فتحي بن سلامة " للفيصل " نهاية داعش لا تعني نهاية الوهم المرتبط بالجهاد
الثلاثاء 08/مارس/2022 - 02:53 م
طباعة
روبير الفارس
الكاتب التونسي فتحي بن سلامة حاصل على شهادة الدكتوراه من الجامعة الفرنسية عن أطروحته «تخييل الأصول في الإسلام» وله مجموعة مهمة من المؤلفات حول «أمراض الإسلام» أَكّد في أغلبها فكرةَ أن هناك فرقًا كبيرًا بين «الإسلام الواقعي» و«الإسلام المتخيل»، ومنها : «الإسلام والتحليل النفسي» (2002م)، و«إعلان العصيان: استخدام المسلمين وغيرهم» (2005م)، و«الثورة المفاجئة، من تونس إلى العالم العربي: معنى الانتفاضة» (2011م)، و«حرب الذاتيات في الإسلام» (2014م)، و«المثالي والقسوة: الذاتية وسياسة التطرف» (2015م)، و«رغبة هوجاء في التضحية.. المسلم الأعلى» (2016م)، و«المرأة والجهاد، لماذا اخترن داعش؟» (2017م)، و«القفزة الملحمية، أو اللحاق بالجهاد» (2021م). وقد صدرت كلها بالفرنسية، وتُرجم بعضها إلى العربية. وتجربة فتحي بن سلامة في الجامعة الفرنسية ثرية، فتقلد مناصب رفيعة وتمكن من إحداث وحدات بحثية مهمة، أغلبها لها علاقة بموضوع اهتمامه، وهو فهم أسباب التطرف وعلاجه. ومؤلفاته من بين المراجع المهمة في فهم ظاهرة التطرف، لمعرفته الدقيقة بتاريخ المنطقة، ولاستفادته من المناهج الحديثة للعلوم الإنسانية التي فتحت آفاقًا واسعة أمام دارسي تاريخ الفكر الإسلامي والحضارة العربية والإسلامية. وقد اجرت مجلة الفيصل السعودية في عددها الاخير حوار معه حيث حاورته الصحفية التونسية "حياة السايب" واجاب في الحوار عن سؤال يقول «الجهاد» من الموضوعات التي أوليتها أهمية في بحوثك، وخصصت كتابًا للمرأة والجهاد أكدت فيه أن المرأة تبحث عن الخلاص، بالانضمام إلى منظمة إرهابية مثل تنظيم داعش؛ لأنها تمنحها ذلك الوهم بالفوز؛ لأنها تزوجت بشخصية منذورة للموت أو لأنها أم لأولاد رجل منذور للموت. هل ماتت الفكرة مع فشل التنظيم ميدانيًّا، أم إنها ما زالت تمثل خطرًا لأنها تظل تعشش في العقول؟ ورد فتحي قائلا أولًا، إن الجهاد قد تعرض إلى سحق رمزي مهم في بداية القرن العشرين. ابن رشد كان يميز بين أربعة أنواع من الجهاد: جهاد القلب؛ وهو جهاد النفس أي المعركة ضد النرجسية والأوهام، جهاد اللغة؛ الذي يعبر عنه من خلال البلاغة والقول الحسن، جهاد اليد؛ وهو البناء، وجهاد السيف؛ أي الحرب. وقد مكنت فكرة الجهاد ببعدها الديني في حقبة الكفاح ضد الاستعمار، واكتسبت مشروعيتها من الكفاح من أجل الخروج من القهر. وقد لُجِئَ إلى جهاد السيف كذلك، خلال التدخلات العسكرية الأجنبية. لكن الإسلام الراديكالي، بأشكاله الأكثر عنفًا، وظف الجهاد في الإرهاب وفي عمليات انتحارية، مستعملًا النزعة نحو التدمير الذاتي الموجودة لدى الأشخاص. كلمة «انتحار» خاطئة في هذه الحالة؛ لأن من ينتحر يقتل نفسه، لكن في هذه الحالات، المرشحين لتنفيذ هذه العمليات يريدون لا قتل أنفسهم فقط، إنما قتل الآخرين. إنهم يكرهون أنفسهم ويكرهون الحياة البشرية. وهكذا فإن مفهوم «الشهيد» قد وقع تحويل وجهته ليصبح تفضيلًا للموت على الحياة، وهو الأمر الذي لم يكن كذلك من قبلُ.
فالمجاهد يريد أن يقاوم حتى إن كلفه ذلك حياته، لكن الموت ليس هدفه. الرجال الذين استسلموا لنداء الموت هذا، ربطوا أنفسهم بقصة أصبحوا فيها أبطالًا مستشهدين. هناك أيضًا أقلية من النساء اللواتي يلبين النداء، ولكن من موقع مختلف. فالمرأة، في أغلب الأحيان، تريد أن تكون زوجة لجهادي لتحقق من خلال ذلك هدفين اثنين: أولا، تنجب أولادًا يضحون بأنفسهم من أجل الدولة الإسلامية المزعومة، وثانيًا، تلتحق بالجنة بفضل زوجها كمنذور للشهادة. فقد درسنا مع عالِم الأنثروبولوجيا فرهاد خسروخافار حالات عدة، وحاولنا فهم المحرك النفسي والاجتماعي الذي يحملهن على اختيار هذا المصير. نهاية داعش لا تعني نهاية الوهم الذكوري والأنثوي المرتبط بالجهاد الذي هو عبارة عن مادة مخدرة مهداة لمن يطلبها عندما تكون الظروف مناسبة.
فالكلمات يمكن أن تتحول إلى مواد مخدرة قوية، وتوفر العرض المغري يجعلها مطلوبة تمامًا مثلما يخلق عرض الثلاجة الرغبة في اقتنائها في موجة الحرارة. دورنا كمثقفين ودور الحكام يتمثل اليوم في توضيح معاني الجهاد الأربعة وتوفير إمكانية الجهاد المدني بدل الجهاد الحربي. صحيح، إنه طموح كبير ولكن، لا خيار أمامنا. فعندما تشهد الحضارات تحولات كبرى، مثلما يحدث اليوم في العالم الإسلامي، مع الارتفاع الديمغرافي، فإن السيطرة على الغرائز تعاني إخفاقاتٍ عدةً، وبخاصة مع عدم تحقق الطموحات المشروعة. حينها يرتفع منسوب الإحباط الذي يدفع إلى حلول طوباوية مجنونة.
وحول ما يجري من نقاشات حول الإسلام في فرنسا قال فتحي
يجب ألا نغفل دائمًا أن أوربا متعددة مثل الإسلام. وبلد مثل فرنسا لا يمكن اختزاله في صوت واحد وفي موقف واحد في علاقته لا مع الإسلام -لأن ذلك عام جدًّا، ويمكن أن نضع فيه ما يخطر على البال- ولكن في العلاقة مع المسلمين. هناك واقع واضح لا يمكن تجاهله اليوم وهو يمثل رهانًا حقيقيًّا، هو أنه يوجد في فرنسا ما بين 6 و8 ملايين مسلم، أي ما يمثل 10% من إجمالي السكان، والمسلمون هم الأقلية الدينية الأولى في البلاد. في غضون نصف قرن، تغير المشهد البشري في هذا البلد بطريقة غير مسبوقة. وهو أمر لا بد من أخذه في الحسبان. المسلمون في فرنسا هم بدورهم ليسوا كتلة متجانسة. فهم ينتمون لبلدان أصلية مختلفة وعلاقتهم مع الدين مختلفة وينتمون لفئات مختلفة. فعلى سبيل المثال، نصف مسلمي فرنسا لا يمارسون الشعائر الدينية، وجزء منهم ينتمون إلى الطبقات الاجتماعية ذات الدخل المتواضع أو الفقير (لا يمكن أن نحدد النسبة بالضبط لأن الإحصائيات المتعلقة بالانتماء الديني والعرقي ممنوعة في فرنسا)، ويعيشون في الضواحي الفرنسية في أوضاع صعبة اجتماعيًّا واقتصاديًّا.
في المقابل هناك مسلمون نجحوا في الاندماج وارتقوا السلم المهني وهم موجودون في مختلف المستويات الوظيفية، بما في ذلك أعلى الوظائف. هناك جزء من الفرنسيين يكنّون عداوة للمسلمين، وهي ليست موجهة من طرف الفئات المتواضعة فقط، إنما النخبة أيضًا. إنهم يمثلون تقريبًا 30% إذا ما استندنا إلى نتائج التصويت لفائدة الذين يعبرون صراحة عن كراهيتهم ورفضهم للمسلمين. وقد ساهمت العمليات الإرهابية فيما بين 2014 و2019م التي خلفت مئات القتلى والجرحى، في تقوية مشاعر الكراهية والخوف. ففرنسا هي أكثر البلدان الأوربية التي تأذّت من عمليات إرهابية باسم الإسلام. هناك أيضًا المظاهرات التي ينفذها منتمون للسلفية والإسلام الراديكالي، الذين يريدون تأكيد أنهم يمثلون الإسلام الحقيقي ويعلنون عن عدم اعترافهم بقوانين الجمهورية ويطالبون باتباع أحكام الشريعة. فما البلد الذي يقبل أن يرفض جزءٌ من سُكّانه قوانينَه؟ لا ننسى أن فرنسا دولة لائكية، وقوانينها لا تمنع اتباع الأديان وممارستها، لكن الدولة لا دِينَ لها، وتريد أن تبقى على الحياد. لأجل ذلك فإن القوانين تمنع إظهار الرموز الدينية في المدارس، وفي الإدارات. فقد شهدت فرنسا في تاريخها حروبًا دينية، وهي لا تريد أن يتدخل الدين في السياسة. الأمور إذن نسبية. فليس هناك عنصرية تمارسها الدولة ضد المسلمين. هناك فرنسيون يكرهون الإسلام ويخافون منه. وهناك مسلمون لديهم مشاعر معادية ضد البلد الذي يعيشون فيه؛ منهم من يحمل جنسية هذا البلد. انتقاد الدولة مسموح به في فرنسا وفي أوربا، لكن مشاعر الكراهية ومعاداة الوطن لا يمكن أن نجد لها أعذارًا.
وحول مطالباته في مؤلفاته وفي محاضراته من المسلمين أن يغيروا أنفسهم حتى يمكنهم أن يتحولوا إلى فاعلين قال الدكتور فتحي استلهمت ذلك من الآية القرآنية الجميلة: (إِنَّ اللهَ لاَ يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُواْ مَا بِأَنْفُسِهِمْ). وهي تعني أن التغيير لا يمكن أن يكون هبة من الله، إنه يأتي من مجهود داخلي للإنسان. يمكن أن نؤول ذلك على المستوى الروحاني، ويمكن أيضًا أن نؤوله على المستوى النفسي. فمن منظور التحليل النفسي، أقول: إنه يجب التمييز بين المخيل، الرمزي، والواقعي. فالمخيل يحيلنا إلى عالم المثال والحلم. أما الرمزي فهو يحيلنا إلى عالم اللغويات، مصدر كرامة الإنسان ووسيلته للتبادل مع أمثاله. أما الواقع فهو كل ما يتعلق بالموضوعية، بالحقيقة المجردة من كل عوامل ذاتية. وجميع هذه السجلات ضرورية لحياة الفرد والمجموعة، تجمعها روابط غير أنه لا بد من وضع حدود بينها حتى نقلل إمكانية الخلط بينها. ونحتاج في ذلك إلى عمل نقدي متمّعن وواضح وخلّاق. فالنقد هو من أهم العناصر في عملية التحديث. ولكن علينا أن نبدأ بنقد الذات، ونقد المجموعة التي ننتمي إليها قبل نقد الآخر.