دراسة جديدة تناقش الميليشيات الموالية لإيران وتحديات استقرار العراق
الثلاثاء 02/مارس/2021 - 04:04 م
طباعة
حسام الحداد
الأزمات العراقية المتلاقحة وفشل الحكومات المتعاقبة في بناء الدولة الوطنية، وغيرها من الأسباب التي أدت في النهاية من تكين ايران من تبنّي استراتيجية تشكيل الميليشيات الطائفية بتوجهاتها الحركية المتنوعة، وعبر هيكلية تشبه البناء التنظيمي لـ "الحرس الثوري الإيراني"، وجعلها أذرعاً عسكرية تتحرك استجابة لمصالح طهران في الداخل العراقي.
حول هذا الموضوع تدور الدراسة المهمة التي قامت بها د. هدى شاكر معروف لمركز تريندز والتي نشرها مؤخرا تحت عنوان "الميليشيات الموالية لإيران.. تحديات تواجه استقرار العراق"
تقول الدراسة عن حجم الميليشيات: "يتواجد اليوم جراء هذه الاستراتيجية الآلاف من مقاتلي الميليشيات العراقيين حول الموصل وصلاح الدين وفي الأنبار، وهناك فصائل يشرف عليها مستشارون تابعون للحرس الثوري الإيراني، وتتمركز في نقاط التواصل التي تربط المحافظات ذات الكثافة السنّية بتلك التي تقع في الجنوب لتأمين الدعم والتزويد بالمعلومات وتنفيذ العمليات الاستطلاعية".
حيث جعلت إيران من العراق منطلقاً لخدمة استراتيجياتها وركيزة أساسية لبنيتها الأمنية الإقليمية، وتوظيف هذه الميليشيات لشنّ حروب بالوكالة كما هو الحال في سوريا والعراق واليمن وغيرها. ويعكس تضخم نشاط هذه الميليشيات المدعومة من إيران، حالة التصدع التي يعاني منها البنيان المؤسساتي الرسمي في العراق بعد عام 2003، والتي أدت إلى انتشار الأجنحة العسكرية الطائفية، رغبة من طهران في إعادة رسم حدود السياسة والمصالح والقوة في عراق ضعيف ومحدود التأثير في محيطه الإقليمي والدولي، جراء ما تمتلكه هذه الميليشيات من قوة ونفوذ يفوق إمكانات الدولة وقدراتها.
وبشكل عام، تتبنى الاستراتيجية الإيرانية في العراق عدداً من المبادئ لعل من أهمها:
الحفاظ على وحدة العراق وتجنب انزلاقه نحو عدم الاستقرار والتفكك، وفي الوقت نفسه بث الفوضى بالقدر الذي يمكن التحكم فيه وإيجاد إرباك واضطراب طويل الأمد مسيطر عليه، بشكل يجعل العراق في حاجة مستمرة إلى الدعم الإيراني؛
بقاء الحكم بيد الشيعة، وتشجيع الديمقراطية الانتخابية كوسيلة لترسيخ الحكم الشيعي، والحد من تعرضه لمخاطر قد تفضي لإضعافه؛
إشغال الولايات المتحدة، وهو الأهم، بالعراق ووضعها تحت طائلة الضغوط والإحراجات، وصولاً لحملها على الانسحاب من البلاد أو تقديم تنازلات لطهران في ملفات أخرى؛
ونسج علاقات مع مجموعة واسعة من الجهات الفاعلة العراقية المتنوعة والمتنافسة في كثير من الأحيان، والاعتماد عليها في تقليل المخاطر التي يمكن أن تواجه إيران في لحظة معينة، جراء تدخلها في المشهد العراقي.
وعن مشروع التمدد الطائفي تقول الدراسة: "يجري الحديث اليوم عن مشروع إيراني جديد – قديم ويعد امتداداً لمشروع الهلال الشيعي، طرحه مؤخراً قائد الحرس الثوري الإيراني الأسبق محسن رضائي وأطلق عليه "الحزام الذهبي الإيراني" في منطقة الشرق الأوسط؛ يراد به ترسيخ الاستحواذ على مقدرات منطقة تمتد من إيران، إلى سوريا، ولبنان، وأفغانستان، واليمن، ومنطقة البحر الأبيض المتوسط. وإحكام السيطرة عليها ومراقبة تفاعلاتها.
وكان علي يونسي، مستشار روحاني، قد عبر عن هذا الطموح في مارس 2015، حينما أعلن قائلاً: "إن إيران أصبحت إمبراطورية كما كانت عبر التاريخ، وعاصمتها بغداد حالياً، وهي مركز حضارتنا وثقافتنا وهويتنا اليوم كما في الماضي"، وهو ما يدلل على قناعة رسمية تدفع باتجاه تعديل الحدود على يد الميليشيات الحليفة لطهران، ليمتد الوجود الإيراني إلى البحر الأبيض المتوسط والبحر الأحمر، بعد أن تمكن من السيطرة على أربع عواصم عربية هي: دمشق، وبيروت، وصنعاء، وبغداد.
ومن هنا، يمثل الحزام الشيعي والقومية الفارسية حجر الزاوية للأمن القومي الإيراني من خلال مزج الدين بالأمن وصولاً للتغلب على تركيبة البلاد العرقية والدينية المعقدة، وتعزيز هيمنة إيران الفارسية على منطقة الخليج العربي وشرق المتوسط، وضمان الاعتراف الإقليمي والدولي بهذا التمدد؛ ولهذا، فإن رعاية الميليشيات الطائفية يخدم مبدأ "تصدير الثورة" و"إقامة الدولة الطائفية" التي لا تقتصر على حدود إيران فحسب، بل تمتد لتشمل أماكن أخرى من العالم وتحديداً الدول المجاورة لها.
فالوجود الثيوقراطي الشيعي المسلح الذي تمدد في أماكن متعددة أُريد به أن يكون وكيلاً لإيران، يتلقى عنها الصدمات ويقوم بتنفيذ ما يُطلب منه، فعلى سبيل المثال يعد "حزب الله" اللبناني أول من نفذ عمليات انتحارية، أضحت في ما بعد نهجاً طبقته الكثير من الجماعات الجهادية؛ ولعلّ الأهم هنا، أن إستراتيجية طهران تعتبر العراق منطلقاً لإنشاء جسر بري يمر بسوريا ومنها إلى لبنان، بقصد ترسيخ الوجود الإيراني في المنطقة من جهة. وتسهيل حركة الميليشيات العسكرية ونقل الأسلحة والمعدات العسكرية عبر هذا الرابط البري من جهة أخرى لتنفيذ المهام الموكلة بها.
ففي بدايات عام 2020، وخلال الحملة العسكرية الحكومية في محافظة إدلب شمال غرب سوريا، تم إرسال حوالي 400 من قوات الحشد الشعبي العراقية لهذه الجبهة مستخدمين هذا المعبر الحدودي بعد انسحاب القوات الأمريكية من قاعدة القائم منتصف مارس 2020 وهو ما زاد من قدرة إيران على المناورة في المنطقة والتحرك دون عوائق.
وجاءت تأكيدات يحيى رحيم صفوي القائد الأسبق للحرس الثوري مُعبرة عن هذه التطورات؛ فإيران اليوم مشرفة على سواحل البحر الأبيض المتوسط الشرقية من خلال الوجود المباشر وعبر الخط البري الذي أنشأته من العراق مروراً بسوريا وصولاً إلى لبنان.
الميليشيات والاحتجاجات
وتقول الدراسة أن الميليشيات الطائفية تم استخدامها بقوة ضد احتجاجات الشباب العراقي الذي خرج في الأول من أكتوبر 2019 إلى الشوارع للمطالبة بالحد من التدخلات الإيرانية وإنهاء الفساد المستشري وإيجاد حلول للبطالة المزمنة، إذ احتل العراق المرتبة 162 من أصل 180 دولة على مؤشر الفساد ضمن تصنيف منظمة الشفافية العالمية، وطالب المتظاهرون بالإطاحة بطبقة سياسية تعتبر فاسدة وتخدم قوى أجنبية، في الوقت الذي يعاني فيه كثير من العراقيين من الفقر والبطالة وغياب الرعاية الصحية أو الخدمات التعليمة.
والأخطر من هذا أن بعض هذه الفصائل "الولائية" كثفت من عمليات قتل النشطاء وخطفهم، دون أن تتحرك الحكومة باتخاذ إجراءات عقابية ضدها، واليوم يتحدث العراقيون عن دولتين متوازيتين - واحدة بحكومة ضعيفة لن تقوى على تحقيق الوعود التي أطلقها رئيس الوزراء لجهة مكافحة الفساد، والأخرى قوية وتدار تحت نظر الميليشيات واستجابة لمصالح الجانب الإيراني؛ وبحسب رمزي مارديني فإن الميليشيات المسلحة في العراق، متشابكة مع الدولة وتمارس نفوذاً سياسياً معها، الأمر الذي يلغي الحدود بينهما.
وعن تضخم الميليشيات تقول الدراسة "وتحاول حكومة الكاظمي اتخاذ قرارات مستقلة، وتعزيز مكانة الحكومة وتحجيم الميليشيات وإخضاع كل الجماعات المسلحة في العراق لسلطة الدولة، واتخذت في سبيل ذلك العديد من الإجراءات المهمة من بينها إجراء تغييرات واسعة في القيادات المدنية والعسكرية لتقوية قوات الأمن ومحاربة الفساد الذي يمثل شريان الحياة الاقتصادي للميليشيات المنفلتة، ومن ذلك: اختيار الفريق عبد الوهاب الساعدي رئيساً لجهاز مكافحة الإرهاب، وتغيير قيادة البنك المركزي العراقي والمؤسسات المالية الأخرى للحد من الفساد المستشري فيها لسنوات.
ورغم الجهود التي تقودها حكومة الكاظمي لإنها فوضى هذه الميليشيات واستعادة الأمن والاستقرار فإن النتائج تبدو محدودة حتى الآن، في ضوء العديد من المؤشرات التي تُظهر استمرار انفلات هذه المليشيات واستهانتها بالحكومة، ومن ذلك: رفض الميليشيات دعاوى تسليم السلام وحصره في أيدي القوات الحكومية؛ ففي أول بيان لـ أبو حسين الحميداوي، أمين عام ميليشيا كتائب حزب الله في العراق، الذي صدر بالتزامن مع مرور عام على مقتل قاسم سليماني أبو مهدي المهندس، وصف سلاح هذه الميليشيات بأنه: "أكثر شرعية وعقلانية من أرقى الجيوش والمؤسسات العسكرية"، مشيراً إلى أن السيلاح "سيبقى بأيديهم إلى أن يشاء الله، ولن يسمح لأحد -كائناً من كان- أن يعبث به"، حسب تعبيره.
وبشكل عام، وبحسب ما تم استنتاجه من سنوات خلت، فإن الإجراءات التي اتخذتها حكومة الكاظمي لن تجعل هذه الميليشيات "الولائية" تتراجع. ومن السذاجة الاعتقاد بأن كتائب حزب الله والميليشيات العراقية المماثلة - مثل "عصائب أهل الحق" و"حركة النجباء" و"سرايا الخراساني" - سوف تتخلى عن أسلحتها طواعية أو من خلال المفاوضات وتتنازل دون ضغوط حقيقية تجبرها على ذلك.
وتختتم الدراسة بأن مشهد التنافس بين الميليشيات الشيعية يبرز واضحاً في مرحلة ما بعد قاسم سليماني ؛ فالنهج الذي اتبعه قائد فيلق القدس السابق كان يقوم على فرض الإرادة الإيرانية بطريقة صارمة، يعجز خليفته عن إتقانه بسبب "افتقاره إلى الكاريزما والعلاقات الشخصية"، وبحسب تقارير صحفية فإن قاآني فشل في إقناع الكتل النيابية الشيعية في العراق لاختيار مرشح لمنصب رئيس الوزراء موال صراحة لإيران ومعارض للولايات المتحدة؛ ولعل تشكيل جيل جديد من الميليشيات المقاتلة الأكثر تطرفاً والاستثمار فيها على غرار "عصبة الثائرين" و"أصحاب الكهف" من أجل التصدي بشكل أفضل للوجود الأميركي، ويعبر في الوقت نفسه عن محاولة إيرانية في استعادة نفوذها على هذه الميليشيات.
وتخلص الدراة إلى أنه ستظل الميليشيات الطائفية في العراق وغيرها من الدول تعمل على تعزيز المصالح الجيوستراتيجية لطهران، وسيظل وجودها يُشكل تهديداً لهيبة الدولة وقدرتها على اتخاذ القرار ورسم السياسات. وأغلب الظَّن أن إيران ستستمر في دعم هذه المليشيات سعياً منها إلى تعظيم نفوذها في الدول التي يوجد فيها ميليشيات موالية لها، وهو ما يحملها على المطالبة بالانسحاب الأمريكي الكامل من العراق، والسعي إلى مزيد من الإمساك بالقرار اللبناني، مع استخدام أوسع للوكيل الحوثي في البحر الأحمر.
بالمقابل، تبدو الحكومة العراقية عاجزة عن مواجهة أنشطة الميليشيات المدعومة إيرانياً، والتي تعبث بالملفات الأمنية والسياسية والاقتصادية في البلاد، وليست لديها القدرة على حصر السلاح بيدها، وستستمر هذه الميليشيات في تقويض جهود الاستقرار، للإبقاء على نفوذها وتعزيز سيطرتها على الاقتصادات غير المشروعة، ناهيك عن تقوية تمددها خارج الحدود، ما لم يتحرك المجتمع الدولي لدعم الحكومة العراقية لوقف خطر هذه الميليشيات.
إن وكلاء إيران بمنزلة شريان الحياة لها، يدافعون عن مصالحها ويقاتلون من أجل تمددها في حروب الوكالة، وتوظيف فراغات القوة والسلطة لتقوية نفوذها الإقليمي.