العراق فى مفترق طرق.. ثنائية الفساد والميليشيات
الخميس 01/سبتمبر/2022 - 01:39 م
طباعة
روبير الفارس
أحداث متلاحقة داخل بغداد، مع قبض زعيم التيار الصدري مقتدى الصدر على مفاتيح الصراع والتهدئة داخل العراق، ومحاولة إيران سحب البساط من تحت أقدام الشطر، الذى اصبح يشكل الخطر الأكبر على نفوذها داخل بلاد الرافدين، مع تراجع كبير للقوى السياسية والمجموعات المسلحة الموالية لطهران. ورأى مراقبون أن العراق أمام سيناريوهين، صراع شيعي- شيعي، يؤدى إلى الفوضى أو تحقيق مقتدى الصدر أهدافه، بحل البرلمان، وهو ما يشكل الانتصار الأبرز له، وسيطرة على المشهد السياسي، وخسارة طهران جولة كبيرة أمام الزعيم الشيعي العراقى الذى مثل لكثير من أتباعه رجل المرحلة، والمدافع عن استقلال القرار العراقي.
ثنائية الفساد والميليشيات.. تقود إلى الانفجار
أرجع خبراء فى الشأن العراقى تصاعد الأوضاع فى البلاد، واقتحام المنطقة الخضراء، لانتشار الفساد، والبطالة والنفوذ الايرانى فى البلاد، والذى اصبح مرفوضا لدى قطاع واسع من الشعب العراقى، الذى يرى فى إيران دولة تستهدف استقرار وامن وثروات العراقيين.
وشهد العراق الإثنين الماضى، اقتحام المنطقة الخضراء، وأسفرت الاشتباكات عن سقوط ٢٥ قتيلاً و٣٨٠ جريحاً، وسط اشتبكات بين انصار التيار الصدرى وعدد من المجموعات المسلحة المقربة من إيران.
يقول إياد العناز الباحث فى مركز الأمّة للدراسات والتطوير أن العراق يمتلك خامس احتياطى للنفط عالميا بواقع ١٤٣مليار برميل وينتج منذ عام ٢٠١٢ ما يعادل ٣.٤ مليون برميل يوميا ويمتلك من الغاز الطبيعى ١٣٢ تريليون قدم مكعب.
ويضيف: هذه الإمكانيات والموارد الطبيعية لم يتم استغلالها بشكل إيجابى يساهم فى تعزيز البنية الاقتصادية بإقامة المشاريع الاستراتيجية التى تعزز ميادين التنمية الاجتماعية بل ابقت البلاد وخاصة بعد الاحتلال الأمريكى للعراق فى التاسع من ابريل عام ٢٠٠٣ فى حالة من التخلف.
وتابع «العناز": وابتعد عن التطور التكنولوجى والصحى والعلمى بسبب الإجراءات التى تم اتخاذها من قبل المحتل الأمريكى الذى أسس لسياسة الاقتصاد الحر واقتصاد السوق وهى التى عمقت أزمة الفقر واتساعه وادت إلى نشوء طبقة طفيلية مستغلة من عدد من الشخوص التى تمتلك علاقات واسعة ضمن الإطار الحكومى المؤسساتى وحتى بين مسئولى أحزاب السلطة الحاكمة فى بغداد وهم الذين شكلوا طبقة اجتماعية من الأغنياء والحواسم مما أدى إلى هبوط المستوى المعيشى للطبقة المتوسطة وتدنى الأحوال المعاشية للطبقة الكادحة.
الفقر فى العراق
لهذه الأسباب والوقائع الاقتصادية والاجتماعية حل العراق فى المرتبة (٧٩) عالميا من أصل (١٩٢) دولة ضمن قائمة أفقر شعوب العالم واحتل المرتبة (الثامنة) عربيا وفقا للدراسة التى قدمتها مجلة (جلوبال فينانس) الأمريكية والتى رأت أن شعب العراق يعيش أقسى فترات التدهور الاقتصادى والوضع الإنسانى المأساوى وسوء الأحوال المعاشية إذ زادت نسبة البطالة والفقر بشكل ملحوظ بسبب غياب الإجراءات اللازمة بالحد من مشكلة الفقر وأصبح ربع سكان العراق ونسبتهم ٢٥٪ تحت خط الفقر.
ووفق آخر دراسة أجرتها وزارة التخطيط العراقية بالتعاون مع البنك الدولى، فإن قرابة (١٠) ملايين مواطن فى البلاد يعيشون باقل من دولارين فى اليوم الواحد حسب الوصف المالى الميدانى للبنك الدولى. واعتمدت الدراسة على تحديد النسبة الخاصة بمعدلات التضخم وحجم الانفاق والدخل الأسرى للعراقيين وأسعار المواد الغذائية وارتفاعها فى الأسواق المحلية الذى أكده برنامج الأمم المتحدة الغذائى باشارته إلى ارتفاع نسبة أسعار السلة الغذائية بنحو ١٤٪ نتيجة تغيير سعر صرف الدولار وعدم وجود إمكانية ميدانية لمعالجة أسباب الارتفاع المالى الذى أدى إلى انخفاض القدرة الشرائية للمواطن العراقى.
ولم تتمكن أى من الحكومات العراقية التى تلت الاحتلال الأمريكى من إيجاد مفاعيل حقيقية ورؤى اقتصادية فعالة فى مواجهة الأزمات الاجتماعية والاقتصادية التى آلت إليها البلاد والتى أدت إلى غياب فرص العمل وانخفاض الناتج المحلى بنحو ٣٠٪. وعدم إقرار الموازنة المالية لعام ٢٠٢٢ لحد الآن وسيطرة الأحزاب والميليشيات والكتل السياسية على الوظائف العامة والأموال الحكومية ومشاريع القطاعين الخاص والعام بحيث وصلت نسبة البطالة فى المجتمع العراقى إلى ٣٦٪ وشكلت أعلى نسبة الفقر فى محافظات (البصرة وميسان والمثنى والناصرية).
وساهمت عدة عوامل فى اتساع ظاهرة الفقر فى العراق كان منها تدهور وتدنى مستوى التعليم فى البلاد الذى أسهم فى ابراز ظاهرة التخلف والجهل وتأثيرها على التنمية وسوء إدارة الموارد المائية وضعف الإمكانيات العلمية والطاقات الشبابية الفاعلة المنتجة وساهمت الظروف القاسية فى انخفاض استهلاك الغذاء وتدنى الصحة العامة وزيادة نسبة الأمراض والوفيات وعدم توفر السكن الصحى الملائم وانعدام الدخل المادى ومحدوديته.
كما أن النتائج التى آلت إليها البلاد بسبب الاحتلال الامريكى والنفوذ والتمدد الإيرانى أدت إلى سوء توزيع الثروة الوطنية وحرمان فئات عديدة منها وظهور الفساد المالى والإدارى الذى أصبح سمة من سمات المؤسسة الاقتصادية والتى مكنت أدوات التبعية السياسية من تثبيت مفهوم المحاصصة الطائفية وعدم الانتباه الى مصالح أبناء الشعب العراقى وأصبح العراق من بين الدول الثلاث الأولى الأكثر فسادا حسب منظمة الشفافية الدولية.
الطائفية والميليشيات
ويرى الباحث جهاد بشير فى حادث مقتل عدد من الأشخاص بعد وقوع انهيارات ترابية فى منطقة تتخذها جهات تجمع بين الطائفية والسياسة «مزارًا دينيًا» فى مدينة كربلاء؛ نموذجا من منهجية الوهم والتجهيل التى تمارسها أحزاب العملية السياسية وتحاول من خلالها تمرير برامجها على حساب حياة الناس وأفهامهم وعواطفهم غير المنضبطة، فى ظل أجواء الأزمة السياسية التى أمست تعج بشعارات فارغة ومواقف متكلفة لا مقصد فيها سوى إطالة أمد الفوضى قدر الإمكان.
ويقول «بشير": منذ أن تأسست العملية السياسية قبل عشرين سنة وهى تقوم على ديمومة الفوضى وعدم الاستقرار، ويسعى المتحكمون بها على إبقاء حالة الاضطراب سارية على الصعيدين الأمنى والسياسى، وعلى مستوى الاقتصاد، علاوة على محاولات غير مستكينة للإضرار العميق بالنظام المجتمعى العراقى وإفساده بطرق شتى.
بحيث يغدو ممزقًا وباليًا لا قبل له فى التصدى للمخاطر التى تواجهه ولا يقوى على اتخاذ خطوات للتغيير أو الثورة على النظام السياسى العقيم الذى لا يولّد غير الأزمات المتفاوتة فى تعقيداتها وأعماقها، وعلى هذا المنوال تتمحور مسالك أحزاب السلطة وحوله تدور أهدافها المرحلية.
الطائفية وثقافة التجهيل التى تنتهجها أحزاب حكومة بغداد عبر قصص واهية ومواقف مؤلفة لا أساس لها فى الواقع أو التأريخ ولا يقبلها عقل أو يقرّها منطق؛ سبل مقصودة تتعكز عليها أدوات العملية السياسة لإنتاج حالة الفوضى المقصودة، وإشغال الناس بما لا يحقق لهم فى المآل مصلحة أو يلبى لهم حاجة، سوى تحصيل مزيد من المكاسب التى تستأثر بها السلطة وميليشياتها، والتغطية على فسادها وسرقاتها واستحواذها على أموال العراقيين ومقدرات بلدهم.
بين الفوضى والطائفية علاقة طردية، فكلما كان المد الطائفى حاضرًا تصاعدت نسبة الفوضى واتسعت مساحات الأرضية الممهدة لها، وما جرى فى حادث «مزار كربلاء» حيث قضى أشخاص وأصيب آخرون؛ انعكاس واضح لذلك، وهو نتيجة لا تقف عندها الرؤى كثيرًا إلا فيما يتعلق بالأوهام. فبعد ابتداع المكان واختلاق قصته، ثم حث الناس على التوجه إليه حينما أعلنت السلطات المحلية قبل سنوات قليلة تبديدها أكثر من مليار دينار على ترميمه وتطويره، وقع الحادث وسقط الضحايا فتبين فورًا أن المكان عارٍ عن الإعمار، ومفتقر للتطوير.
وسرعان ما تنصلت الجهات التى كانت تستدرج الناس وتحثهم على التوجه إليه من مسئوليتها عن الموضوع كلّه، وتبعتها بذلك وسائل الإعلام الحكومية والحزبية التى انصرفت عن المشهد بعدما كسبت جولة طائفية جديدة، لتعود صوب الأزمة الجارية بين أحزاب العملية السياسية، وتستعرض مشهدًا آخر بانتظار ضوء أخضر من المتحكمين بها للانتقال نحو خطوة لاحقة.
وتأتى مسرحية تعطيل عمل السلطة القضائية فى العراق عشية حادث المزار لتكمل مشهد استجلاب الفوضى، ومرة أخرى تقع شريحة من الجماهير التى وُظفت حزبيًا نتيجة تردى حالاتها المادية وتفاقم عوزها وفقرها، ضحية خداع سياسى وتبارٍ بين تيار الصدر وإطار التنسيق وميليشياتهما.
لتأخذ الأحداث منحى أفقيًا آخر هدفه إطالة أمد الأزمة واستمرار حالة اللانظام والتى تعنى بالضرورة تواصل تحقيق المصالح الحزبية والمكاسب المادية التى لا يراها الشعب ولا تقترب منه بحال.
وبالحديث عن الأزمات وامتدادها الأفقى فى إطار العملية السياسية، فإن محاولات التعويل على ما يجرى من خلافات بين طرفى الأزمة بوصفه سببًا لانهيار العملية ونظامها السياسى، وهم لا يختلف كثيرًا عن الوهم الذى يقع فيه سذج الناس المستدرجين طائفيًا والذين لا يجنون من تبعيتهم شيئًا سوى المصائب والأزمات.
إذ إن «ضوابط» و«أصول» العملية السياسية لا تسمح لأزماتها المفتعلة أن تأخذ منحًى عموديًا يقود إلى انهيارها، وكل من فيها من شخصيات وأحزاب وميليشيات لا تستطيع أن تتجاوز السقف الممنوح لها فى تصعيد أو تطوّر أحداث أو تهديد من أى نوع؛ لذلك نجدها تتردد جيئة وذهابًا على خطوط أفقية مكررة غير مسموح لها بالصعود.. والله غالب على أمره.