الخطاب العربي في متاهات التراث (دراسة علائقية)
ربما جزء كبير من مشكلاتنا هي تصور أن ما في عقولنا أو أن ما في مدركات شعورنا أو أن دلالات لغاتنا، يتطابق مع ما في الأعيان وفي عالم الأكوان - لكن هذا موضوع آخر - هذا الاختلاف بين هذه المنظومات يجعل أن أي وعي بحقيقة ما، فهو وعي محكوم بقدرتي على المعرفة، وبأدواتي للوصول لهذه المعرفة ومحكوم بالمنظومات الثقافية التي أنطلق منها، مما يدخلنا في جزئية أن المعرفة وأن الحقيقة هما عبارة عن كائن حي في حالة تشكُل دائم، كشجرة تنمو. فالحقيقة التي أقول بها هي حقيقتي الآن، حسب ما توفر لي من إمكانية على المعرفة ومن أدلة ومن عدسات أنظر من خلالها. وحينما تتغير قدراتي على المعرفة أو عدساتي للرؤية أو تتوفر أدلة أخرى، فالحقيقة تنمو. بعبارة أخرى فالحقيقة بشرية محدودة بحدود بشريتي وقدرتي على الإدراك في حدود الزمان والمكان والسقف المعرفي لي ولعصري
هكذا يقدم جمال عمر لآخر مساهمته في مناقشة العقل العربي والتراث من خلال كتابه الجديد: الخطاب العربي في متاهات التراث (دراسة علائقية)
مفتتح:
حين يقول شخص لآخر عبارة "إزيك يا راجل". فهناك معنى ما، سيصلك من عبارة "إزيك يا راجل"، انها مثلا؛ عبارة اطمئنان من شخص على شخص آخر، وقد توحي العبارة إلى مودة في دلالتها في سياق اللغة العربية المصرية اليومية المتداولة. لكن حين أضيف للمعلومات السابقة معلومة أن قائل العبارة هو طالب جامعي وقد قالها لأستاذ دكتور في الجامعة. فستأخذ عبارة "إزيك يا راجل" بُعداً آخر مختلفاً عن المعنى السابق الإشارة إليه، فقد دخل عليها نوع من التهكم، مصدره معرفة من قائل العبارة ومن معرفة إلى من وجهها وما طبيعة علاقتهما ببعض. فلو أضفنا إلى ما سبق أن هذا الطالب قد قال هذه العبارة في قاعة المحاضرات في وجود الطلبة. هنا نفس العبارة - ازيك يا راجل - تأخذ أبعاد من السخرية وقلة الذوق والأدب والتهجم.
فلو عرفنا أن هذا الطالب قد قال عبارة - ازيك يا رجل - لأستاذ الجامعة في المدرج وفي حضور رئيس الجامعة؟ فالمعنى هنا يدخل في إطار سخرية وتحقير وتحدي. فماذا لو عرفنا أن الطلبة في مدرج الجامعة قد ضحكوا. بل وماذا تعني لو عرفنا أن الدكتور الذي وجهت إليه العبارة هو أيضا قد انخرط في الضحك؟
فعبارة "ازيك يا راجل" حتى وإن لم نتعرض لنبرات قولها ولم نتعرض لتاريخ تعامل هذا الطالب مع ذلك الأستاذ. تظل العبارة لا تعبر فقط من خلال مفردات كلماتها "ازيك" و"يا" و"راجل". ولا تعبر فقط من خلال التركيب اللغوي للكلمات الثلاثة في نسق عبارة واحدة، بل هناك أبعاد أوسع للدلالة وللتعبير، تأتي من؛ من المتكلم ومن المُخاطَب وفي أي سياق تم الكلام وما تاريخ التواصل بين المُخاطبين. بعبارة أخرى أن المعنى ليس من التركيب اللغوي النحوي والصرفي فقط. ولا حتى من السياق فقط. إن هذا التعبير دال ومعبر بالنسبة لعلاقته مع منظومات التدليل التي يعمل من خلالها وفيها. بداية من منظومات اللغة الطبيعية، إلى منظومات التعبير في الثقافة، وأنساقها المتعددة، والتي في القلب منها اللغة كدائرة وسيط بين كل منظومات التعبير والتدليل والبيان.
فألوان إشارات المرور؛ منظومة علامات للتعبير وللتواصل، اللون الأحمر فيها له دلالة. واللون الأحمر في منظومة الأزياء وفي الملابس الداخلية سيكون له دلالة أخرى. والمأكولات في الثقافة هي منظومة تعبير، التقاليد والأعراف منظومات تعبير…..الخ مما يجعل أن الكلمة أو العلامة دلالتها مرتبطة بنوع المنظومة التي توجد فيها وفي أي سياق تُعبر هي فيه، ولا تأتي دلالتها من ذاتها وهي مُعلقة في الهواء، منفصلة عن منظومة العلامات أو عن سياقها الذي تعبر فيه.
لذلك مهم لنا دراسة أي ظاهرة ودراسة خطاب أي مفكر؛ كعلامة، دلالتها مرتبطة بمنظومات التعبير والتدليل في الثقافة وسياق الظاهرة وسياق الخطاب، والسياق هنا بمعنى أوسع من السياق اللغوي لتركيب العبارة أو الجملة، فالسياق معنى أرحب من ذلك بكثير، هذا أولاً.
ثانيا: نحن نعيش حياتنا على الأرض عبر ثانية تليها ثانية أخرى، لتكوِّن دقيقة، ودقائق تكوِّن يوم، وأسابيع وأشهر وسنين بل إن مفهوم الزمن ذاته تصور. كذلك إدراكاتنا لحياتنا ولواقعنا ندركها كجزئيات، والتاريخ ندركه كوقائع وكشخصيات عبر أحداث جزئية. فلكي تكون كل هذه الجزئيات والوقائع والأحداث والشخصيات قابلة لأن نفهمها أو يُمكننا استيعابها، فنحن نقوم بتنسيقها في وحدات، ونحزمها في أنساق وقوالب ونظم ومذاهب وتيارات؛ حتى تستطيع عقولنا الإحاطة بمعانيها وبدلالاتها. فعقولنا تستقبل مُدركات عن الأشياء واحد تلو الآخر، لطبيعة عقولنا في العمل بطريقة تراتبية عبر تسلسل زمني.
وأن إدراكاتنا الشعورية تختلف عن إدراكاتنا العقلية: فالشعور يجمع الخبرة القديمة مع الخبرة المتأخرة عنها، ويغيب الزمن تقريبا أو يكون نوع من التداخل الشديد، بل حركة الزمن داخل الشعور إن وجدت فهي حركة لها سرعات مختلفة، قد يفر بسرعة برق في جلسة أحباب، جلسة أُنس، وقد يكون ثقيل ثقل خطوات قدر، لا يمر في حالة انتظار وترقب. بل في الشعور يتداخل العقل باللاعقل، تتداخل الحقيقة بالأوهام، تتداخل المكبوتات المخفية بالمكبوتات المُعلنة.
وكذلك اللغة التي نستخدمها للتعبير عن هذه المدركات والمعارف وتلك المشاعر وهذه المعاني، هي منظومات لها طرق في العمل وفي التعبير تختلف عن طرق عمل منظومات تعقُلِنا، وعن عمل منظومات إدراكاتنا الشعورية.
وربما جزء كبير من مشكلاتنا هي تصور أن ما في عقولنا أو أن ما في مدركات شعورنا أو أن دلالات لغاتنا، يتطابق مع ما في الأعيان وفي عالم الأكوان - لكن هذا موضوع آخر - هذا الاختلاف بين هذه المنظومات يجعل أن أي وعي بحقيقة ما، فهو وعي محكوم بقدرتي على المعرفة، وبأدواتي للوصول لهذه المعرفة ومحكوم بالمنظومات الثقافية التي أنطلق منها، مما يدخلنا في جزئية أن المعرفة وأن الحقيقة هما عبارة عن كائن حي في حالة تشكُل دائم، كشجرة تنمو. فالحقيقة التي أقول بها هي حقيقتي الآن، حسب ما توفر لي من إمكانية على المعرفة ومن أدلة ومن عدسات أنظر من خلالها. وحينما تتغير قدراتي على المعرفة أو عدساتي للرؤية أو تتوفر أدلة أخرى، فالحقيقة تنمو. بعبارة أخرى فالحقيقة بشرية محدودة بحدود بشريتي وقدرتي على الإدراك في حدود الزمان والمكان والسقف المعرفي لي ولعصري.
فنحن لنا قرنان نحاول أن ننهض، ونحاول أن يكون لنا موضع قدم على خريطة العالم، سياسيا واقتصاديا ومعرفيا. ومع كل كبوة أو هزيمة، كنا ننخرط في مراجعة للذات، ويكون حجم مراجعتنا بحسب فداحة التراجع وبحجم الهزيمة. لكن مراجعاتنا تبدو لي وكأننا نبدأ من منطقة الصفر كل مرة، وكأننا لا خبرات تراكمية ولا وعي جمعي ولا تراكم معرفي يتكون. فنحن تقريبا نتجادل على نفس القضايا التي تجادلنا حولها في بدايات القرن الماضي، وكأن حركة التفكير عندنا هي حركة تفكير "محلك سر"، لا تخطو، ولا تتجاوز من مرحلة لأخرى.
فنحتاج إلى رؤية علائقية للمراجعات الفكرية التي تمت في ثقافتنا وللمراجعين ولمؤلفاتهم خلال القرن ونصف الماضيين، علائقية تربط بين الظواهر، وتربط بين المفكرين وسياقاتهم وللمراجعات وسياقاتها، علائقية تهتم بكيف تتراكب الظواهر؛ الفكري منها والثقافي مع ما هو سياسي/ اقتصادي/ اجتماعي. وكيف يتراكب خطاب المفكر مع جوانب خطابه بمراحله المختلفة مع الخطابات الأخرى التي يتوافق معها أو يعارضها أو يتجاوزها، أو يحاول تكرارها.
الخطاب لا يأتي من عدم ولا يتحرك في عدم، الخطاب ظاهرة تتعالق في علاقات مع خطابات سابقة أو معاصرة لها أو خطابات تالية عليها، في علاقات حذف وإضافة، وتجاوز، وتناص وتكرار واجترار...الخ. والخطابات ليست بمضمون الأفكار أو بمضمون المعاني السارية فيها فقط، بل الخطابات أفكارها ومعانيها تدل طبقا للمنظومة التي هي جزء منها وطبقا لسياقاتها فمهم الإحاطة بالمنظومات التي تعطي للخطابات معانيها وللسياقات التي تمارس فعاليتها فيها.
وقد حاولت أن أطرق هذه المسافة الفاصلة، الواصلة، بين الإنسان المُدرِك وبين ما يدركه من ظواهر، من خلال نهج علائقي، وحاولت ممارسة هذه العلائقية في تناول خطاب نصر أبوزيد في كتابي "أنا نصر أبوزيد"، وحاولتها في تعامل المسلمين والغربيين مع المصحف في كتابي "مقدمة عن توتر القرآن". لكن التطبيق الأوسع كان في كتاب "مدرسة القاهرة في نقد التراث والأشعرية - دراسة علائقية".
وفي هذه الصفحات أحاول أن أنظر نظرة علائقية لخطابات المراجعات الفكرية التي تمت فيما بعد الهزيمة الكبرى عام سبعة وستين، والمراجعات التي تمت لهذه المراجعات من جيلين آخرين، ثم مراجعتي للمراجعات. ففي "مراجعات في ضوء الهزيمة" تناول علائقي لخطابي "التراث والتجديد" لحسن حنفي، وخطاب "نقد العقل العربي" لمحمد عابد الجابري، في علاقة هذه الخطابات بغيرها من الخطابات السابقة عليها والمعاصرة لها، وعلاقة كل خطاب منهما بالأخر، بل وعلاقة خطاب حنفي ذاته في سياق حياته ومجتمعه، وعلاقة خطاب الجابري بسياق حياته ومجتمعه.
ثم مراجعة جيل تالي مثل خطاب جورج طرابيشي لمراجعات خطاب "التراث والتجديد" وخطاب "نقد العقل العربي" من خلال مراجعاته "نقد النقد". ثم مراجعة جيل ثالث من خلال نقد علي مبروك لكل من جهود حسن حنفي ومحمد عابد الجابري وجورج طرابيشي. لأبني على كل هذه الجهود محاولة استيعابها نقديا من خلال علاقاتها، لنصعد على أكتافها وعلى ما بنت لنرى أبعد مما رأت. فهذا النص هو محاولة أخرى لاكتشاف وكشف أبعاد علائقية تربط فتافيت واقعنا لكي نستطيع أن نستوعبها وأن نتعامل معها. وهي محاولة أتمنى أن يتم تدارك ضعفها بجهود أخرى تقدم قراءات نقدية لهذه الجهود تقوم من عطبها، فهل من مُجيب.
نقد العقل العربي.. في ثلاثة عقود
لو أخذنا حديث محمد عابد الجابري عن خطابه خلال ثلاثة عقود، خصوصا من خلال حوار تم معه مع آخرين حول أفكاره منذ بدايات الثمانينات، بعد ما أصدر "نحن والتراث" حتى إصداره مؤلفاته حول القرآن أعوام قليلة قبل رحيله. رحلة في عقله من خلال تحاوره، حين يكون التفكير حي وفي تفاعل. فالجابري من بعد هزيمة سنة سبعة وستين، ثم نجاح الثورة الإيرانية سنة تسعة وسبعين، حتى غزو جيش العراق للكويت سنة تسعين، وصدور الجزء الثالث من نقده للعقل العربي في نفس العام.
فإن منطلق جهد الجابري أن حالة التخلف التي نعاني من آثارها مرتبطة بشيوع "اللاعقلانية" وشيوع "النظرة السحرية إلى العالم"ص243. وهذا الموقف هو موقف من سلفي من الممارسات الصوفية، وقفه محمد عبده وأفندية التعليم الحديث، من الثقافة الشعبية. إنه الموقف السلفي الذي تمثل وطنيا في حركة التحرر بالمغرب، فهذا الاتجاه السلفي هو الذي أنشأ المدرسة التي تعلم فيها الجابري، فكيف نواجه هذا "التخلف"؟ رؤية الجابري أن نواجهه عبر طرح عقلاني، "لكل قضايا الفكر". ليس عن طريق استيراد عقلانية أو تبنيها، بل "بنشر الروح النقدية، روح المراجعة المستمرة للفكر"ص243.
ففي نظره أن كل مفكري النهضة في الفكر العربي الحديث، قد تمسكوا بالتراث اللاعقلاني عندنا وتمسكوا بنقد العقلانية في الغرب، رغم أن نقد الغربيين كان لنوع معين من العقلانية، أمور بنت بيئتهم وتطورهم، الاجتماعي لم نمر نحن بها، نحن نحتاج إلى العقلانية. ونريد أن نؤسس ماضينا تأسيسا عقلانيا، لكي نؤسس حاضرنا عقلانيا ومستقبلنا أيضا ص257. بذلك يدخل تراثنا التاريخ فنقرأه قراءة تاريخية و"نقرأ تراث الغير أيضا في تاريخيته"ص258. فكر النهضة عندنا مازال محكوم بالعقل الذي ساد ما قبل النهضة.
لكن الجابري في مسعاه هذا عنده عدة تابوهات يتجنبها، منها تجنب "مهاجمة الفكر اللاعقلاني"ص259، في عقر داره. لأن الحوار بين العقل واللا عقل لأن "السيادة ستكون في النهاية حتما للاعقل لآن الأرضية أرضيته"ص259. لذلك فالجابري سيعمم العقلانية عبر نقد العقلانية وليس عبر نقد اللاعقلانية.
التابوه الآخر الذي يتجنبه الجابري هو: أن الوطن العربي في وضعيته الراهنة لا يتحمل "نقد لاهوتي"ص260. وبدل من هذا النقد ممكن "نستعيد" ما دار بين المتكلمين وبين الفلاسفة ونوظفه "لإزالة بعض الضباب عن بعض الضباب" لكن النقد اللاهوتي الآن في نظر الجابري هو "هتك لحرماتنا" وعلينا أن نحترم هذه الحرمات "حتى تتطور الأمور ونتطور معها، حتى لا نقفز على التاريخ"ص260. وأن النقد اللاهوتي ممكن أن يمارسه كل فرد داخله.
لكي يحقق الجابري هدفه كان عليه توظيف الابستمولوجيا تطبيقيا على التراث، بل وعلى العلاقة المعرفية بين المشرق والمغرب، قديما وحديثا. ففي أول كتاب له يُنشر في "المشرق" عام ثمانين، كتابه "نحن والتراث" فقد شخص أعراض الخطاب العربي المعاصر، وفي كتابه "الخطاب العربي المعاصر". ثم بعدها بعامين. أصدر الجزء الأول من سلسلته في نقد العقل العربي "تكوين العقل العربي" بعده بعامين، وبعد بعامين أصدر الجزء الثاني "بنية العقل العربي". كانا مشروع كتاب واحد، لكنه طال منه حين عمل عليه، وقد نظر إلى ما فعل فوجد أنه قد قام "بنقد العقل النظري في الثقافة العربية"ص338. - كأن القدر هو الذي يوجه عمل الجابري، العقلاني والمعرفي وليس حتى كشف البحث العلمي - الجابري يأخذ مفاهيم ثم يجعلها تناسب البيئة الجديدة، ويستخدمها في مجالات أخرى، يحاول أن يحقق الخصوصية في كل عمل يقرأه، - حسب ما يقول - فقد استعار "الاستقلال التاريخي للذات" من "جرامشي" وأن يكون هذا الاستقلال بالتحرر من الفكر الأوروبي ومن التراث معا.
فتصبح المفاهيم ملكه حين "يُبيئها"، وتصبح كأنها مفاهيم مبتكرة. دون نسخ مناهج أو نسخ مفاهيم أو رؤى، فسنستعير ثم نبيّء. ثم يستخدم تعبير "الاقتباس" بدل الاستعارة وأن "المشكلة الحقيقية هي في تبيّئة ما نقتبس حتى يصبح لنا، وذلك هو طريق الأصالة" ص295. ورغم أن هذه المفاهيم مشتقة من الواقع الأوروبي وتجربته، إلا ان الجابري سيأخذ هذه المفاهيم "كقوالب وأحاول أن أملأها من جديد" ص358. من خلال الفصل بين الشكل والمضمون. وعملية التبيئة هذه للمفاهيم ستمكننا من السيطرة عليها بدلا من الوقوع تحت سيطرتها.
ولارتباط المغرب بالثقافة الفرنسية هناك حضور للابستمولوجيا الفرنسية في عمل الجابري، لكن الأسباب الموضوعية وراء هذا الحضور الطاغي هو أن الأبحاث الإبستمولوجية في فرنسا "هي أكثر من غيرها اهتماما بالتحليل التاريخي" و"بالنقد الفلسفي" وهذا ما يناسب التعامل مع التراث ص293. وأخذ مفهوم "اللاشعور السياسي" من " ريجيس دوبريه" (1940 - 1977) وأخذ الجابري من فيلسوف العلم الفرنسي جاستون باشلار (1884 - 1962) مفهوم "القطيعة" المعرفية.
ولأن الجابري لا يجيد من لغات الشرق سوى العربية فهو سيدرس "العقل العربي"، وليس "العقل الإسلامي"، لأنه لن يقرأ ما كتب بالفارسية أو التركية أو الأوردية...الخ. وأيضا لأن تعبير "العقل الإسلامي" يتطلب التعامل مع مضمون لاهوتي وهو الأمر الذي يتجنبه الجابري، وأنه قد اختار "النقد الإبستمولوجي" أي التركيز على أدوات المعرفة وآلياتها، وبما أن اللغة العربية مكون أساسي للثقافة العربية الإسلامية "فلقد اخترت أن يكون عملي منسوبا إلى اللغة كأداة معرفة وحاملة تصور للعالم وليس للعقيدة"ص321.
الجابري هينقل ثمار الإبستيمولوجيا الفرنسية، التي تدرس القطيعة المعرفية في مجال العلوم، لا ليطبقها على العلوم في ثقافة العرب، ولا حتى في مجال العلوم الاجتماعية أو الإنسانية في ثقافة العرب. بل سيطبقها في مجال "تاريخ الفلسفة" ص262. كما فعل في كتابه "نحن والتراث" ثم سيطبقها على العقل الذي تكون في الثقافة وعلى بنيته. وهذا التطبيق وذلك التوظيف هو "توظيف إجرائي براجماتي ولكن دون أن يكون براجماتيا بالمعنى الاصطلاحي للكلمة"ص284. مستندا إلى أن "ألتوسير وظف باشلار في دراسة فكر ماركس وهذا فوكو وظف باشلار.. في حفرياته"ص285. وكأن لا فارق بين مجال العلم ومجال الفكر الفلسفي في نظر الجابري؟ لكن هذا موضوع آخر ليس مجاله الآن.
وحين درس الجابري التراث الفلسفي: وجد أن هناك تواصل ممتد من جماعة إخوان الصفا للفارابي إلى ابن سينا ثم الغزالي إلى السهروردي إلا الملا صدرا الشيرازي إلى الفكر الإيراني الحالي والمدرسة القُمية. لكنه حسب قوله عندما درس ابن رشد وجد شيئا أخر، فالبرغم من المفاهيم المشتركة بين الجميع فإنه وجد مضامينها مختلفة والإشكاليات المطروحة مختلفة عند ابن رشد عن مثلها عند ابن سينا، فلما تعمق في المفاهيم أكثر قال بأن "ابن رشد ليس استمرارا لابن سينا وذلك خلافا لما كان جاريا القول، بأن الفلسفة في الأندلس استمرار الفلسفة في المشرق"ص327. ففي نظر الجابري "ابن رشد عربي، أما ابن سينا فمخضرم، على الأقل عربي اللسان لكنه غير عربي المولد"ص261.
فالفلسفة في "المشرق" محكومة بجدالات علم الكلام فانشغلت "بإشكالية التوفيق بين الدين والفلسفة" فأخذوا الميتافيزيقا. لكن في "المغرب" - ولابد أن يضيف إليه الجابري الأندلس - لم تكن هناك فِرق ولا علم كلام، فأخذوا "الرياضيات والطبيعيات والفلك والطب والمنطق وأصبح أرسطو هو الأصل وأصبح التفكير الفلسفي أرسطيا محضا خاليا من الأفلاطونية المُحدثة والتأثيرات المشرقية من فارسية وغنوصية وهرمسية وغيرها فقلنا ههنا قطيعة" ص328. هذه القطيعة ليست سياسية ولا ثقافية ولا حضارية بل هي "قطيعة ابستمولوجية تمس في آن واحد المنهج والإشكاليات".
فكل مسعى الجابري هنا هو أن نجد تاريخا حقيقيا للفلسفة "العربية الإسلامية" يكون فيه "شيء من التقدم وشيء من الانتقال إلى ما هو أبعد فهذا التاريخ لا يمكن أن تجده إلا إذا بنيناه على أساس أن النظرة الأندلسية المغربية قد تجاوزت منهجيا النظرة المشرقية"ص330. ويعود الجابري ليركز على عروبة أصل كل من ابن حزم وابن رشد وابن خلدون، في نفس الصفحة. ثم يقوم بمركزة كل ما يدعم هذه المقولة، وتهميش كل ما يناقضها.
فالجابري يتحرك منهجيا بين ما هو "تاريخي" و"ابستمولوجي" و"إيديولوجي" في درسه. لكن متى يهيمن أحدهم فذلك يكون "حسب ما يقتضيه المقام ويفرضه الموضوع"ص297. ومثَّل نفسه بقائد طائرة. فهو يعالج التراث معالجة "بنيوية" ثم يحلله تاريخيا ثم يتناول الأيديولوجي. فهو يفكك منظومات التراث لو كانت مركبة، لكي يفهمه، ولو التراث آتانا مفككا، فالجابري يسعى أن يكتشف بنيته ليفهمه، ثم يفككه بعد ذلك. فتكون خطواته "المعالجة البنيوية كمرحلة أولى لكن لابد لنا من أن نلجأ إلى التحليل التاريخي لأنه هو مخبرنا - مجال اختبار - الذي نقيس به النتائج...نرجع إلى التاريخ في كليته.. تجد في سيره العام الشواهد التي تكشف عن هذه القوانين والأطروحات… لابد أن تنتهي إلى الطرح الأيديولوجي وهذه هي الخطوة التالية"ص332.
عام ستة وثمانون ذكر الجابري أن الهاجس الذي يحركه هو أن يتحرر "من هاجس العمل مثل الآخرين أو النسج على منوالهم هكذا بصورة شعورية وبرغبة صبيانية"ص322. فوجد نفسه في عام تسعين أني "فعلت ما فعله السابقون...وجدت نفسي محكوما بمنطق من سبقني"ص339. وعن لماذا لا يذكر من استفاد منهم لم ينكر أنه قد استفاد "كثيرا من كتابات المستشرقين" خصوصا حينما كان طالبا ومراحل عمله الجامعي الأولى، لكنه في "مرحلة الكتابة لابد من الاستقلال، لابد من الثقة في النفس وهذه خصلة ربما تميزنا بها نحن المغاربة عن إخوتنا المشارقة"ص308.
بل رغم تجنب الجابري الدخول فيما هو لا هوتي، فحين أراد أن يضرب مثلا بقضية تمثل نموذج لقضية تهم الناس وتكون عملية، فقد طرح قضية لاهوتية، ورغم إدراك الجابري أن الخطاب العام والشعبي هو تجلي لخطاب "عالم" أي خطاب في الثقافة الرسمية، ثقافة النخبة. إلا أن موقفه من التصوف ومن الممارسات الصوفية كان مثل كثير، إن لم يكن مثل موقف كل نخبتنا التي أنتجها التعليم "الحديث" في القرنين الماضيين، فهو يعتبر التصوف تخلف ودجل وشعوذة ولا عقلانية لا نحتاج إليها، بل لقد "وجهنا حملة شعواء ضد هذه الطرق فتحول الأمر وقُضي على الفكر الطرقي وأصبح الانتماء إلى الحزب وليس إلى الطريقة - الطريقة الصوفية - وذلك كله بفضل نخبة من السلفيين ونخبة من قادة الحركة الوطنية"ص334. والجابري بخطابه يخاطب نخبة من المثقفين "العضويين الذين ينقلون هذا بلغتهم وهمومهم وظروفهم إلى الجماهير"ص359.
وحين حاول الجابري أن يدرس الجانب العملي، "العقل العملي" في الجزئيين التاليين "العقل السياسي العربي" وبعده بعقد من الزمان "العقل الأخلاقي العربي". فقد فصل بين "عقل السياسة في الإسلام مفصولا عن الأخلاق" فالعقل السياسي يتعلق بالدنيا فقط، محاولة فهم الحياة كما مرت وكما عاشها المسلمون، فهو "كتاب تاريخ للممارسة السياسية والفكر السياسي في الإسلام"ص339. الجابري كان قد أصبح مكانه في مقدمة الخطاب العربي في الثمانينات، وقد أصبح يفكر في هذه المكانة ويُحافظ عليها، فكان كتابه عن العقل السياسي أن "اقتصر على عرض مادة ونصوص وكان دوري دور مهندس كنت أبني ولكن دون أن أتدخل لا كصاحب نظرية ولا كصاحب تأويل مُسبق...وقد حاولت فعلا أن أجعله بهذه الطريقة مقبولا عند جميع التيارات الفكرية"ص339.
فالعقل السائد الآن في واقعنا هو عقل المرجعيات التي تحكمه هي في الماضي، ونخبتنا العصرية يحكم تفكيرها مرجعيات أوروبية. فمدخل الجابري هو "نقد للمرجعية العصرية - الأوروبية الحديثة في وعينا - وما تبقى هو نقد للفهم الذي تعطيه - لنا - المرجعية التراثية"ص349. والعقل السائد هو عقل دوجمائي في جانبه "العصري" و"التراثي" ولذلك فالجابري يرى أن مهمته في "هذه اللحظة التاريخية هو أن أخلخل هذه الدوجمائية دون أن أتخذ من المواقف ما يثير ردود أفعال سلبية، أريد أن أجادل بالتي هي أحسن، وأن أدخل إلى قلب كل شخص كي نحقق نوعا من القاعدة المشتركة"ص349.
الجابري متمسك بالخصوصية وبالقومية، ومتمسك في نفس الوقت بما هو عالمي وما هو إنساني. ويصبح في النهاية لا آفاق مستقبلية في "ماضينا العربي الإسلامي إلا أن نتمسك بمدرسة المقاصد في الشريعة وبالروح النقدية العقلانية الرشدية"ص350. أي لا سبيل للدخول في العالمية والإنسانية سوى بمدرسة الأندلس و"المغرب" في فقه المقاصد، ونقدية عقلانيتها. اللتان تقريبا قد بنى الغرب نهضته على هذه الروح.