ميريت الثقافية تبحث الخطاب الاصولي لمسيحيو الشرق
الثلاثاء 03/أغسطس/2021 - 12:08 م
طباعة
روبير الفارس
صدر العدد رقم (32)- أغسطس 2021، من مجلة "ميريت الثقافية"، الشهرية الإلكترونية التي تصدر عن دار ميريت ويراس التحرير سمير درويش.
يحتوي العدد على ملف بعنوان "لماذا يرفض مسيحيو الشرق تجديد خطابهم الأصولي؟"، ويتضمن ثمانية مقالات: المسيحية في مصر للقاص والروائي رءوف مسعد، وتجمدت الأرثوذكسية عند خلقيدونية لمؤمن سلام، المسيحيون الشرقيون في بلاد الغرب للدكتور ماجد عزت إسرائيل (مصري- ألمانيا)، الأصولية المسيحية بين الحاجة والرفض للتجديد الديني لعصام الزهيري، قراءة في التاريخ وتفهم واستقراء للحاضر والمستقبل لأيمن عجمي (مصري- أمريكا)، الحروب الصليبية وكرنفال الاستقطاب الدينى للدكتور محمد فياض، أقباط المهجر ودور الكنيسة لفرانسوا باسيلي (مصري- أمريكا)، وهل كانت هيباتيا ملهمة نور أم رسولة ظلام؟ لسمر لاشين.
الافتتاحية التي يكتبها رئيس التحرير في موضوع الملف نفسه جاءت بعنوان "صراع الأصوليات.. عن رفض مسيحيي الشرق مبدأ الفصل الغربي!"، ومنها: "إذا كان المسلمون في لحظة الضعف التي يمرُّون بها، يحاول نفر منهم أن يعيد تأويل بعض الموروث القديم، ويحاول إيجاد مبرِّرات للخطابات التي تلائم اللحظة الراهنة، فما الذي يمنع مسيحيو الشرق من ذلك، بالرغم من أن الغرب تجاوز هذه الإنتاجات القديمة، وانطلق باتجاه مزيد من الحرية والديمقراطية واحترام حق الغير في اعتقاد ما يشاء؟".
ومن مقالات الملف أقباط المهجر ودور الكنيسة للكاتب فرانسوا باسيلي وجاء فيه
البدايات
"فاذهبوا وتلمذوا جميع الأمم وعمدوهم باسم الآب والابن والروح القدس"
هذه هي الآية الانجيلية الواردة في انجيل متي والتي علي أساسها ذهب تلاميذ السيد المسيح يبشرون برسالة الخلاص إلي أنحاء المسكونة، وأهمية كلمة "وعمدوهم" هنا هي أن الإيمان والعبادة المسيحية تبدأ بطقس المعمودية، أي تغطيس المولود في الماء ثم اخراجه منه كرمز للولادة الثانية كمسيحي، ومن هنا كانت أهمية وجود كنيسة كبناء فعلي وليس فقط كجماعة المؤمنين، وهو التعريف الأصلي لكلمة "كنيسة"، وعليه كان إهتمام المسيحيين ببناء الكنائس، فيكاد أن يكون من المستحيل عليهم ألحياة كمسيحيين دون تعميد أولادهم في معمودية ودون بقية الطقوس الأساسية كطقس التناول الذي يستدعي وجود هيكل وفي وسطه مذبح يقدم عليه قربان ذبيحة الجسد.
لكن إنتشار الكنائس في العالم، بما في ذلك في أمريكا والمهجر بشكل عام، لم يكن فقط تنفيذاً للآية الوصية، ولا للأهمية القصوي لدور الكنيسة الديني، ولكن أيضاً لدورها الإجتماعي للجماعة والأسري للعائلة والنفسي للفرد، وهو دور لا يغني عنه أي شيء وكيان آخر، فهل نجحت كنائس المهجر في هذا الدور متعدد الأوجه؟ هل استطاعت أن تقدم للمهاجر المسيحي ما يحتاجه روحياً ونفسياً وإجتماعياً في بلاد غربته التي يتعرض فيها لأنواع هائلة من الضغوطات والتحديات التي تهدده في كل جوانب حياته؟ هل أنتجت لنا شخصية مسيحية أكثر سمواً وجمالاً وتسامحاً وانفتاحاً، أي - نظرياً - أكثر مسيحية، مما كانت عليه هذه الشخصية في بلدها الأصلي؟
هذا هو موضوع هذا المقال.
عندما وصلت إلي نيويورك في يناير عام 1970 لم تكن بأمريكا كلها كنيسة قبطية واحدة، كان هناك مشروع كنيسة ومجموعة من الأقباط الذين يعملون علي تأسيس كنيسة للمئات من الأقباط الموجودين في نيويورك ونيوجرسي لكن يتزايدون بسرعة كل يوم لتسارع موجات المهاجرين من مصر بعد كارثة هزيمة 67، ثم بعد إطلاق السادات لأيدي الإخوان لتسيطر علي مفاصل الحياة في مصر منذ منتصف السبعينات، وإستمرار ذلك في عهد مبارك.
اتصلت بالقس القبطي الوحيد، أبونا غبريال عبد السيد، وكان صديقاً لوالدي أبونا بولس باسيلي - وابنه دكتور جورج عبد السيد هو بدوره صديقي - وحضرت تأسيس أول كنيسة قبطية في أمريكا في مدينة جرسي سيتي بولاية نيوجرسي، والتي تتميز بأنها علي بعد دقائق بالصبواي من مدينة نيويورك حيث توجد فرص العمل مع رخص ايجاراتها نسبياً فصارت هي الملاذ المنطقي الأول لتجمع المهاجرين المصريين، من كنيسة واحدة في كل الولايات المتحدة في 1970 إلي حوالي 200 كنيسة قبطية اليوم تابعة لثماني ابرشيات لكل منها مطران أو أسقف، ولا تكاد توجد ولاية أو مدينة كبيرة أو صغيرة في أمريكا اليوم بدون كنيسة أو أكثر، بعضها يخدم مئات العائلات وآلاف الأفراد، وبعضها، خاصة الجديدة منها، لا يتعدي اعضاؤها عشرات العائلات، قد يخدمهم كاهن زائر إذ ليس لديهم القدرة المالية الكافية للقيام بمرتب ومصاريف كاهن متفرغ وعائله، وقد لا يعلم البعض أن الكنائس القبطية سواء في مصر أو المهجر تبني وتدار بأكملها، بداية من شراء الأرض وبناء المباني إلي مصاريف الإدارة والخدمة المستمرة بما فيها مرتبات الكهنة، هي كلها بتمويل مباشر وحصري من تبرعات الأفراد وليس من دولة أو مؤسسة.
الدور الإجتماعي والعائلي
لا يحتاج أي مهاجر قبطي حديث الوصول أن يعرف القسيس القبطي معرفة شخصية فكل ما عليه هو أن يسأل أي مصري آخر أين الكنيسة فيدلونه فيذهب ليتعرف علي الأب الكاهن وعلي مجموعة المهاجرين السابقين، وفي ساعة واحدة بعد نهاية قداس الأحد يستطيع المهاجر الجديد التعرف والتواصل مع مجموعة كبيرة من الأشخاص متنوعة المجالات والتجارب فيستفيد منهم في محاولات استيعابه لطلاسم ما يواجهه من غرائب وألغاز ومخاطر الحياة الأمريكية الجديدة عليه في كل شيء، وكانت الكنيسة القبطية منذ بدايتها في أمريكا قد طبقت نظام الكنائس الأمريكية حيث يتجمع المصلون بعد إنتهاء الصلاة في قاعة سفلية لتناول بعض الأطعمة السريعة - تسمي لقمة محبة "أجابي" - ولكن الأهم هو للتعارف، وهذا هو الدور الإجتماعي والعائلي والنفسي الهائل الذي قامت به الكنيسة في المهجر، وما تزال، بشكل لا تفعله بنفس القدر الكنيسة في مصر حيث لا يحتاج سكان الكنانة إلي وسائل تلاقي وتعارف بينما لديهم العائلة المترامية الأطراف ودوائر المعارف من الجيران والدراسة والعمل والشارع والبقال والحلاق والصيدلي وبقية منظومة الإلتصاق البشري الحميم في مصر.
ربما لا يوجد مهاجر قبطي لم يستفد من الدور الاجتماعي للكنيسة، خاصة في سنواته الأولي في المهجر، رغم أن النصائح والمعلومات التي يتلقاها ممن سبقوه ليست كلها صحيحة، فبعضها لأن من أسس شخصية المصري أنه لا يمكنه أن يعترف أنه لا يعرف شيئاً فيفتي بما لا يعرف، وبعضها لأن المصري مغرم بالتفاخر بإنجازات ومكانة مفبركة، وكلمة الحقيقة كلمة نسبية لديه، ودقة المعلومة هي نوع من الرفاهية في حياته، ومع ذلك فلا شك أن المهاجر الجديد سيجد قلة صادقة في رغبتها في المساعدة، فيستفيد المهاجرون من لقائاتهم الأسبوعية بالكنيسة، وأغلبهم يستمرون في علاقتهم بها حتي يوم رحيلهم عن الدنيا والصلاة علي جثمانهم في الكنيسة.
وحين أتحدث عن دور إجتماعي للكنيسة فالحقيقة أنني لا أعطي الدور حقه كاملاً لأن الكنيسة تلعب دوراً في حياة المهاجر خاصة المحدث يشمل كل جوانب الحياة، بدئاً من الناحية المادية في بعض الحالات، فبعض العائلات خاصة من يحضرون نتيجة للقرعة العشوائية يهبطون علي الكنيسة في بلد المهجر، عادة نيويورك أو كاليفورنيا، وليس لهم مكان آخر ولا معهم ما يكفي حياتهم أسبوعاً واحداً، فتجد الكنيسة نفسها مضطرة للتكفل بهم بشكل فوري، فتسكنهم مع عائلات أو أماكن بديلة مؤقتة حتي يمكن تدبير موارد مالية وسكنية تكفل لهم الإسقلالية.
وحتي العائلات المستقرة الميسورة في أمريكا كثيراً ما تلقي علي عاهل الآباء الكهنة ما لا يطاق من الطلبات التي قد تفوق المعقول والمحتمل، فمن الحالات الكثيرة التي أسمع بها أن يتلقي الكاهن في ساعة متأخرة من الليل مكالمة من زوجة في حالة من الرعب تقول أن زوجها أصيب بضيق تنفس شديد وطلبوا له الإسعاف الطاريء وهو في طريقه للمستشفي فألحقنا يا أبونا، فيسأل الأب وهل زوجك الآن تحت العناية الطبية؟ تقول نعم لكن لا نعرف ما سيحدث له الحقنا يا أبونا، ويبدو أن في ذهن الزوجة أن وجود أبونا في المستشفي وصلواته بجانب زوجها قد يكتب له الشفاء والنجاة.
هذا الإرهاق لطاقة الأب الكاهن من قبل شعب الكنيسة سببه هو التعليم الخاطيء عن دور الصلاة فيما يتعلق بالمرض، مما يؤدي إلي توهم أن الصلاة أو التواجد بالكنيسة أو طقس تناول الجسد تحمي من الإصابة بالمرض أو الشفاء منه، وقد أدت تجربة فيروس الكورونا إلي تصرفات مؤسفة ومريرة من قبل الكثيرين، فتجد الحامل للفيروس يذهب لمقابلة الكاهن وتقبيل يده أو احتضانه طالباً الصلاة متوهماً أنها طريق الحماية من عواقب الفيروس المميتة، وللأسف أدي هذا الفهم الخاطيء إلي إصابة نسبة عالية من الآباء الكهنة وأعضاء الكنيسة بالفيروس وما يعقب هذا من مرض ووفاة.
من الأمثلة الأخري نسمع عن سيدة تتصل أيضاً في ساعة متأخرة إلحقنا يا بونا ابني كان في بيت أصحابه ويظهر عملوا دوشة أو حاجة فالبوليس أخدهم ما ينفعش الواد يفضل هناك من فضلك تطلعوا يا بونا.
هذا بالطبع إلي جانب ما لا ينتهي من المشاكل الزوجية التي يطلبون فيها تدخل أبونا ليوفق بين الزوجين أو بين الوالدين والأولاد أو بين العائلات وبعضها.
وهكذا يعمل أبونا ليس فقط كأب روحي لكن كطبيب إسعاف ومحامي طواريء ومشرف إجتماعي وطبيب نفساني ومسؤول هجرة وممثل سياسي، وحلال لجميع المشاكل والهموم والمآسي الممكن أن تواجه أي عضو في الكنيسة هو وكل عائلته ومعارفه، ويبدو أن الكثيرين من الأقباط، حتي من طالت سنواتهم في المهجر، قد اصبحوا قليلي الحيلة إلي درجة إلقاء كل أحمالهم ومشاكلهم علي كاهل الأب الكاهن، فهم يخطئون تفسير قول السيد المسيح "تعالوا إلي يا جميع المتعبين وثقيلي الأحمال وأنا أريحكم" فيتصورون أن هذا معناه القاء أثقالهم علي الأب الكاهن باعتباره في ذهنهم هو ممثل المسيح علي الأرض، ولأن الآباء الكهنة لا يستطيعون، أو لا يريدون، تصحيح هذه الرؤية الخاطئة يجدون أنفسهم في وضع صعب لا يستطيعون معه رفض طلبات المؤمنين مهما كانت غريبة وخارج نطاق الخدمة.
الدور الديني السياسي
قد يري البعض غرابة في أن أضم الدور الديني مع السياسي في سياق واحد، لكني أفعل هذا عمداً، لأن الواقع سواء في مصر أو هنا في أمريكا، ورغم ادعاءات الدولة المدنية واللبرالية العلمانية التي تفصل ألدين عن السياسة، يقول لنا الواقع أن هذا ألفصل يوجد نظرياً فقط، بينما ألدين والسياسة في حالة زواج وأن كان زواجاً سرياً أو عرفياً، و المصالح الدينية تمتزج مع المصالح السياسية، والنتيجة أن المعتقد الديني يلعب دوراً قوياً، ظاهراً وخفياً، في السياسة هنا وهناك، سواء بنية صادقة لدي المؤمنين أو بتحايل في حالة الكثير من السياسيين، وقد شاهدنا الرئيس السابق ترامب يحرص علي الوقوف أمام كنيسة بجوار البيت الأبيض ليصوروه رافعاً الإنجيل بيده، ومنذ أكثر من نصف قرن كان الزعيم الأسود مارتن لوثر كنج يستخدم الإيمان المسيحي وآياته لتبكيت المجتمع الأمريكي علي خطيئة نظام العبودية ومعاملتهم للسود، وكان هو نفسه قسيساً إنجيلياً، مما منح رسالته وقعها الأعلي بين الناس، وإلي الآن هناك كنائس أمريكية توفر للمصلين اتوبيسات لتوصيلهم لمقر التصويت، ولا تحتاج الكنائس أن تذكر إسم مرشح بعينه لكنها تعلن مواقفها في قضايا مثل الإجهاض والمثلية وغيرها ويصوت أعضاؤها علي هذه الأسس الدينية.
زواج الدين والسياسة قديم قدم أول دولة عرفتها البشرية أي قدم الفرعون في مصر القديمة الذي كان ملكاً ونصف إله في نفس الوقت، مروراً ببابوات الكنيسة الكاثوليكية بروما في العصور الوسطي الذين كانت لهم سلطة هائلة يناطحون بها السلطة الإمبراطورية الحاكمة، مروراً بلاهوت التحرير لقساوسة أمريكا اللاتينية الذين مزجوا ألدين بالثورة لتحرير الإنسان، وصولا إلي حالة أكثر التصاقاً بي شخصياً هي حالة والدي المتنيح أبونا بولس باسيلي الذي نجح بالإنتخاب كنائب سياسي في مجلس الشعب المصري عن منقطة شبرا في السبعينات، وكان يمارس دوره الديني والسياسي في نفس الوقت، وفي أول جلسة لمجلس الشعب له قدم طلبين أساسيين، الأول كان مطلباً دينياً حقوقياً هو إلغاء الخط الهميوني الذي يعرقل بناء الكنائس، والثاني كان مطلباً مدنياً إنساناً وأيضاً حقوقياً هو منح الحقوق كاملة للمعوقين في مصر، وكان أول من يلقي الضوء علي حقوق هذه الفئة المنسية في المجتمع المصري وقتها، وكان من رواد الخدمة الإجتماعية بتأسيسه جمعية الكرمة القبطية للمكفوفين والمسنين في مصر عام 1953 في وقت لم يكن أحد في مصر تقريباً مهتماً بالمعوقين، ومازالت الجمعية قائمة تخدم بمؤسساتها الضخمة في شبرا.
إمتزاج الدين بالسياسة كان واضحاً في الإنتخابات الأمريكية في 2020 حين أعطت الأغلبية الساحقة من الافنجلكان الأمريكان أصواتهم لترامب، وبعضهم تصوروه مبعوث العناية الإلهية لإنقاذ أمريكا من مفاسد وآثام اللبراليين واليساريين الذين صورتهم أبواق قناة فوكس أنهم شياطين وأبالسة يمشون علي الأرض، وقد صدق الكثيرون هذه الصورة حرفياً، فلديهم الإستعداد المسبق لقبول فكرة إستيلاء الشيطان علي بلد أو نظام أو جماعة لينشر بهم الإثم والفجور في الأرض، وكان معظم الأقباط، ربما بنسبة 90% في الجانب المصوت لترامب لسببين أولهما ديني، مدفوعين برؤيتهم المحافظة للتدين والأخلاق التي يرونها أساساً مرتبطة بالممارسة الجنسية والإجهاض والمثليين مع رغبة في الحفاظ علي نمط حياة الأسرة المسيحية التقليدية، غير مهتمين بمواقف اللبراليين والديمقراطيين المناصرة للفقراء المطالبة بالعدالة للجميع وبحقوق السود و الأقليات والمهاجرين والمرأة والمعوقين والمحتاجين عموماً، رغم أن هذه المواقف المدموغة بأنها يسارية هي أساس وروح رسالة السيد المسيح.
السبب الثاني لتصويت أغلبية أقباط الكنائس لترامب، ويتفقون فيه مع موقف الأغلبية المسيحية الكنسية البيضاء في أمريكا، هو موقفهم المتوجس المعادي للأقليات غير الأوروبية، ويبدو هذا غريباً لأن الأقباط والمسيحيين الشرقيين عموماً هم أقليات في بلادهم التي هاجروا منها يعانون ويشتكون من درجات مختلفة من التهميش والتفرقة فكيف لا يتعاطفون مع الأقليات في أمريكا خاصة السود وكذلك المهاجرين الجدد من أمريكا اللاتينية؟ وعليه رأيت في الفيسبوك من يتهم الأقباط المصوتين لترامب بأنهم عنصريون مثله، وهذا إتهام غير صحيح، فرغم وجود عنصريين ضد السود بالذات بين الأقباط كما يوجدون في كل جماعة بشرية فالموقف المعادي للأقليات في أمريكا لدي أغلبية الأقباط دافعه خوفهم من تحويل المجتمع الأمريكي علي أيدي هذه الأقليات غير الأوروربية إلي مجتمعات تشبه المجتمعات الشرق أوسطية التي هربوا منها، فما معني الهجرة لو وجد المهاجر نفس عقلية وثقافة وأساليب المجتمع الذي هجره تلاحقه في بلد المهجر؟
لقد جاء الأقباط مثل غيرهم إلي أمريكا منجذبين إلي الحضارة الغربية ومبادئها المتمثلة في الحرية والكرامة الإنسانية والديمقراطية وسيادة القانون وحرية العقيدة والإحتفاء بالفنون والإبداع والتقدم الحضاري المدني في كل مجالات الحياة، بينما كانوا يسمعون بعض هتافات المسيرات للسود وغيرهم من الأقليات تشجب الحضارة الغربية برمتها، وكأنها حضارة عنصرية هي السبب في شقاء البشرية، متناسين كل شيء مفيد ومضيء قدمته هذه الحضارة من علوم وفنون وطب وهندسة وعمارة وصحافة وسينما ومسرح وموسيقي وآداب وقواعد الديمقراطية واللبرالية والعلمانية.
ما يمكن لوم أقباط المهجر عليه ليس العنصرية ولكن الفئوية والتقوقع داخل الكنيسة فكرياً وسياسياً وكأنهم ما زالوا في مصر، وقد انتخبوا مرشح الكنيسة هنا، ترامب، دون إدراك أو إهتمام بخطورة مواقفه علي إستمرارية النظام الديمقراطي الأمريكي العريق، ولكونهم قادمين من مجتمعات تسلطية لم تعرف الديمقراطية في تاريخها فهم غير واعين لدور الديمقراطية الأساسي في التقدم الحضاري للمجتمع الأمريكي الذي ينعمون به، وبالتالي، حتي إذا تفهمنا تصويتهم لليمين المحافظ بدافع ديني ومجتمعي ثقافي، لا تجد في النقاش معهم أنهم يعطون أية أهمية لضرورة الحفاظ علي سلامة النظام السياسي الأمريكي الذي طعنه ترامب في أكثر من مكان، وستجد أنه لا مانع لديهم أن يكون رئيس أمريكا طاغية ما دام سيكون من فئتنا وقبيلتنا، هذا هو موقف أغلبية أقباط المهجر، إذن فقد فشلوا في تعلم أي شيء في المجال السياسي من وجودهم في نظام ديمقراطي.
الدور النفسي الإنساني
نصل إلي دور الكنيسة القبطية في بناء إنسان مسيحي يطبق التعاليم المسيحية في حياته في أمريكا وهو المفترض أنه دورها الأساسي، فهل بعد أكثر من نصف قرن منذ أول كنيسة قبطية في أمريكا نجحت الكنيسة في هذا؟
هنا لا أستطيع سوي تسجيل قناعتي بناء علي تجربتي ومعرفتي الشخصية وبهذا قد لا تكون موضوعية أو صحيحة، وفي رأييٍ أن الكنيسة لم تستطع الإرتفاع بالمستوي الروحي الفكري ولا السلوكي للأقباط في المهجر بأي قدر ملموس يفرقهم عن الأقباط في مصر، هي بلا شك نجحت في تحقيق قدر كبير من السلام النفسي والسلامة الإجتماعية للأقباط في خضم بحر الحياة الأمريكية المتلاطم، وأدي التمسك الديني والتلاحم الإجتماعي العائلي لأقباط الكنائس إلي مساعدتهم في تجنب الكثير من مزالق وأخطار مغريات ومغامرات الحياة الأمريكية خاصة للشباب في المدارس والجامعات وبعد التخرج، فالتقاليد المحافظة قامت بدورها في الحفاظ، فرغم انخراط الأقباط في الحياة العملية الأمريكية بحكم العمل والسكن أساساً، إلا أن المجتمع القبطي المهجري بشكل عام هو مجتمع سليم لا يعاني من الأخطار المحيطة به مثل المخدرات والجريمة والتفكك الأسري والبلطجة والبطالة والتفسخ المجتمعي والنفسي بدرجة معاناة فصائل أخري، مما جعل مسئولاً سياسياً أمريكياً مثل عمدة مدينة جرسي سيتي حيث سكنت جالية مصرية سنوات طويلة يقول "أن الأقباط هم نوعية الناس الذين ترجو وجودهم في مدينتك".
ينطبق هذا بشكل أكبر بالطبع علي عائلات الجيل المهجري الأول، ثم يقل تأثيره تدريجياً في الأجيال اللاحقة، في الأولاد والأحفاد، وهو أمر متوقع وحدث مع كل الجاليات الأخري، وهذا التأثير العائلي والمجتمعي المحقق للأمن والسلامة لا يرتبط بالضرورة بتأثير إيجابي فكري أو روحي علي الأقباط في المهجر، يجعلهم أرحب وأوسع فهماً وتطبيقاً للتعاليم المسيحية الجوهرية، أو أكثر انفتاحها فكرياً وثقافياً، أو أكثر تقبلاً لمفاهيم عصرية وتغييرات ثقافية متسارعة، فهم بشكل عام يفكرون بنفس الثقافة المصرية التي ولدوا عليها، ورغم سنوات طويلة في المجتمع الأمريكي لم يتطور أسلوب تفكيرهم بأي قدر ملموس، ولم يتطور مفهومهم للتدين المنغمس تماما في الطقوس التلقائية الخالي تقريباً من حرارة الروح البعيد كلياً عن الجوهر المتسامي للرسالة المسيحية في الصدق والنقاء ومحبة الآخر ومساعدة الضعيف والنطق بالحق والمطالبة بالعدالة للجميع وليس فقط لنفسك وقبيلتك.
لم تستطع الكنيسة القبطية في المهجر، وهي في هذا تابعة للكنيسة الأم في مصر، إخراج القبطي هنا وهناك من فكر العهد القديم الغارق في الشعائر والماديات والملموسات وما يدخل فم الإنسان من مأكل ومشرب، إلي فكر العهد الجديد وتعاليم السيد المسيح الذي قال أن ما يهم هو ما يخرج من فم الإنسان وليس ما يدخله، والذي قال أن السبت قد صنع للإنسان وليس الإنسان للسبت، فتجد أن الإهتمام الكبير في الكنيسة هو علي الشعائر والطقوس وأيام الصيام التي تبلغ أكثر من ثلث أيام العام، يستغرق القبطي في متابعتها وتطبيقها حرفياً حتي لو رأي أن لا عائد روحي لها عليه، فلا هو بعدها إنسان أفضل ولا هو بتطبيقها قد إرتفع في الفكر والسلوك، والمدهش أنه حين تحاول القيادة الدينية بعض التطوير لهذه المسائل التي وضعها الآباء الرهبان البشر وليس السيد المسيح تجد من ينتفضون بغضب بين قلة متشددة بين المؤمنين تري في الحفاظ علي هذه الممارسات حفاظاً علي المسيحية نفسها.
في النهاية لابد من تسجيل أن التأثير الأقوي علي الأجيال الثانية أي الأولاد والأحفاد من العائلات القبطية المهاجرة هو من المدرسة الأمريكية والثقافة والفكر والإعلام والسوشيال ميديا وأساليب الحياة الأمريكية وليس تأثير الكنيسة الذي يضعف تدريجياً، فبينما تجد الصفات والخصال المصرية واضحة في الجيل المهاجر الأول تجد الصفات والخصال الأمريكية واضحة في الأولاد خاصة بعد خروجهم من حضن والديهم بأساليب التربية المصرية الغارقة في "التدليع" والفوضي وغياب الإنضباط، فإذا بالأولاد "الأشقياء جداً" قبل المراهقة ينضجون فجأة وقد إكتمل تشربهم للثقافة الأمريكية السائدة التي تتطلب نضجاً سريعاً والإعتماد علي النفس والصدق في القول والفعل وتحمل المسئولية، وكلها خصال لا نربيها كمصريين في أولادنا،
وتري الفوضي واضحة في الكثير من كنائس المهجر كما هي في كنائس مصر، خاصة في الأولاد الذين نراهم يهرولون في الطرقات داخل الكنيسة وفي حصص مدارس الأحد، ومن أطرف ما سمعت هو ما حدث لخادم مدرس مدارس أحد كان الأولاد يقفزون من نوافذ الدور الأرضي للفصل في وسط الحصة لمدي الفوضي وعدم انضباطهم، وأخذهم هذا المدرس يوماً في زيار لإحدي المولات التجارية المجاورة، وما أن دخلوا من باب المول حتي بدأ الأولاد في الإنفلات والهرولة في طرقات المول، فصرخ فيهم مدرس مدارس الأحد قائلاً بأعلي صوته، لا لا بلاش جري وفوضي، إحنا مش في الكنيسة هنا.
حالياً تقدم الكنيسة القبطية ما يحتاجه معظم الأقباط في المهجر مع تغيير طفيف في أساليبها مثل إقامة القداس باللغة الإنجليزية، وتستمر في التزايد والتوسع والإنتشار لأن مصر ما تزال ترسل الآلاف من المهاجرين الأقباط كل عام إلي أمريكا وبالتالي تستمر الحاجة إلي الكنيسة في المهجر، فتظل هي الصخرة التي تقف ثابتة أمام رياح العالم يلجأ إليها الأقباط جسدياً وروحياً طلباً للأمن والسلامة، كما لجأ أجدادهم دائماً إلي مكان العبادة وكاهنها الأكبر منذ عبادة آمون قبل أكثر من خمسة آلاف سنة، قبل أن يعرف بقية العالم المعابد والآلهة.