وثيقة الإخاء الإنساني و شبهات المشككين
الثلاثاء 09/فبراير/2021 - 02:18 م
طباعة
في فبراير ٢٠١٩ نظّم مجلس حكماء المسلمين بالعاصمة الإماراتية أبوظبي "المؤتمر العالمي للأخوة الإنسانية" بمشاركة من الأزهر الشريف، والكنيسة الكاثوليكية، اللذين أعلنا خلال المؤتمر عن وثيقـة "الأخــوة الإنســانية من أجل السّلام العالمي والعيش المشترك"؛ في محاولة لاستعادة وجه الأديان السمح ودورها الفاعل في نشر ثقافة الحوار وقيم التسامح والحرية والعدل والسلام والعيش المشترك، وترسيخ مفهوم المواطنة الكاملة في مجتمعاتنا، والتّخلي عن الاستخدام الإقصائي لمصطلح "الأقليات" الذي يحمل في طيّاته الإحساس بالعزلة والدُّونية، كما أكّدت الوثيقة على ضرورة التَّصدي للإرهاب، وحماية دُور العبادة من معابد وكنائس ومساجد، والسّعي الجدّي لوقف ما يشهده العالمُ حاليا من حروب وصراعات وتراجع مناخي وانحدار ثقافي وأخلاقي.
فعالمنا اليوم به ملايين البشر الذين لا يعرفون من معاني الحياة سوى أنّها "طريق الآلام"، فتُشير الإحصائيات إلى أنّ أكثر من ٨٢٠ مليون شخص لا يجدون طعام يومهم، وأنّ ما يقرب من ٧٨٠ مليون شخص تحت خط الفقر، وأنّ أكثر من ٧٠ مليون لاجئ مشردون بلا وطن، وإلى جانب تلك المشكلات الناجمة عن غياب العدالة الاجتماعية، ثمّة مشكلات بيئية تُهدد مستقبل البشرية بجعْلِ العالم مكانًا غير صالح للحياة بسبب التّغير المناخي، والاحتباس الحراري، هذه المشكلات وغيرها فسّرتها منظمات عالمية مثل منظمة الأغذية والزراعة (الفاو)، ومؤسسة المعونة الغذائية، والمفوضية السّامية للأمم المتحدة لشؤون اللاجئين بغياب السلوكيات الأخلاقية للحكومات والمجتمعات، فمن أهمّ أسباب أزمة العالم اليوم غياب الضمير الإنساني، وتراجع القيم الرُّوحيّة وضعف الشعور بالمسؤولية؛ وشيوع شعور عام بالإحباط والعزلة واليأس، مما يجعلنا في حاجة إلى صحوة أخلاقية، فـ"الأخلاق في صميمها معارضة للأنانية البيولوجية، وإنكار لإمكان تحقق "خلاص" الفرد أو "نجاته" باعتباره فردا مستقلا قائما بذاته، وكلّ ما من شأنه أن يعمل على إحلال التوافق والمشاركة والاتحاد، محل التنازع والصراع والاختلاف، لابد من أن يُمثل في حركة التاريخ التقدمي للإنسانية عاملا فعّالا من عوامل التّرقي الأخلاقي".
وتُعيد تلك المبادرة المؤسسية التي أطلقها (مجلس حكماء المسلمين) إلى الذهن المبادرة الفردية التي أطلقها إمام الجامع الأزهر الشيخ محمد مصطفى المراغي (١٨٨١-١٩٤٥) في أبريل ١٩٣٩م قبيل نشوب الحرب العالمية الثانية بخمسة شهور داعيا فيها إلى ضرورة تصدّى أتباع الديانات لدعوات العنصرية المشعلة للحروب بدعوات الحبّ والتسامح والإخاء، مؤكداً على حاجة الأمم بعضها إلى بعض في تحقيق مطالبها الاقتصادية والمدنية والعلمية والرّوحية، وأنّ الإخاء الإنساني ليس نظرية فلسفية، بل هي حاجة طبيعية تولّدت في النوع البشري منذ بدايته، مؤكداً على أهمية الأديان في تعزيز الأخلاق والسّلم العالمي ومواجهة العنصرية في مختلف صورها، فالأديان متى تسامحتْ، وتعايشتْ كانت قادرةً على طمأنة الإنسان، والارتفاع به إلى ما فوق الاعتزاز باللون والدّم والطّبقية والثّروة، ومغالبة الحقد والحسد والأنانية، ومدّ الإنسان بمبررات لحبّ الحياة والعمل على الاستمرار فيها.
مضت عشرات السنوات أصبح خلالها إنسان القرن الحادي والعشرين أكثر استعدادا لتوسيع آفاقه الذهنية والنفسية ممّا كان عليه أسلافه؛ ليُدرك أنّ الاتحاد والتوافق لا الصراع والانقسام هو معيار التّقدم البشريين، فلم تقُم الحضارات منذ بدايتها إلى اليوم إلا على تلك الثقة الضمنية الكلّية في إمكان تحقيق وحدة مشتركة وتبادل خبرات بين الموجودات البشرية، بوصفها كائنات حرّة مسؤولة.
فصدور الوثيقة عن مؤسسات دينية بمكانة الأزهر والكنيسة الكاثوليكية يمنح مواثيق حقوق الإنسان شرعية دينية وشعبية في لحظة تاريخية تُواجه فيها المواثيق الدولية لحقوق الإنسان تآكلا مستمرا، لا يُجدي معه الاحتجاج بنصوص قانونية دولية ومحلية ليس لها، بعدُ، وجود في ثقافة الشارع العربي الذي يُشكّل الخطاب الديني فكره ووجدانه. كما أنّها تُمثّل إسهاما حقيقيا يُمكننا أن نبني عليه في تجديد الخطاب الثقافي في المنطقة العربية الذي أفسده خطاب جماعات "التمايز بالإسلام عن المسلمين"، فالخطاب الديني جزء من الخطاب الثقافي العام في أي مجتمع، يزدهر بازدهاره، فيكون منفتحا وتحرريا وإنسانيا بقدر ما يكون الخطاب الثقافي العام كذلك، وحين يختنق الخطاب العام، ويسوده التعصب، وتحكمه معايير اللاعقلانية والتمترس خلْف هُوية تُعادي الآخر، وتكره الاختلاف يُصاب الخطاب الديني بذات الداء: التعصب، واللاعقلانية، وكراهية الاختلاف، والعداء للآخر.
بيدَ أنّ دعاةَ التشاؤم في عالمنا العربي يُقلّلون من أهمية الوثيقة، ويُفسّرون محاولات التّلاقي الفكريّ والعمل المُشترك بأنّها مؤامرات كونية ماسونية على الإسلام، فيروّج جانبٌ منهم لأفكار صدامية لا تقلّ عن أفكار صامويل هنتنجتون "Samuel Huntington" في نظريته "صراع أو صدام الحضارات" مستبعدين أيّ معاني للإخاء الإنساني، فلا تختلف نظرتهم عن النظرة السوداوية للفيلسوف الإنجليزي "توماس هوبز" "Thomas Hobbes"، الذي جعل الإنسان ذئبا لأخيه الإنسان مستدلا بالآلام التي يُحدثها الإنسان لغيره من الموجودات البشرية وغير البشرية، دون أن يتلفت مردّدو تلك المزاعم إلى أنّ الإنسان ابتدع اللغة، والفن، والعلم، والفلسفة، وشتى ضروب التواصل بُغية إقامة جسور تربطه بعالم الآخرين، فالإنسانية السويّة "شعور عميق بالحاجة إلى الخروج من الذات، والعمل على التماس الحقيقة الدفينة الكامنة في أعماق ذوات الآخرين"، وإذا كان ثمّة دليل قاطع على إمكانية الإخاء الإنساني، فما ذلك سوى ما يشهد به الواقع نفسه من إمكان قيام "تواصل روحي" بين بنى البشر قاطبة في كل زمان ومكان عبر نص أدبي أو لحن موسيقي.
وإن كنّا نُسلّم بأنّ عالمنا المعاصر يحكمه منطق القوة، إلا أن هذا لا يدعونا إلى الاستسلام لمبدأ "العدمية" الذي يُوحّد بين حركة التاريخ وقوة الجانب المنتصر، فعلينا ألا يعمينا منطق القوة عن رؤية الوجه الآخر للإنسانية المعاصرة التي سارت فعليا على درب الإخاء عندما وضعت مواثيق حقوق الإنسان، وعندما حظرت استخدام أسلحة الدمار الشامل التي قد يصطنعها الإنسان المُعاصر في حروبه واشتباكاته وشتى مظاهر صراعه، فالعمل الإنساني المشترك على منع تداولها دليل قاطع على أنّه إذا كانت الإنسانية ما تزال على قيد البقاء، فليس ثمة "نوع بشري" يقف وراء ذلك، بل هناك "إنسانية" قد أخذت على عاتقها أن تُنصب من نفسها حارسة على القوى النووية، وأن تضطلع بمسؤولية حياتها وموتها..
فإذا أرادت الإنسانية لنفسها البقاء، فليس أمامها سوى أن تسير على درب الإخاء الإنساني، ولا نعني به الاندماج التام والانصهار الكامل والاتحاد المطلق في قطيع مُتجانس، وإنّما تحقيق مشاركة حقيقية بين ذوات حرّة، تُعطى وتَأخذ، وتُؤثر وتتأثر، فالإخاء الإنساني لا يخضع لحتمية قانون طبيعي، وإنّما هو "معيار" نُسهم نحن بإرادتنا في العمل على تحققه، و"قيمة" نعمل نحن بحريتنا على تثبيت دعائمها في عالمنا الإنساني، فمهما كان من أمر تلك المواجهات التي تدفعنا إليها فوارق الطبقات والعصبيات والقوميات، ومهما كان من أمر الخلافات التي تنشب بيننا إلا أنّه ليس ثمّة مبرر لليأس من الإنسان، طالما بقيت البشرية قادرة على تحقيق نوع من "التواصل" والتجاوب والتفاهم، فهذا خير دليل على أنّه يُمكننا المضي في سبيل تحقيق مزيد من التوحد والتكتل والعالمية لمعاني الإخاء الإنساني.