الثقافة الجديدة تتعقب "أثر الأولياء" في عددها الاخير
تضمن العدد الاخير من مجلة الثقافة الجديدة. الصادرة
عن الهيئة العامة لقصور الثقافة برئاسة تحرير طارق الطاهر. ملفا يحمل عنوان "أثر الأولياء لا يزول"
وذلك مواكبًا لشهر رمضان الكريم، ومن مقالات
الملف كتب محمد المتيم موضوعاً بعنوان
"من السيدة لسيدنا الحسين.. مجلس الإدارة الروحي للمحروسة"، وكتب حامد محمد حامد حول "أسرار ضريح أحد الأولياء
الموجود في الزاوية القادرية، والمنسوب لأحد مشايخ الأيزيديين" وكتب أحمد
فوزي حميدة مقال حول " ظهور الأولياء في السيرة الشعبية ودورهم في إنقاذ الأبطال
من المخاطر" وجاء في مقال محمد المتيم " فى الأول من مارس، ومولد السيدة زينب يموج بالناس،
كنت أقف على ثلاثةٍ وعشرين عامًا انقضَتْ منذ أول يوم نزلت فيه أحد الموالد، طفلًا
فى السابعة يتوق لركوب المراجيح، وكنا –فى بلادنا المصهورة تحت شمس يوليو وغليان الوجد
فى قلوب المريدين- نُقايض صاحب المراجيح الوافد بكيزان الثلج مقابل خمس دقائق فى مراكب
مراجيحه الطائرة.
طَفَت الصورة بعيدة العهد على سطح الذاكرة، وأحد
الجلساء –فى خيمة من خيام المولد- يحكى لى عن رجل مقيم فى حى السيدة زينب، لا علاقة
له بالسياق الروحانى من قريب أو بعيد، لكنه ذو عادة سنوية –غاية فى الغرابة- لا ينقطع
عنها ما دام المولد الزينبى ينعقد، تتمثّل عادته فى أنه بمجرد بدأ أسبوع المولد الزينبى
يصطحب ستة أو سبعةً من البلطجية أو النشّالين فى المنطقة إلى شقة يمتلكها ولا يسكنها
أحد. ووفق اتفاقٍ مُرضٍ للطرفين يحتجزهم فيها طيلة فترة المولد مقابل ثلاث وجبات وعلبة
سجائر ومئة جنيه لكلٍ منهم يوميًا، مع ما يلزمهم من المكيّفات!
الحقّ أقول، لولا ما أعرفه من صدق الراوى، لتوقفت
طويلًا أمام الرواية، لكننى تجاوزت مصداقيتها إلى نقطة أخرى، هى فلسفة الرجل شديدة
الخصوصية والفرادة فى تصرُّفه المُغاير هذا. يستطرد نديمى "إنه بهذا يهدف إلى
كَفّ أذى الأشرار عن ضيوف السيدة زينب .. هذه هى طريقته فى الاحتفاء بالسيدة فى مولدها
الشريف".
الشائع فى أوساط الدراويش أن الاحتفاء بالمولد يكون
بإطعام الطعام، وإيواء الضيوف، وسقاية الماء والعصائر، وإنشاد المدائح، والتقاء المحبين
من الشمال والجنوب فى مواسم سنوية معينة، لكن أن يُغامر رجلٌ بسُمْعَتِه وماله وشقّته
ليحتفى على طريقته الخاصة، فهذا يُعَدُّ تجلّيًا جديدًا من تجليات الهيمنة الروحية
لآل البيت على أرواح المصريين، ونموذجًا مغايرًا من نماذج ارتباط المصريين بآل البيت.
تتردد فى أذنى عبارة "كَفّ الأذى عن ضيوف السيدة"
فأرتدّ زمنيًا لنحو 1400 عام، والسيدة زينب على مشارف مصر بعد مذبحة كربلاء التى قضى
فيها الإمام الحسين وذووه شهداء، وقد خرج مسلمة بن مخلد الأنصارى والى مصر مع وجهائها
وسائر أهلها لاستقبال السيدة سليلة بيت النبوة، حتى استقرّ بها المقام فى دارِه التى
توفّيت ودُفنت بها، وهناك ردَّدت دعاءها الشهير لأهل مصر "يا أهل مصر؛ نصرتُمونا
آلَ البيت.. نصركم الله، وآويتُمونا آلَ البيت.. آواكم الله، وأعنْتُمونا آلَ البيت..
أعانكم الله، جعل الله لكم يا أهل مصر من كل ضيقٍ مخرجًا ومن كل همٍّ فرجًا"،
الدعاء الذى سيصبح منشورًا تأسيسيًّا تقوم عليه علاقة المصريين بآل البيت. وعليه، فأيًّا
كانت طريقة تعاطيك فى المحبة مع آل البيت، فإنك ستدور فى فلكهم.
يقول الراوى:
تهرب تروح فين يا اللى سَهْمُهم صابَكْ
السِّتّ دعياك أمْ سيدنا الحسين جابك؟!
ويتساءل المتيم في مقاله قائلا من يكتب التاريخ،
وكيف؟!
ونحن نطالع كتب التاريخ، يُنبّهنا المختصّون إلى
ضرورة الاحتفاظ بقدر معين من الحذر تجاه صدق الرواية فـ"التاريخ يكتُبُه المنتصر"،
لكنّ الحدث المفصلى فى تاريخ آل البيت/موقعة كربلاء خرجوا منه بالخسارة العسكرية وأجسادهم
ممدَّة على رمال الصحراء، ومع هذا لم يُمْحَ جلالهم من القلوب، ولم تُفْلِح الدعاية
الأموية فى انتزاع سلطانهم على القلوب. هذا على مستوى التاريخ الرسمى، بيْدَ أننا
–وفى مصر تحديدًا- نقف أمام تاريخ شفاهى من نوع خاصّ، صاغه الوجدان المصرى لآل البيت
الذين لم تتوقف هجراتهم لمصر على تتابع القرون.
إن كل حديث عن آل البيت فى مصر يعنى بالدرجة الأول
المقامَيْن الشريفين للإمام الحسين والسيدة زينب، وعن طبيعة علاقتهما لا يُخبرنا كِتاب
التاريخ بأكثر من أنهما شقيقان نشآ فى بيت
واحد، وكانا مضرب المثل فى الشجاعة والحكمة، يسيران معًا إلى كربلاء، ليكون هو الرمز
وهى السند، إذْ وراء كل رجل عظيم امرأة عظيمة ستحمل أعباء المهمة بعد استشهاده، ويطوى
المؤرِّخ صفحاته.
لكن الوجدان المصرى الصوفى الشعبى له رصده الخاص
لهذه العلاقة، رصدٌ غير مستندٍ لأى أدلّة علمية/تاريخية، لكنه ناتجٌ عن تعلّق شديد،
وربما عن حالة عرفانية، جعلت هذه المعانى أكيدة الرسوخ فى الوجدان الدينى (الشعبي)
لدى المصريين.
ينطلق المؤرخ الشعبى من حيث توقّف المؤرخ الرسمى،
فبعدما خشى يزيد بن معاوية –خليفة المسلمين آنذاك- ووالى المدينة من أن تروى السيدة
زينب تفاصيل ما جرى فى كربلاء لأهل المدينة، فيثور أهلها على الأمويين، طُلِبَ منها
أن ترحل عن الحجاز، فأشار عليها ابن عباس بالرحيل إلى مصر. من هنا يبدأ المؤرخ الشعبى
فى تفسير وقوع الاختيار على مصر تحديدًا، معلّلًا الأمر بأن تكون السيدة زينب ومن معها
من آل البيت فى شرف استقبال الرأس الحُسينى الشريف عندما يأتى لمصر بعد قرون، حيث يجرى
تأسيس الدولة الروحية لآل البيت. يكونون فى استقباله لأنه جرى فى علم الله أنه هو الإمام
وصاحب مصر ورئيس دولة الباطن بها - "دولة الأولياء"، ومن هنا شاعت جدًا فى
أوساط الدراويش تسمية الإمام الحسين بـ"رئيس مصر".
أمّا عن السيدة زينب فتتعدّد ألقابها التى يناديها
بها الزوار، فهى "صاحبة الشورى" و"المحكمة" و"رئيسة الديوان"،
وبمعادلة بسيطة لهذه الألقاب مع واقع الحياة اليوم، تجد محبّى آل البيت يعتقدون فى
دولة روحية ذات مؤسسات، فالسلطة التشريعية والتنفيذية والقضائية للسيدة زينب، ومؤسسة
الرئاسة للإمام الحسين.
وما دام مقام الإمام الحسين هو الأرفع مرتبةً فى
مصر بين المقامات قاطبةً، فسينعكس هذا على آداب الزيارة عند القادمين من خارج المحروسة،
إذ تقتضى الآداب أن تبدأ بزيارة السيدة زينب ثم تُدخلك هى على الإمام، وإن لم يكن،
فلتبدأ بزيارة الشيخ أحمد الدردير -مقامه معروف بالباطنية- المعروف عند شعب آل البيت
بلقب "وزير سيدنا الحسين"، وهو يتولى تهيئتك روحيًا لزيارة الإمام والدخول
عليه.
وقد تقرّر عند أهل هذا الشأن أنك حال زيارتك القاهرة
إذا ضاق بك الوقت وتعذَّرت زيارة سكّانها من الأولياء، فزيارة الإمام الحسين تُغنيك
عن بقية الزيارات، ولا توجد زيارة تُغنى عنها، ولو طُفْتَ على سائر أولياء المحروسة
دون زيارة الإمام، فأنت راجعٌ بخُفّى حُنين!
يقول الراوى:
سيدنا االحسين مملكة .. سيدنا الحسن سلطان
والسيدة محكمة .. والأولياء ديدبان
واكبر ولى على باب سيّدنا الحسين خدّام
الوعى الشعبى يرى أن السيدة "أم العواجز"
هى محل الحنان والطيبة، حيث يغلب حال البسط، فى حين يحلّ الجلال والمهابة على المقام
الحُسينى، فتشيع لفظة "الإمام حربى أو أكاديمية عسكرية" حيث يجب على المريد
أو الزائر التزام أقصى درجات الحذر وضبط الخواطر كيلا يُحاسب بالتفاتة.
لكن الوجه الأبرز للفرق بين اختصاصات السيدة زينب
واختصاصات الإمام الحسين الروحية فى الوعى الشعبى المصرى يتمثّل فى قضاء الحوائج، فطلبات
الجماهير فى العموم كشأن داخلى يشمل قضايا الزواج والإنجاب وحلّ المشاكل ورفع المظالم
وكل الشؤون اليومية تقضى فيها السيدة فى الديوان الذى ترأسه، أمّا ما يعترى الدولة
(مصر) ككيان، وما يهددها عامةً من خطوب، كالحرب مثلًا، فالإمام هو حامى الدولة كدولة
وكيان، ومعه فى هذا جُنْد السيدة من ديوان الأولياء. يرصد المدّاح الشعبى هذه الزاوية،
فى الفترة ما بين نكسة 1967 وحرب أكتوبر 1973، فيُنشِد:
أمدح نَبى زين وآدى سِتّ النِّسا زينَب
لابسة حرير سُندُسى ومن تحت الحرير زينَب
نَدَه سيدنا الحسين مِن برزَخُه روحي
شوفى اليهود دخلوا مصر وِضْروحي
هحارب بروحى .. هاتيلى السيف يا زينَب
هذه الأبيات توضِّح مدى الاعتقاد الراسخ عند الصوفية
فى مصر فى فكرة الحماية الباطنية لمصر من دولة الأولياء وعلى رأسها الإمام الحسين،
لكنَّ جملة "هاتيلى السيف يا زينب" تحمل إشارةً واضحةً للارتباط الوثيق
–فى الوعى الشعبى- بين الإمام والسيدة، داخل دولة الأنوار.
ما لا يعرفه كثيرون أن مولد الإمام الحسين الفعلى
يحلّ فى الخامس من شعبان كل عام، بعد مولد السيدة زينب بأيام، ويحتفل به قلّة من أهل
المحروسة، مع مَن تخلَّف من ضيوف المولد الزينبى من أهل الأقاليم. أما الاحتفال الحاشد
الذى ينعقد فى ربيع الثانى، والذى اشتهر بأنه "مولد الحسين"؛ فهذه ذكرى دخول
الرأس الشريف إلى مصر، بعد أن انتقل إلى مصر من عسقلان فى عهد الفاطميين، خشيةً عليه
من الحملات الصليبية على بلاد الشام آنذاك. الحدث المثبت تاريخيًا عند جملة من الرحّالة
والمؤرخين، أبرزهم: الإمام الفاروقى ت: 572ه، وابن جبير المؤرخ ت: 614ه، وابن بطوطة
الرحالة والمؤرخ ت: 799ه، والمقريزى صاحب الخطط ت: 845ه، ومن المعاصرين د. سعاد ماهر،
عميدة كلية الآثار سابقًا، ولها تحقيق حاسم فى المسألة، وغيرهم كثيرون.
تبقّى أن نشير إلى أنه لو كانت ثمة دلالة لاحتفال
المصريين بدخول الرأس الشريف باحتشادٍ يفوق المولد الأصلىّ؛ فلأنهم يرون ميلاد المحروسة
الروحى وكونها "محروسة" باطنيًا قد تأكّد ساعة دخول الإمام
الحسين إلى مصر.
يقول الراوى:
رنّيت يا كاس قولّى على سبب رنّك
رنيت لوحدك أَمْ سيدنا الحسين رنَّك؟
رنّيت يا كاس على العشاق فى الحضرة
رنّيت لوحدك ولّا السيدة حاضرة؟
وفي مقاله عن مجلس الاولياء يقول محمد المتيم عن
الديوان ان الديوان هو مجمعٌ روحانى للأولياء (رجال الله) لبحث ودراسة أحوال وشؤون
الخلق من المريدين أو أصحاب الشكاوى، وترأَسُه كما أسلفنا السيدة زينب، و"الديوان"
مفهومٌ له أبعاده التى تناولتها كتب عددٍ من المتصوفة المتقدّمين. من اختصاصات هذا
الديوان ردّ الشارد والضائع، وتعيين المقامات والمشاهد للمنتقلين، وترقية الأولياء
محلّ بعضهم بعضًا، وإدارة شؤون المجاذيب السوّاحين، والشفاعة فى قضاء حوائج الخلق،
والتربية الباطنية لروح من لا شيخ له، وسُقيا المعارف لنفوس المحبين، ومحاكمة المقصّرين
فى حق الطريق وفق ما يقتضيه الحال.
هذه المفاهيم، لا تغيب عن الوجدان الدينى المتصوف
فى مصر، واتساقًا معها يرى أهل هذ الشأن توزُّع الأولياء على خريطة مصر، التى يستقرّ
شمالها القطب المرسى أبو العباس فى الإسكندرية، وجنوبها القطب عبد الرحيم القنائى والقطب
أبو الحجاج الأقصرى، وشرقها القطب أبو الحسن الشاذلى، وفى دلتاها القطبان العظيمان
السيد البدوى فى طنطا والسيد الدسوقى فى دسوق، وفى القلب منها السيدة والإمام الحسين،
فى حالة تطويق للجغرافيا المصرية حمايةً لها من جميع الجهات بأهل السطوة الروحية والسلطان.
هذا بخلاف وجود سلطان روحى من رجال الله لكل بلدة مصرية على حِدَة، عى سبيل المثال،
الأولياء: العارف والفرغل والفولى فى محافظات: سوهاج وأسيوط والمنيا، على التوالى،
وكل هؤلاء من أعمدة الديوان الزينبى الذى تحدّثنا عنه.
يوقن أهل هذا الشأن أتمّ اليقين أن أولياء مصر شاركوا
فى حرب أكتوبر بأرواحهم، وقد حُكى لى أن رجلًا من محافظة غير محافظتنا جاء عام 74 يسأل
عن زميل له كان معه على الجبهة فى حرب العاشر من رمضان، وقال له اسمى فلان من بلدة
كذا، فلما وصل وسأل لم يُطابق الاسم إلا وليًّا منتقلًا فى هذه القرية قبل مئتى عام!
وأقل ما فى هذا الشأن هو الارتباط فى أذهان الناس
بين أسماء قادة الحرب وأسماء الأولياء، فيتخذونها مسلكًا وذريعةً للبُشرَى، مستدلّين
بأسماء مثل الشهيد إبراهيم (الرفاعى)، سعد الدين (الشاذلى)، أحمد (بدوى)، والإشارة
–عندهم- تُغنى عن العبارة.