الباحث المغربي سعيد ناشيد يفند حجج خطاب الإسلام السياسي
الثلاثاء 05/يناير/2021 - 10:50 ص
طباعة
روبير الفارس
صدر مؤخرا
للباحث المغربي سعيد ناشيد كتاب "الذرائع في خطاب الإسلام السياسي" عن مؤسسة مؤمنون بلا حدود .ويهدف الكتاب الي تفكيك مفاهيم الإسلام السياسي ودلالات الخداع الشرعي، وآليات الخداع، وكذا الخدائع التأسيسية، ومن بينها الخدعة الكبري التي ينادي بها مختلف الجماعات الإسلامية وهي " استعادة الخلافة."
يرى ناشيد أن الخدائع المؤسسة للإسلام السياسي امتداد لثقافة الحيل الفقهية؛ حيث يكفي التلاعب ببعض المعاني والألفاظ حتى يصبح الحرام حلالاً، والحلال حراماً. تكفي بعض الشطحات التأويلية حتى يصبح المحظور مباحاً، والمباح محظوراً. يكفي اليوم، على سبيل المثال، تحميل بعض مقتضيات الحداثة بعض الأسماء "الشرعية" حتى نحصل على حداثة حلال زلال على منوال "البنك الإسلامي"، و"المايوه الشرعي"، و"السندويتش الحلال"، و"الطب النبوي"، و"الرقص الحلال"، وهلم جرا.
ويشير إلى أن أسلمة الحداثة ليست سوى خداع مفاهيمي من العيار الثقيل؛ لأنّها تعني إمكانية التحايل على جوانب الحداثة التي لا نستطيع مقاومتها، من قبيل اعتبار الضريبة نوعاً من الزكاة، والانتخابات نوعاً من الشورى، والعمل السياسي نوعاً من الدعوة. وكذلك من قبيل إمكانية أن تسبح المرأة في الشاطئ أو حمام السباحة بعد أن نُجري على لباس السباحة تعديلاً في مستوى الصورة، فيُستبدل بالبيكيني البوركيني. اليوم، في معركة البوركيني (المايوه الإسلامي) ضد البيكيني (المايوه الحداثي) يصطف جمهور الإسلام السياسي خلف البوركيني، على الرغم من أنّه لم يرد في أيّ قاموس من قواميس السلف أو الخلف. لقد انطلت الحيلة على الذات. وكذلك الحال بخصوص إمكانية شراء السيارة بقرض بالفائدة وفق مستلزمات المعاملات الحديثة، لكن بعد أن نُجري تعديلاً طفيفاً في لغة الاستقبال، ثمّ نسمّي الفائدة بالمرابحة، أو نستعمل التعبير الرائج بينهم اليوم، "الكراء المفضي إلى تملك السيارة". اليوم في معركة المرابحة (البنك الإسلامي) ضد الفائدة (البنك الحداثي) يصطف جمهور الإسلام السياسي خلف المرابحة، على الرّغم من أنّها ليست ضمن قواميس القروض سواء في منظومة الشريعة أم منظومة الحداثة. يكفي العثور على العبارة المناسبة حتى تنطلي الحيلة على الذات. وفي حقل النوايا متسع لخداع النفس قبل خداع الغير.
ويؤكد ناشيد أنّ معظم الحجج الفقهية والنظرية لم تكن مقنعة طالما كان يعوزها الحد الأدنى من الوضوح والانسجام، إلا أنّ الضغط الذي تعرض له الإسلام السياسي بسبب عنف أطيافه الجهادية قد جعل الأتباع يتقبلون خيار التمييز بين الدعوي والسياسي، وذلك بعد إفراغ محاولة التمييز من أيّ محتوى فكري. وليس يخفى أنّ الموقف السياسي، الذي لا يستند إلى رؤية فكرية، يكون سريع التقلب، اللهم إذا كان القصد هو تسويغ التقلب. وفي غياب الرؤية الاستراتيجية المستندة إلى العلوم الإنسانية كان مبلغ هم الحكومات - ضمن ما سمي بالمراجعات - هو التركيز على موقف المتطرفين من الحاكم حصراً. ففي المغرب ركزت السلطة على التأكد من اعتراف الإسلام السياسي بإمارة المؤمنين، دون النظر إلى سائر المسائل المتعلقة بالحريات والأقليات والمرأة... إلخ، فكان أن صعد الإسلام السياسي بسرعة قياسية عقب الإجهاز على تجربة التناوب، ولم يجد أمامه مجتمعاً مدنياً قوياً يصده. كذلك حدث في مصر حيث جرى التركيز على التسويات الظرفية على حساب المعايير الديمقراطية، فانتهى الأمر إلى صعود الإخوان والسلفيين في انتخابات ما بعد ثورة (25 يناير 2011). كما لا تخفى القصة المأساوية لصعود "معتدلي" الجزائر الذين استعجلوا التمكين، فأطلق زعيمهم علي بلحاج وعيده المدوّي لحظة فرز النتائج: اليوم بدأت الديمقراطية واليوم تنتهي. لكن، على الرغم من سوء المآل، وتردي الأحوال، واشتعال الفتن، وقدرة "المتطرفين" على ابتلاع "المعتدلين" في أكثر من مكان (مصر، ليبيا، اليمن، سوريا، وغيرها)، من المستغرب وجود أشخاص لا يزالون يراهنون على إمكانية استثمار الجماعات التكفيرية الأقل تشدّداً لأجل مواجهة الجماعات التكفيرية الأكثر تشدّداً، تبعاً لقاعدة درء المفسدة الكبرى بمفسدة صغرى.
ويلفت إلى أن الأشدّ غرابة في الموضوع وجود فاعلين سياسيين يظنّون - من باب الفاعلية السياسية - أنّ بعض جماعات الإسلام السياسي قد تصبح معابر سالكة لمرور بعض مقتضيات الحداثة السياسية إلى عقول سائر المسلمين، طالما أنّ تغليف الفكرة بغلاف ديني يجعلها مقبولة من طرف الجمهور. ولأجل تحقيق هذا الهدف، ليس مطلوباً منا سوى العمل على ترميم الإسلام السياسي وإعادة تدويره عن طريق الممارسة السياسية. ويكمن الخطأ، الذي يقع فيه بعض المشتغلين بالسياسة، في اعتقادهم بأنّ كل المشاكل يمكن حلّها بوساطة الموقف السياسي. هذا الخطأ يشبه كهف أفلاطون الذي يكتفي فيه الإنسان بالنظر إلى المظاهر الحسية. مثلا: تكمن معضلة العنف في أنّه لا ينبع بالضرورة من الموقف السياسي المعلن، الذي يمكن تعديله بسهولة في بعض الأحيان، دون أن ينعكس ذلك بالضرورة على مآل الأمور. كما ليس يخفى أنّ بوسعنا أن نقول في السياسة عكس ما نمارسه في الواقع، وأنّ العبارات الصحيحة في الحقل السياسي قد لا تكون كذلك في سائر الحقول الأخرى؛ ذلك أنّ معضلة العنف تكمن في الخلفية الفكرية والرؤية الثقافية والمفاهيم المرجعية لصناع القرار وصناع الرأي العام.
ويتساءل ناشيد: أَيمكن لابن تيمية وسيد قطب (ابن تيمية هو الجذع المشترك القديم، وسيد قطب هو الجذع المشترك الحديث لأطياف الإسلام السياسي كافةً) أن يشكّلا فرصة لإنتاج إسلام سياسي حداثي ديمقراطي ينتمي إلى روح العصر، أم أنّ الأمر يتعلق بمجرد رهان مفلس؟ لسنا ننكر أنّ العقول تتغيّر، وأنّ الأذهان تتغيّر، وأنّ الوعي يتغيّر، وأن لا شيء ثابت، فالتغيّر سنّة الحياة. لكن هناك قاعدة مكملة: من لا يتغيّر يموت، ومن غير المعقول أن نتصور أنّ كل الإيديولوجيات تستطيع أن تتغير. والمشكل الباقي أنّ بعض الأفكار تحتاج إلى الموت الرحيم.
ويضيف "فعلاً، لقد سبق للخارجية الأميركية، ومعها معظم الدّوائر الغربية، أن راهنت على الإسلام السياسي قبل ما كان يسمى الربيع العربي وإبانه، وعلى منوالها سارت دول إقليمية محددة على رأسها قطر وتركيا، أملاً في تحقيق ثلاثة أهداف استراتيجية كانت تبدو حينها رهاناً ممكناً: أوّلاً: ضمان قدر من الاستقرار: حيث كانت حركات الإسلام السياسي، على رأسها الهيئات الدّولية الممثلة للإخوان المسلمين، تبدو كأنّها الأقدر على إعادة ضبط الأمن والاستقرار داخل مجتمعات ما بعد الثورات. ولاسيما أنّ الأمر يتعلق بثورات أطلقها الشباب في الشارع بأسلوب عفوي، وباستعمال آليات التواصل الاجتماعي. لكن بعد إجهاض الثورات وعقب السّقوط المدوي للإخوان المسلمين بين أحضان التغول الجهادي والتكفيري - بصرف النظر عن "مظلوميتهم" - أصبح الاستمرار في الرهان نفسه يفتقد إلى الحد الأدنى من المعقولية.
ثانياً: المصالحة بين الديمقراطية والإسلام السياسي: لقد كان هذا الرهان يبدو مبرراً ولو في حدود معينة، ولاسيما بالنظر إلى تجربة إسلاميي ما بعد أربكان في تركيا، التي أوحت بأنّ الإسلام السياسي قادر على تطوير منظومته الإيديولوجية نحو أكبر قدر من العلمنة، في اتجاه قد يسمى بـ "ما بعد بعد أربكان"، غير أن الحالة التركية وقفت أمام مفترق الطرق بين "التدعوش الشعبوي" و"الفاشية السلطانية". على أنّ المفاتيح كلها تبقى بيد "سلطان الظل"، هاكان فيدان، الرجل العسكري صاحب القبضة الحديدية على عموم الاستخبارات العسكرية والمدنية، وهو الذي طلب من أردوغان أن يبقى مع الشعب في الشارع طيلة الأيام التي تلت محاولة الانقلاب، لكي يتكفل هو بتطهير الدولة من آلاف الأطر التي تعيق طموحاته، بما في ذلك تصفية حركة خدمة التابعة لرجل الدين فتح الله غولن، التي تعدّ أكبر حركة دينية في العالم الإسلامي. والأسئلة هنا تطول.
ثالثاً: سحب البساط من تحت أقدام التطرّف الجهادي التكفيري: وقد كان الرهان معقوداً أيضاً على أنّ التصدي للإسلام الجهادي التكفيري لن يكون ممكناً إلا من داخل منظومة الإسلام السياسي نفسها، وأنّ مفاهيم الوسطية والاعتدال التي أشهرتها بعض الجماعات الإسلامية، ولو من باب السياسة السياسوية، تكفي لكي تمثل سدّاً منيعاً في وجه الإرهاب التكفيري، غير أنّ أولى نتائج ما كان يسمّى الرّبيع العربي، وأكثرها بداهة، أنّ مساحة الغلو والفتنة زادت اتساعاً في مرحلة حكم الإسلاميين في مصر وتونس وتركيا، وفي ظلّ قيادة الإسلاميين للثورات المغدورة في سوريا واليمن وليبيا.
ويؤكد ناشيد أنّ الأطراف والجهات التي لا تزال، إلى الساعة، تتوهم إمكانية توظيف بعض جماعات الإسلام السياسي الأقلّ تشدّداً أو إعادة تدويرها لغاية مواجهة جماعات الإسلام السياسي الأكثر تشدّداً، في سوريا أو اليمن أو ليبيا أو غيرها، إنّما تراهن على الفرس الخاسرة في الحساب الأخير. لقد أعدّ الإسلام السياسي بكل أطيافه عُدّته وذخيرته لغاية وحيدة: مجابهة الحداثيين واليساريين والليبراليين والعلمانيين الذين ينتمون ظاهريّاً إلى خارج الثـقافة الإسلامية. وهو لذلك يجد نفسه اليوم بلا ذخيرة أمام غلاة الدين الذين ينتمون إلى داخل منظومة الثـقافة الإسلامية. والواقع أنّ الإسلام السياسي "المعتدل" هو الذي أوجد قواعد اللعبة التي منحت الامتياز لغلاة الانغلاق (الحاكمية، الخلافة، التدافع، التمكين، القوامة، الاستكبار... إلخ). تلك المفاهيم الفقهية كانت ذخيرته في سنوات الصراع ضدّ العلمانيين والشيوعيين والليبراليين والحداثيين، وهي ذخيرة لا تصلح اليوم في مجابهة المتشددين التقليديين، بل لعلها تمنحهم الامتياز والتفوق في الحساب الأخير. لقد قام الإسلام السياسي على أساس تسييس الدين، ما يعني تبذير الإرث الروحي للشعوب المسلمة في معارك الصراع على السلطة. إنّ نجاح الإسلام السياسي في تدمير البعد الروحي للدين ليعني أنّ خراباً روحيّاً ينتظر شعوبنا في الأفق القريب؛ إنّه خطر العدمية الشاملة بلغة أخرى.
ويتساءل ناشيد أيضا: هل نجح الإسلاميون المعتدلون في الحد من مظاهر العنف الديني؟ ويقول "في واقع الحال لم يتراجع العنف الديني جرّاء صعود الإخوان، بل اكتسح مساحات جديدة في العديد من المناطق: سيناء، الشعانبي، الموصل، زنجبار، أبين، تامبوكتو، وغيرها، كما اكتسحت القاعدة وأخواتها مساحات جديدة في أفريقيا وآسيا. وقد يتساءل المتسائل: نجحت الاشتراكية الديمقراطية "المعتدلة" في أوروبا في الحد من العنف الشيوعي طيلة نصف قرن، فلماذا فشل الإسلاميون "المعتدلون" في الحد من العنف الإسلاموي؟ ثمة ملاحظتان: أولاً: إذا كان الاشتراكيون المعتدلون قد امتلكوا خطاباً اجتماعياً وحقوقياً مقنعاً للمثقفين وملهماً لعامة الناس، فإنّ الخطاب الحجاجي لما يسمى الإسلاميين المعتدلين عاجز عن إقناع النخب وغير قادر على مجابهة الخطاب الحجاجي للإسلاميين الأشد تطرفاً. مشكلة "الإخوان المسلمين" أنّهم لم يفلحوا في بناء منظومة قيم متماسكة ومقنعة ومستقلة عن الإسلام المتطرف. لذلك لا تبقى لهم من حجّة أمام نظرائهم المتطرفين سوى أن يقولوا لهم: أنتم تستعجلون.
ثانياً: لا تضم مرجعية الإخوان المسلمين اليوم أيّ مُنظر إسلامي من حجم علي شريعتي ومالك بن نبي، ولا أيّ مفكر إسلامي من حجم محمد أركون ومحمد عابد الجابري، ولا أيّ مصلح ديني من طينة محمد إقبال وعبدالكريم شروس؛ ذلك أنّهم لا يستلهمون من تراث الإسلام سوى بعض فتاوى ابن تيمية، وبعض أخبار الصحابة، وشيء من أساطير الأولين، أمّا أدمغة التراث الإسلامي ذات الأثر الإنساني الكبير، من قبيل ابن سينا، وابن رشد، وابن عربي، وصدر الدين الشيرازي، فتكفيها الرحمة أحياناً إن هي ذُكرت.
وفي مقدمة الكتاب كتب سعيد ناشيد يقول
قبل البدء:
في دلالات الخداع الشرعي
اللباس الشرعي، النقاب الشرعي، الحجاب الشرعي، الزي الشرعي، المايوه الشرعي، العلاقة الشرعية، الرقية الشرعية، السياحة الشرعية، السياسة الشرعية، الزواج الشرعي، النكاح الشرعي، الخلوة الشرعية، المدارس الشرعية، البنوك الشرعية، الرقص الشرعي... أفلا يتعلق الأمر بالخداع الشرعي؟!
قد يُعترض عليّ بوجود مجالات تُنعت بالشرعية بلا خلاف، كالطب الشرعي مثلاً. غير أنّ الأمر هنا ليس سوى شكلٍ من أشكال التمويه النفسي لكي نمنح أنفسنا حقّ «انتهاك حرمات الموتى» ضمن لاشعور جمعي لا يستسيغ المسألة.
لذلك حين أستعمل مصطلح الخداع، فليس القصد إصدار حكم قيمة أخلاقي على تيار بعينه؛ إذ يتعلق الأمر بآليات خداع تشبه أقنعة تمويه الرقابة أثناء الحلم وفق التحليل النفسي. مثلاً، يرغب الابن في المشاجرة مع والده، غير أنّ الوالد لا يأتي في الحلم إلّا في صورة ثور على سبيل المثال، حتى لا تصطدم الرغبة الأصلية بالرقابة الذاتية على الرغبات المكبوتة. مثال آخر، يرغب المراهق في ممارسة جنس المحارم مع امرأة لا تأتيه في الحلم إلا في صورة باهتة وغير واضحة، وذلك لكي تأذن لها الرقابة الذاتية على الأحلام بالمرور، وفي النهاية، لأجل تفادي صدمة الضمير.
إنّ ما يحدث في مستوى رغبات الفرد «المحظورة» هو نفسه الذي يحدث في مستوى الرغبات الجماعية للمجتمع أو الحضارة، حيث بوسع آليات اللاشعور الجمعي التحايل على الرقابة الدينية للذات، وهي الرقابة التي يسميها الفقهاء الوازع الديني، فتلجأ آليات اللاشعور الجمعي إلى استعمال أقنعة تخفي الرغبات «المحظورة» وتموه الرقابة الدينية؛ أي أنّها تحتال على الوازع الديني في الأخير.
إنّ الحاجة اللاشعورية إلى التمويه لهي المعطى الذي تستثمره بعض آليات التسويق التجاري على طريقة «السندويتش الحلال»، و«المايوه الشرعي»، و«الطب النبوي»، و«التدليك وفق الضوابط الشرعية»... إلخ. وفي كلّ الأحوال، تكفي ضمانة «حلال» حتى تغيب كلّ الأسئلة حول الضمانات الصحية أو البيئية للمنتوج أو لشروط الانتاج. إنّ القابلية للتمويه لهي أيضاً المعطى الذي تستعمله آليات الدعاية السياسية على طريقة «الحزب الإسلامي»، و«الدولة الإسلامية»، و«الجماعة الإسلامية»، و«الثورة الإسلامية»... إلخ، حيث تغيب أهم الأسئلة حول البرامج والسياسات.
هنا بوسعنا أن نتقدم قليلاً في التحليل لكي نضيف معطى بالغ الأهمية:
إنّ الرهان على الإسلام السياسي، ضمن بعض الاستراتيجيات الكونية، لهو رهان أيضاً على إمكانية ترويض اللاشعور الجمعي للمسلمين، الذي يوفر أقنعة المشروعية الدينية للرغبات «المحظورة»، التي لا تتقبلها أنظمة الرقابة الذاتية للمسلمين؛ أي لا يتقبلها الوازع الديني. بمعنى أنّ الدين –على طريقة كارل يونغ- قد لا يكون مجرد مظهر للمرض، بل قد يصير آلية للعلاج، وذلك -كل ذلك- بمعزل عن معايير الصدق والكذب. أو هكذا تنظر بعض الاستراتيجيات الحديثة إلى مسألة الإسلام السياسي. تقوم معقولية هذا الرهان، من جهة أخرى، على مبدأ أنّ الدواء لا يكون إلا من جنس الداء. غير أنّ المعقولية لا تكفي؛ فثمة تفاصيل، وفي التفاصيل تسكن الشياطين.
رأيي في الموضوع أنّ آليات خداع الذات لا يمكنها أن توفر أيّ علاج حاسم، بل كثيراً ما تصير الأمور إلى الأسوأ ولو بعد حين. إنّ الوعي الأكثر حداثة لينتصر اليوم لقاعدة قديمة تقوم على أساس أنّ المصالحة مع الذات هي الكفيلة بشفاء الذات من أمراضها. ما يعني أنّ استعمال الدين لأجل تحقيق مصالحة الإنسان مع ذاته يجب أن يكون مسبوقاً بمصالحة الدين مع الطبيعة البشرية للإنسان. وهذه هي المهمة الأساسية للإصلاح الديني.
لا نحتاج إلى آليات التمويه إلا حين تعوزنا المصالحة مع الذات. والحال أنّ إغفال حالة الانفصام القائمة بين ما نريد، وما نعتقد أنّنا نريد، يجعل الكثير من الاستمارات البحثية والعلمية الموجهة إلى المسلمين قاصرة عن تحديد ما يريده وما لا يريده الإنسان المسلم. لذلك نظن أنّ صيغة السؤال ستكون حاسمة في كلّ الأحوال. فماذا أقصد؟
حين يُسأل المسلم: هل يفضل أن يعيش أبناؤه في نيويورك أو لندن لكي يحققوا أحلامهم؟ فلن يتردّد في الإجابة بنعم. لكن ما إن تتغير صيغة السؤال، وتصبح على النحو الآتي: هل تفضل أن يعيش أبناؤك في الدار البيضاء أو القاهرة لكي يحافظوا على ثقافتهم؟ حتى يجيب أيضاً بنعم. هل يشعر بالتناقض؟ لا. فالإجابات كلها صادقة، وتنطلق من دوافع لاواعية ومتضاربة. مرة أخرى ليس الخداع هنا بمسألة أخلاقية تتعلق بمستويات الوعي والقصد والإرادة، وإنّما هو معضلة صحية تتعلق بمستويات اللاشعور الجمعي. إنّ الخداع متعلق بالحالة الصحية للحضارة برمتها.
تبقىثلاثة توضيحات ضرورية:
أوّلاً، إذا كنا نركز النقد السياسي على الإسلام السياسي دون سواه، فلسنا نبرئ سواه، أو نعدّه معصوماً عن الأخطاء، بل هناك سبب وجيه وكافٍ: سواء قبلنا بذلك أم لم نقبل به، يظل الإسلام السياسي التيار الأكثر تأثيراً في وجدان الشعوب، والأكثر اختراقاً لمؤسسات الدولة والمجتمع المدني، سواءٌ أكان في المعارضة أم في السلطة.
ثانياً، نقدنا للإسلام السياسي هو جزء من استراتيجية النقد الذاتي، التي تتضمن جوانب كثيرة من قبيل نقد الموروث الديني الذي نشترك فيه جميعنا، نقد الخطاب الديني الشائع في مدارسنا ومساجدنا ومجالسنا، وأيضاً نقد لاشعورنا الجمعي الذي ينتظرنا فيه جهد دؤوب.
ثالثاً، إذا كان الإسلام السياسي يتأرجح في تاريخه دوماً بين موقع الجلاد وموقع الضحية، فإنّ ما نرجوه من النقد هو أن يتحرر الإسلام السياسي من دور الظالمية، ومن دور المظلومية، ومن كليهما معاً على حد سواء.
بادئ ذي بدء:
في آليات الخداع
أكون بصدد استعمال آليات الخداع في الإقناع في الحالات الآتية:
- حين أذكر في كلامي بعض الأسماء غير المعروفة، أو بعض الأرقام غير المتداولة، التي يصعب التحقق منها في الحال، أو أنّي أذكرها بنحو يجعل التحقّق من صحّتها أمراً بالغ الصعوبة والتعقيد ولو بعد حين، لكنّي أبني عليها في الحال مواقف قطعيّة ونتائج نهائية.
- حين أذكر أسماء مبنية للمجهول على طريقة (اكتشفت إحدى المختبرات العلميّة... اعترف أحد عقلائهم... أخبرني أحد التقاة... إلخ)، وأتوقّع التسليم بالمعطى طالما لا يمكن تفنيده في الحال، بل لا يقف الأمر عند هذا الحد وإنّما أحاول أن أستنتج من تلك المرويات خلاصات حاسمة.
- حين أنطلق من فرضية أولى، وأعترف ابتداء بأنّ الأمر مجرّد فرضية قابلة للاختبار، لكني بدل اختبارها سرعان ما أستنتج منها فرضية ثانية، ثم ثالثة، وهكذا دواليك، إلى أن أدعي لنفسي إنشاء نظرية قائمة الأركان.
- حين أنتقي بعض المعطيات القليلة وغير المكتملة، وأبني عليها أحكاماً نهائية على طريقة (ما يصدق أحد أجزائه تصدق جميع أجزائه)، وهو منهج لا يصح في كل أحواله.
- حين يعرض عليّ أحدهم عشرات الحجج، ثم أنتقي أضعفها، وبعد أن أطعن فيها كيفما اتفق، أستنتج بطلان الأطروحة بأكملها على طريقة (ما بطل بعضه بطل كله)، وهي مغالطة فقهية بكل تأكيد.
- حين أجعل الفشل في البناء ذريعة لادعاء فشل فكرة البناء نفسها، على منوال من يجعل فشلنا في بناء الحداثة دليلاً على فشل الحداثة، وفشلنا في بناء الدولة الوطنية دليلاً على فشل الدولة الوطنية، وفشلنا في بناء المعرفة العلمية دليلاً على فشل العلم المعاصر، وفشلنا في الاندماج في الحضارة المعاصرة دليلاً على فشل الحضارة المعاصرة، فأنا بهذا المعنى أمارس التضليل. لماذا؟ لأنّ الأصل أنّ الفشل في البناء ليس دليلاً على فشل فكرة البناء، كما أنّ الفشل في الإبداع ليس دليلاً على إفلاس الإبداع، والفشل في الإصلاح ليس دليلاً على استحالة الإصلاح، والفشل في الحب ليس دليلاً على عدم إمكانية الحب. بلغة بليغة نقول: فشل المحاولة لا يعني الاستحالة.
- حين أستحضر نظرية المؤامرة لأجل تفسير كلّ شيء، وأيّ شيء، ولا شيء، ثمّ أجعل من غياب الدّليل على الدعوى دليلاً على قوة المؤامرة.
- حين أبحث عن أيّ قاسم مشترك قد يكون، أو لا يكون، بين معطيين لا تربط بينهما غير المصادفة، وأستنتج في الحال أنّ من المحال أن يكون ذلك مصادفة! أو أطرح السؤال: لماذا في هذا الوقت بالذات؟ وهو سؤال ملغوم في كلّ الأحوال.
- حين أردّ على من ينتقد سلوكاً مستشرياً عندنا بحجّة أنّ غيرنا قد يفعل مثل ذلك ولو في بعض الأحيان، ومن ثَمَّلا داعي لتركيز النقد على ذواتنا؛ أو حين أردّ على من ينتقد عنف الذات هنا الآن بالسؤال، ولماذا لا تنتقد عنف الآخر هناك أو هنالك أو في الماضي القريب، أو حتى في الماضي البعيد!؟
- حين أصف الآيات القرآنية التي لا تعجبني بأنّها منسوخة، وأصف الأحاديث التي لا ترضيني بأنّها ضعيفة أو موضوعة، وأجعل التراث الذي لا يروق لي ضمن الإسرائيليات، وما إلى ذلك من حجاج من لا حجة له.
-حين ألجأ إلى قياس أيّ شيء على أيّ شيء، دون معايير مقنعة. كأن أجعل دية المرأة نصف دية الرجل قياساً على أنّ إرثها نصف إرث الرجل، كما فعل معظم الفقهاء القدماء؛ أو أشرعن الفائدة المترتّبة على التأخر في أداء أقساط القرض بالنسبة إلى البنوك المسماة اليوم البنوك الإسلامية، قياساً على مشروعية التعزير بالمال، وما إلى ذلك من أقيسة لا دليل لها سوى أنّها تَعدّ نفسها نوعاً من القياس.
- حين أراهن على إثارة الحزن والغيرة والغضب والإحساس بالذنب، بديلاًللاستدلال، وأكثر من عبارات البسملة والحمدلة والحسبلةوالحوقلة أثناء الكلام، ولا أكون واضحاً في التعبير عن آرائي إن كانت لي آراء بالفعل.
- حين أمثل حزباً من أحزاب الإسلام السياسي فأستعمل مفاهيم الحداثة والعقلانية والحرية وحقوق الإنسان في حواراتي الإعلامية، ولاسيما مع الصحافة الغربية، ثمّ لا يكون لتلك المفاهيم أيُّ أثر يُذكر في القوانين الداخلية للحزب الذي أمثله، والحال أنّ من آفات السياسيين والإعلاميين اهتمامهم بالتصريحات أكثر من اهتمامهم بالوثائق. لكن لا عذر للباحثين الأكاديميين في إهمال الوثائق. وهذا ما أنبّه إليه على الدوام.
آليات الخداع في الإقناع، منهج الأصوليات والشموليات في سعيها إلى السيطرة، وهي التي ترى لأجل ذلك أنّ الغاية تبرر الوسيلة، بل ترى الإنسان نفسه مجرد وسيلة لخدمة غايات كبرى تتجاوزه، سواء أكانت غايات مادية أم غيبية. لذلك تعتقد الأصوليات والشموليات أنّ دور المثقف ليس إعمال العقل طالما الحقيقة مطلقة وقابلة للتلقين، وإنّما دوره مقتصر على الدعاية والإقناع، وهو ما يقابل الدعوة والتبليغ في الإيديولوجيا الدينية.
الخدائع المؤسسة للإسلام السياسي امتداد لثقافة الحيل الفقهية؛حيث يكفي التلاعب ببعض المعاني والألفاظ حتى يصبح الحرام حلالاً، والحلال حراماً. تكفي بعض الشطحات التأويلية حتى يصبح المحظور مباحاً، والمباح محظوراً. يكفي اليوم، على سبيل المثال، تحميل بعض مقتضيات الحداثة بعض الأسماء «الشرعية» حتى نحصل على حداثة حلال زلال على منوال «البنك الإسلامي»، و«المايوه الشرعي»، و«السندويتش الحلال»، و«الطب النبوي»، و«الرقص الحلال»، وهلم جرا.
ليست «أسلمة الحداثة» سوى خداع مفاهيمي من العيار الثقيل؛ لأنّها تعني إمكانية التحايل على جوانب الحداثة التي لا نستطيع مقاومتها، من قبيل اعتبار الضريبة نوعاً من الزكاة، والانتخابات نوعاً من الشورى، والعمل السياسي نوعاً من الدعوة. وكذلك من قبيل إمكانية أن تسبح المرأة في الشاطئ أو المسبح، بعد أن نُجري على لباس السباحة تعديلاً في مستوى الصورة، فيُستبدل بالبيكيني البوركيني. اليوم، في معركة البوركيني (المايوه الإسلامي) ضد البيكيني (المايوه الحداثي) يصطف جمهور الإسلام السياسي خلف البوركيني، على الرغم من أنّه لم يرد في أيّ قاموس من قواميس السلف أو الخلف. لقد انطلت الحيلة على الذات. وكذلك الحال بخصوص إمكانية شراء السيارة بقرض بالفائدة وفق مستلزمات المعاملات الحديثة، لكن بعد أن نُجري تعديلاً طفيفاً في لغة الاستقبال، ثمّ نسمّي الفائدة بالمرابحة، أو نستعمل التعبير الرائج بينهم اليوم، «الكراء المفضي إلى تملك السيارة». اليوم في معركة المرابحة (البنك الإسلامي) ضد الفائدة (البنك الحداثي) يصطف جمهور الإسلام السياسي خلف المرابحة، على الرّغم من أنّها ليست ضمن قواميس القروض سواء في منظومة الشريعة أم منظومة الحداثة. يكفي العثور على العبارة المناسبة حتى تنطلي الحيلة على الذات. وفي حقل النوايا متسع لخداع النفس قبل خداع الغير.
وكذلك القول عن المصطلحات التلفيقية من قبيل «فقه الفلسفة»، و«علم النفس الإسلامي»، و«حقوق الإنسان في الإسلام»... إلخ. وهي مصطلحات لا تنتمي إلى الشريعة ولا إلى الحداثة، إنّها مجرّد مخلوقات مشوّهة لا تعمر طويلاً؛ لأنّها ثمرة حمل غير صحي بين فصائل غير قابلة للتزاوج، أو على اعتبار المهمة تُركت في الأساس لطب العطارين، وما شابه ذلك.
أخيراً، يندرج الإحراج بالدين هو الآخر ضمن آليات الخداع في الإقناع. وأذكر بعض الأمثلة السريعة:
-رجل دين مثير للجدل منعته المملكة العربية السعودية من دخول أراضيها، وكان يريد إلقاء “محاضرة” أو “خطاب” أو لستُ أذكر. المهم في هذه النازلة أنّ الرّجل بدل أن يناضل من أجل “حقه” بنزاهة وشفافية قد قرر أن يداور ويناور ويلجأ إلى حيلة الإحراج الديني، فتقدم بطلب تأشيرة لأداء مناسك العمرة، وعندما رُفض طلبه نشر بكائيات على «تويتر» من قبيل: اللهم احتسبها لي عمرة حرموني منها، وإلى آخر العويل.
-حيلة أخرى شائعة في أوساط الفصائل “الجهادية” للثورة السورية المنكوبة، والمقاومة “الإسلامية” المنهكة في غزة، تتعلق بمشاهد إطلاق النار من داخل المساجد، حتى إذا قام العدوّ بقصف مصدر إطلاق النار وانهارت المئذنة علت أصوات الندب والنحيب على بيوت الله التي تُهدّم وحرماته التي تُنتهك، إلى آخر العويل.
-تنظيم إسلامي مغربي (صائم عن السياسة احتجاجاً على السياسة!) انتظر فرصة سانحة للعودة إلى الشارع، بعد أن غادره، ابتغاء مرضاة حزب إسلامي آخر (غير صائم) فائز في الانتخابات، فلم تأتِ المناسبة. ففكر ودبر وقدر وانتظر العشرية الأخيرة من شهر رمضان ليطالب بحقّ أعضائه المسلمين في ممارسة شعيرة الاعتكاف لأجل الصلاة في مساجد الله. حتى إذا مُنع سُمعت أصوات النحيب على ضياع الدين، إلى آخر العويل.
صحيح أنّ السياسة هي أن تلعب أوراقك كما تشاء، غير أنّ الدين ليس أوراقاً للعب. أليس كذلك؟!