل بفكرة "أهمية التعليم" التي تروج بين المفكرين التنويرين كسبيل أساسي للخلاص من أزمات التخلف وأوضاع التردي التي يرزح تحت وطأتها العقل. وهو الأمر الذي تصل بخصوصه دراسة "أبوزيد" إلى نتيجة قد تكون محبطة للكثيرين. مفادها أن إصلاح التعليم ليس حلا لأنه ليس ببساطة ممكنا في ظل استمرار بنية الوعي وبنية المجتمع وبنية الدولة العربية على ما هي عليه وهو ما أثبتته تجارب كثيرة بالفعل. يقول "أبوزيد": "لقد أثبتت التجربة أن التعليم وإصدار صحيفة أو مجلة أو المساهمة في نشاط حزبي محاصر - كما هو الحال الآن في العالم العربي - ليس كافيا رغم أهمية التعليم والصحيفة والمجلة والحزب. إنه ليس كافيا في سياق الشروط الراهنة التي تجعل من السهل تغيير نظام التعليم، ومن السهل إغلاق الصحيفة وإلغاء تصريح إصدار المجلة، ومحاصرة نشاط الحزب". والحل الذي يقترحه "أبوزيد" للخروج من عنق الزجاجة هو "تغيير الشروط الراهنة وعلى رأسها الخروج من عنق الزجاجة المتمثل في حكم النخب العسكرية أو القبلية أو الطائفية المستندة على حقوق الوراثة المرتكزة على مبدأي القوة والقهر، لا البوليسية وحدها بل وسائل القهر الثقافية المتمثلة في السيطرة التامة على التعليم - خاصة الجامعات - وفي السيطرة على أجهزة الإعلام مسموعة ومرئية ومن صحافة إعلامية متخصصة".
وأول ما يلفت النظر في هذا الاستخلاص هو طابعه السياسي إذ أنه أحد الطروح الفكرية الهامة التي أوصلت مصر فيما يبدو إلى مبدأ "السياسة هي باب الإصلاح الوحيد" الذي اعتمد وصولا إلى ثورة يناير في مصر وثورات الربيع العربي في المتنطقة، وهو المبدأ الذي تعرض للنقد الشديد في أعقاب الأحداث المروعة التي تلت هذه الثورات. وحتى أن النقد الموجه له يمكن أن يشمل المرحلة التي سبقت تلك الثورات أيضا، فلم يؤدي تخفيف قبضة الدولة في مصر عن التعليم خلال مرحلة حكم الرئيس "حسني مبارك" - مثلا - إلا إلى مزيد من انتشار الاتجاهات والتيارات الدينية السلفية، وإلى مزيد من التلقين الواسع والخطير لمباديء الإسلام السياسي المدمرة لبنية الدولة والمجتمع بلا أي بديل حداثي ممكن من وجهة نظر هذه التيارات غير تمزيق مجتمعاتهم وبناء دويلات أمراء الطوائف. إنما الأهم بخصوص هذا الاستخلاص الفكري ذي الطابع السياسي هو قراءته في ضوء المتغيرات الجذرية التي جلبتها معها ثورة الاتصالات والمعلومات. لم تعد الدول والحكومات قادرة بالفعل على التحكم في وسائل الإعلام المرئية والمسموعة، ولا يمكن لسيطرتها تلك أن تصمد أمام الطوفان المعلوماتي الذي يغرق الأجواء عبر قنوات الأقمار الصناعية والأنترنت، خصوصا مع الانتشار والتوفر الواسع للبنية المادية لهذه الثورة الاتصالية والمعلوماتية من أجهزة التلفزيون والمحمول والكمبيوترات.
الاستخلاص الثاني لدراسة د."نصر حامد أبوزيد" يرتبط عضويا بالاستخلاص الأول ويدور حول خيارات الجماهير السياسية في ظل البنية العامة التقليدية والسلفية لوعيها. وهو ما أسماه "أبوزيد" بحسب الشعار الشائع في التسعينيات "الحل الإسلامي". وهو يراهن على إمكانية تجاوز هذه العثرة في سبيل النهضة الحضارية الحقيقية عن طريق احترام اختيار الجماهير ودفع أثمان هذا الاختيار وصولا إلى استكمال الجماهير لاستكمال وعيها الحضاري، يقول: "إذا كانت الجماهير - بسبب نقص وعيها - ستختار "حلا إسلاميا" فإن من حقها أن تمارس تجربة اختيار هذا الحل، وعليها أن تدفع الثمن اللازم لاستكمال وعيها التاريخي والاجتماعي، إن وصاية المثقف والسياسي تنتهي كلتاهما إلى نتيجة واحدة. الديكتاتورية السياسية المطلقة من جهة وكهنوتية الفكر من جهة أخرى، ذلك أن الوصاية على الجماهير استنادا إلى نقص وعيها يفضي إلى تثبيت هذا الوعي الناقص وتأبيده".
ورغم أن المرء لا يسعه غير الاتفاق مع استخلاص "أبوزيد" الخاص بأن الوصاية على وعي الناس لا ينتج في الواقع غير النكوص والارتداد إلى تلقائيا إلى وصاية المقدس كما يمثله الكهنوت الديني الإسلامي، إلا أن مجمل الاستخلاص الذي أنجزته الدراسة تعرض إلى نقد شديد من الواقع السياسي والاجتماعي "التاريخي" لمجتمعاتنا في أعقاب ثورات الربيع العربي. فـ"الحل الإسلامي" الذي اتضح أنه يؤدي - في ضوء واقع وسياق مختلفين عن ذلك الذي أنتج نصر استخلاصه من خلاله - أثبت أن هذا الحل يؤدي إلى مشكلات ليس أهونها تمزيق المجتمعات وانقسامها على نفسها وتشتتها في حروب أهلية طاحنة تؤدي إلى انهيار الدول والسقوط في الفوضى، ناهيك عن التجريف الخطير الذي يلحقه الاختيار الإسلامي بمفاهيم أساسية في بناء المجتمعات والدول الحديثة كمفهوم الدستور والمواطنة والحريات المدنية والمساواة ورفض التمييز ومدنية الدولة، وصولا إلى إلحاق الأضرار بمفهوم الوطن ذاته، مما يعني أن "الحل" يخلق في المجتمعات العربية مشكلات بلا حل.
يعيدنا هذا الاستخلاص الذي قدمته دراسة د."نصر أبوزيد" بما يبدو أنه عجز كامن فيه عن الوقوف على قدميه وإخفاق في الواقع عن التحقق طبقا لتصوره إلى مفهوم "الحلقة المفرغة" كما صاغة المفكر التنويري الشهيد د."فرج فودة". وهو المفهوم الذي يبدو أنه الأنضج والأقرب إلى فهم طبيعة الواقع السياسي والاجتماعي للمجتمعات العربية. الحلقة المفرغة التي قال عنها د."فرج فودة" في كتابه "حوار حول العلمانية": "هنا تبدأ الدائرة المفرغة فى دورتها المفزعة. ففى غياب المعارضة المدنية، سوف يؤدى الحكم العسكري إلى السلطة الدينية. ولن ينتزع السلطة الدينية من مواقعها إلا الإنقلاب العسكري، الذى يُسلم الأمور بدوره، بعد زمن يطول أو يقصر، إلى سلطة دينية جديدة. وهكذا. وأحيانا يختصر البعض الطريق فيضعون العمامة فوق الزي العسكري، كما حدث ويحدث فى السودان". أدى وضع العمامة فوق القبعة وتطبيق ما يسمى بـ"الشريعة الإسلامية" في السودان - كما نعرف - إلى انقسام المجتمع والدولة السودانيين إلى مجتمعين ودولتين بالفعل، دولة الشمال ودولة الجنوب، وهو ما تحقق في سنة 2011 بعد رحيل "د.فرج فودة" بتسعة عشر عاما. أحد الجوانب الرئيسية للحلقة المفرغة التي عناها "فودة" كان إنكار العلمانية على حد قوله: "فإنكار العلمانية جهل بالحضارة الحديثة.. وإطلاق صفة الكفر على العلمانية جهل بالعلمانية .. والدعوة للدولة الدينية جهل بحقوق الإنسان .. والمناداة بعودة الخلافة الإسلامية جهل بالتاريخ .”. على ذلك تمثل العلمانية في مفهوم د."فرج فودة" كسرا للطبيعة المغلقة للحلقة المفرغة، ولذلك أعتبر تحقيق مقومات الدولة العلمانية في مصر كطوق نجاة أحد المهام الرئيسية التي باتت ملقاة اليوم على عاتق المثقف النقدي والمفكر التنويري في ظل أوضاعنا الحاضرة.