داعش والسلفية: تطابق الأهداف و تباين الوسائل

السبت 19/أكتوبر/2024 - 02:25 ص
طباعة داعش والسلفية: تطابق حسام الحداد
 
الافتتاحية التي قدمتها صحيفة "النبأ" في عددها الأخير 465 الصادر صباح الجمعة 18 اكتوبر 2024، تدور حول قضية محورية في الفكر السلفي التقليدي، وهي قضية "مصادر التلقي" في الإسلام والعودة إلى "الكتاب والسنة" كمصدر وحيد للعلم والتوجيه. هذه الرؤية تنتمي إلى تيارات السلفية بشكل عام التي ترفض أي قراءة مغايرة لقرائتها للنصوص الشرعية ويعتبرونها انحراف عن النصوص لابتعادها عن فهم السلف في القرون الثلاثة الأولى والذي يؤدّي حسب رؤيتهم إلى الفرقة والضلال متناسين أن بدايات الفرقة بين المسلمين كانت في النصف الأول من القرن الأول للهجرة والمعركة الكبرى التي أدت الى افتراق الامة الى معسكرين كبيرين بعد ذلك "السنة والشيعة" وما تلى هذا النقسام الى تعدد الفرق والمذاهب.
البنية الأساسية للافتتاحية تقوم على مفهوم الثنائية الحادة بين "المنهل الصافي" المتمثل في الكتاب والسنة وفهم السلف، و"المنهل المكدّر" الذي يمثل انحرافات العصر الحديث من بدع وابتكارات علمية وفكرية واجتماعية. هذه الاستراتيجية تهدف إلى إنشاء معارضة بين الخير المطلق (التوحيد والطاعة للنص) والشر المطلق (الابتداع والضلال).
كما تعتمد الافتتاحية على بناء طباقي، حيث يتم تصنيف كل ما هو خارج عن الإطار التقليدي كـ"بدعة" أو "ضلالة"، وهذه البنية الطباقية متسقة مع المنهج السلفي الذي يعيد الأشياء إلى أصول ثنائية: الحق مقابل الباطل، السنة مقابل البدعة، الولاء مقابل البراء.
الهيمنة الخطابية والتأثير:
الافتتاحية تفرض هيمنة خطابية باستخدام لغة قوية، تصف الوضع الراهن بأنه "كارثي" معتبرة أن وسائل التواصل الاجتماعي ("فقهاء العنكبوتية") تمثل مفسدة كبيرة على العقيدة الإسلامية. هذه اللغة تسعى لإثارة القلق والذعر بين القراء الذين يشعرون بالتضليل وفقدان الهوية الإسلامية الصحيحة. هنا، الخطاب يميل إلى العاطفية والتحريض.
الأدوات البلاغية:
يعتمد كاتب الافتتاحية على الاستشهاد بالآيات والأحاديث والتفاسير لتدعيم حجته. هذه الآلية شائعة في الخطاب السلفي الذي يعتبر النصوص الدينية قاعدة لفهم الواقع وتفسيره. كذلك يشير الكاتب إلى السلف الصالح ويستخدم أقوالهم كمصدر للشرعية الفكرية. على سبيل المثال، يتم الاقتباس من ابن تيمية وابن سيرين لتأكيد أن الانحراف عن مسار السلف يؤدي إلى الضلال.
التهديد والتخويف:
يستخدم النص لغة التهديد المباشر لمن يخالف المنهج السلفي. على سبيل المثال، يصف من يخوض في "بحار التيه" بأنه يعود "جثة هامدة". هذا النوع من التخويف يمثل جزءاً من الاستراتيجية التي تعتمد على ترهيب المتلقي لدفعه للعودة إلى مصادر التلقي الأصلية كما يحددها الكاتب.
المصطلحات المفتاحية:
فقهاء العنكبوتية: هذا المصطلح يعكس الاحتقار لفكرة أن الفتوى يمكن أن تصدر عن غير المتخصصين باستخدام وسائل التواصل الاجتماعي، وهو نوع من الخطاب المعادي للحداثة والتكنولوجيا.
الولاء والبراء: مفهوم مركزي في الفكر السلفي، حيث الولاء يجب أن يكون فقط للمسلمين وللسنة، والبراء من البدع والمخالفين. النص يستحضر هذا المفهوم كأداة لخلق انقسام بين الحق والباطل.
الربط مع التيارات السلفية الأخرى:
هذه الافتتاحية تتماشى بشكل مباشر مع خطاب السلفية العلمية "سلفية الاسكندرية"، التي تركز على ضرورة العودة إلى النصوص الشرعية وتفسيرها بفهم السلف الصالح. السلفية العلمية تعتبر "الكتاب والسنة" المصدرين الوحيدين الصافيين، وترفض الاجتهادات الحديثة والفتاوى التي تتأثر بالأوضاع الاجتماعية والسياسية.
وبما ان حزب النور السلفي ممثل لهذا الفصيل فانه يعتمد أيضاً على هذه الأيديولوجية، لكنه يختلف في بعض النقاط الاستراتيجية. على الرغم من أن حزب النور يتمسك بنفس مصادر التلقي ويؤكد على الولاء والبراء، إلا أنه أبدى مرونة في التعامل مع الدولة والتحديات السياسية. هذا يضع الحزب في موقع وسط بين السلفية التقليدية والسلفية الأكثر راديكالية. يمكن القول إن حزب النور يتفق مع الافتتاحية في التشديد على العقيدة والولاء للسنة، لكنه يختلف في قبوله ببعض المرونة في التعامل مع الحداثة والسياسة.
أما السلفية السرورية تمثل فصيلا آخر داخل الفكر السلفي يميل إلى الانخراط في السياسة والعمل الحركي. السرورية تتبنى أيضاً نفس الخطاب فيما يتعلق بضرورة العودة إلى الكتاب والسنة، لكنها تختلف في إضفاء أهمية على العمل السياسي والنضال ضد الأنظمة التي تعتبرها "طاغوتية". السروريون يشتركون في نفس النقد لـ"فقهاء العنكبوتية"، لكنهم يختلفون في الاستراتيجية العملية التي تتضمن الدعوة إلى مواجهة الأنظمة السياسية.
وتهاجم الافتتاحية بشدة معظم الفصائل الدينية الأخرى وتطلق عليهم "فقهاء البدعة" و"فقهاء العنكبوتية"، مما يضعها في تضاد مع التيارات السلفية الأخرى التي قد تعتمد على وسائل التواصل الاجتماعي لنشر آرائها. التيارات التي قد تتعرض للنقد في هذا السياق تشمل أى حركة أو جماعة سلفية أخرى حتى لو كانت جهادية، والتي تستغل التكنولوجيا للدعوة إلى "الجهاد" ونشر أفكارها.
نقاط التلاقي والاختلاف:
نقاط التلاقي:
كل التيارات السلفية تتفق على أن الكتاب والسنة هما المصدران الأصليان للعلم الديني، ويجب العودة إليهما عند الفتاوى. وكذلك تتفق كل هذه التيارات على أهمية مفهوم الولاء والبراء، وإن كان تفسيره يختلف من تيار لأخر.
نقاط الاختلاف:
السلفية العلمية تبتعد عن السياسة، في حين أن حزب النور والسلفية السرورية لديهما تعاملات مباشرة مع الأنظمة السياسية.
وتنتقد الافتتاحية بشدة استخدام وسائل التواصل الاجتماعي كوسيلة لنشر الفتاوى، بينما بعض السلفيات الأخرى (مثل السلفية الجهادية) تستخدم هذه الوسائل بشكل أساسي لنشر أفكارها.
دلالات الافتتاحية:
1. تعزيز الثنائية الصارمة بين "الحق" و"الباطل":
الافتتاحية تعتمد على بناء ثنائية حادة بين "الحق" المتمثل في التمسك بالكتاب والسنة وفهم السلف، و"الباطل" الذي يتمثل في الابتداع والخروج عن هذا الإطار. هذه الثنائية لا تترك مساحة للتعددية أو الاجتهاد، مما يعزز فكرة الإقصاء لأي فكر أو ممارسة دينية تخالف هذا الفهم. هذه الثنائية الصارمة قد تساهم في تعزيز النظرة الأحادية للعالم، وهو ما يؤدي إلى تصنيف الناس إما في جانب "الحق" أو "الضلال". هذا النوع من التفكير يعزز العقلية التكفيرية، حيث يصبح من السهل على الأفراد إقصاء الآخرين واعتبارهم خارجين عن الدين أو غير ملتزمين بالإسلام الصحيح.
2. إنتاج "الولاء والبراء" كأداة للفصل المجتمعي:
مفهوم "الولاء والبراء" الذي يعتمده الخطاب السلفي بشكل كبير يمثل أداة للفصل بين "المؤمن" و"المبتدع"، وهو هنا يعني الولاء التام لمن يتبع الفهم السلفي، والبراء من كل من يخالفه. هذا المفهوم يُستخدم لتقسيم المجتمع الإسلامي نفسه إلى "الطائعين" و"المضللين"، ويجعل من السهل على الأتباع أن يروا في المخالفين أعداءً للإسلام، مما يعمق مشاعر العداء والانقسام داخل المجتمعات.
3. التركيز على الاستعلاء الديني:
النص يعزز مفهوم الاستعلاء الديني عبر تقديم خطاب يوحي بأن الفهم السلفي هو الفهم "الوحيد" للإسلام، وأن كل من يخالف هذا الفهم هو في حالة ضلال. هذا النوع من الخطاب ينتج نظرة متعالية تجاه الآخرين، سواء كانوا مسلمين بتوجهات مختلفة أو غير مسلمين، مما يسهم في تنامي الكراهية تجاه الآخر. هذا الاستعلاء يمكن أن يؤدي إلى تبرير العنف ضد "المخالفين" باعتباره دفاعاً عن "الدين الحق".
4. التخويف والترهيب:
استخدام لغة التخويف والترهيب في الخطاب، مثل تصوير من يخالف التوجه السلفي كمن يسبح في "بحار التيه" ويعود "جثة هامدة"، يُستخدم كأداة لتحفيز المشاعر السلبية تجاه التجديد أو الاجتهاد. هذا الخطاب يدفع الأفراد إلى الخوف من الانحراف عن "الطريق القويم"، ويجعل من السهل التأثير عليهم للانخراط في الأفكار المتشددة التي تسعى إلى حماية "الدين الحق" بأي وسيلة. التخويف من "الضلال" يمكن أن يكون محفزاً لتقبل العنف كوسيلة دفاعية عن العقيدة.
5. رفض الحداثة ووسائل التواصل الاجتماعي:
الافتتاحية توجه نقداً شديداً لـ"فقهاء العنكبوتية"، في إشارة إلى الفتاوى والأفكار التي تنتشر عبر وسائل التواصل الاجتماعي من قبل غير المتخصصين. هذا النقد قد يبدو منطقياً في سياق الحفاظ على المنهج السلفي، ولكنه يعكس أيضاً موقفاً معادياً للحداثة والتكنولوجيا، مما يعزز فكرة أن أي تحديث أو تطور في وسائل نشر الفكر الإسلامي يجب أن يُقابل بالرفض. هذا الموقف يشجع على الانغلاق الفكري ورفض الانفتاح على العالم الحديث، مما يعزز التطرف في مواجهة مظاهر التغيير والحداثة.
6. التحريض على الجهاد الفكري أو العنيف:
بالرغم من أن الافتتاحية تركز على نقد الفقهاء غير المؤهلين، إلا أن الخطاب الذي يتبنى فكرة "الحفاظ على نقاء الدين" قد يشجع في بعض الحالات على تبني أفكار جهادية. يمكن أن يُفسر هذا الخطاب على أنه دعوة لـ"الجهاد الفكري" الذي يهدف إلى مواجهة ما يُعتبر "انحرافاً" أو "بدعاً"، وهو ما قد يتطور إلى الجهاد العنيف ضد من يُعتقد أنهم "أعداء الإسلام" في الداخل أو الخارج.
7. الإقصاء المجتمعي والديني:
الافتتاحية تدعو بوضوح إلى رفض أي فكر أو منهج يختلف عن المنهج السلفي، وهو ما يُنتج خطاباً إقصائياً. هذا النوع من الخطاب يسهم في عزل المجموعات المتشددة عن المجتمع الأوسع، مما يعزز تطرفها ويعمق العداء بين الأفراد والمجتمعات. الإقصاء يمكن أن يؤدي إلى نشوء خلايا متطرفة ترى في نفسها جماعة "الناجين" الوحيدة، وتسعى إلى نشر التطرف والعنف ضد من تراه منحرفاً عن "الصراط المستقيم".
تأثير الافتتاحية على تنامي التطرف:
1. تعزيز العقلية التكفيرية:
الافتتاحية تؤسس لفكرة أن كل من يخالف الفهم السلفي هو ضال ومنحرف، وهذا يعزز عقلية التكفير. التطرف ينبع غالباً من هذه العقلية التي تجعل من السهل على الأفراد اعتبار الآخرين "كفاراً" أو "خارجين عن الملة"، مما يسهم في تبرير العنف ضدهم.
2. تغذية الانقسام المجتمعي:
الخطاب الإقصائي الذي يعتمده النص يسهم في تقسيم المجتمع إلى مجموعات "صالحة" و"فاسدة"، مما يزيد من مشاعر العداء بين الأفراد والجماعات. هذا الانقسام يخلق بيئة خصبة لنمو الحركات المتطرفة التي تستغل هذه الفجوات لبناء قوتها وجذب المؤيدين.
3. رفض الاجتهاد والتعددية:
رفض الاجتهاد والتعددية الفكرية في الخطاب السلفي يعزز الجمود الفكري والانغلاق، مما يجعل الأفراد أكثر عرضة لتبني الأفكار المتشددة التي ترفض أي تجديد أو تحديث. هذا الجمود يمكن أن يدفع الأفراد إلى العنف كوسيلة لحماية "الإسلام النقي" من "التهديدات" المتمثلة في الأفكار الحديثة.
4. تحويل الخوف إلى تطرف:
الافتتاحية تستخدم التخويف من الضلال كأداة لإقناع الأفراد بضرورة الالتزام التام بالفهم السلفي. هذا الخوف من "الانحراف" يمكن أن يدفع البعض إلى التطرف الفكري ثم العنيف، حيث يرون في العنف وسيلة لحماية الدين.
الخلاصة:
هذه الافتتاحية تعكس خطاباً سلفياً تقليدياً يركز على نقاء مصادر التلقي ويعارض بشدة التأثر بالحداثة أو الابتداع. بينما تتفق معظم التيارات السلفية على هذا الأساس، تختلف في مدى قبولها للحداثة أو انخراطها في السياسة، ما يجعل الخطاب الذي تتبناه الافتتاحية متشدداً تجاه هذه الانحرافات
الافتتاحية تحمل دلالات قوية تؤدي إلى تعزيز التطرف من خلال خطابها الذي يعتمد على الإقصاء، التخويف، ورفض التعددية الفكرية. التحريض على الالتزام الصارم بالكتاب والسنة بفهم السلف الصالح دون مساحة للاجتهاد أو التعددية يخلق بيئة مشجعة على تنامي الأفكار المتشددة، ويزيد من احتمالية اللجوء إلى العنف كوسيلة للحفاظ على "نقاء" الدين.

شارك