الهدم المنهجي للتاريخ.. تقاطع الرؤية الإسرائيلية مع الجماعات المتطرفة في تدمير المعالم الأثرية

الأربعاء 08/يناير/2025 - 04:52 ص
طباعة الهدم المنهجي للتاريخ.. حسام الحداد
 

إن استهداف المعالم الأثرية والتاريخية ليس مجرد عمل عدائي يطال الحجر أو المعمار فحسب، بل هو في جوهره استهداف للذاكرة الجماعية والهوية الثقافية للشعوب. في سياق النزاعات الحديثة، يتقاطع النهج الإسرائيلي في تدمير المعمار التاريخي في فلسطين ولبنان وسوريا مع الرؤى التي تتبناها الجماعات المتطرفة مثل طالبان وداعش وهيئة تحرير الشام، التي جعلت من تدمير التراث الأثري أحد ركائز عملياتها. وعلى الرغم من اختلاف السياقات والأهداف الظاهرة لكل طرف، إلا أن كليهما يشترك في السعي إلى محو الهوية الثقافية وتشويه التاريخ لصالح روايات أحادية ومشوهة.


الرؤية الإسرائيلية: تدمير للهوية والمقاومة

تصر إسرائيل على استهداف المعالم الأثرية والتاريخية في المنطقة العربية ضمن سياسة ممنهجة تهدف إلى محو ذاكرة الشعوب وتفكيك ارتباطها بجذورها الثقافية والتاريخية. فالهجمات على الأماكن التراثية في لبنان وسوريا وقطاع غزة ليست عشوائية، بل تعكس إدراكًا إسرائيليًا بأهمية هذه المواقع في تشكيل الوعي الجمعي للشعوب.

تدرك إسرائيل أن التمسك بالمعالم الأثرية والتاريخية يمثل رافدًا قويًا لبناء نفسية المقاومة، التي تعي أن حراسة التراث جزء من معركة الدفاع عن الأرض والوجود. وبالتالي، يهدف الجيش الإسرائيلي من خلال تدمير هذه المواقع إلى زعزعة هذه النفسية وطمس الهوية التاريخية التي تمنح الشعوب قدرتها على الصمود.

تعمل إسرائيل على استغلال الحروب والنزاعات في المنطقة لتبرير استهدافها المنهجي للمعالم الأثرية والتاريخية. في كل عدوان عسكري، تتعرض مواقع أثرية ذات قيمة تاريخية ودينية للقصف والتدمير، ما يُظهر رغبة متعمدة في طمس معالم الحضارة العربية والإسلامية. مثل هذه الممارسات لا تهدف فقط إلى تحقيق مكاسب عسكرية آنية، بل تسعى أيضًا إلى إضعاف الارتباط الثقافي والتاريخي للشعوب بماضيها، مما يترك فراغًا تستغله إسرائيل لفرض روايتها الخاصة حول الهوية والجغرافيا.

من ناحية أخرى، ترى إسرائيل أن تدمير التراث ليس مجرد وسيلة لمحاربة الشعوب، بل هو أداة لتغيير الحقائق التاريخية والديموغرافية على الأرض. فعبر محو الآثار التي تربط السكان بأرضهم، تفتح المجال لفرض واقع جديد يمحو معالم التاريخ العربي في المنطقة. هذه السياسة تُظهر وعيًا عميقًا بأهمية التراث كجزء من الذاكرة الجماعية، وكعامل رئيسي في تعزيز الصمود والمقاومة.

علاوة على ذلك، تهدف هذه الممارسات إلى إعادة تشكيل الفضاء العام بما يخدم أهداف الاحتلال. فبدلًا من المعالم التاريخية التي تروي حكايات أجيال متعاقبة من الحضارة العربية والإسلامية، تعمل إسرائيل على تحويل المواقع التاريخية إلى مستوطنات أو منشآت عسكرية، أو حتى تقديمها كأماكن ذات تاريخ يهودي مزعوم. هذا التشويه الممنهج للمعالم يشكل جزءًا من الحرب الثقافية التي تخوضها إسرائيل ضد شعوب المنطقة، لخلق بيئة تشعر فيها الأجيال القادمة بالاغتراب عن ماضيها وحقوقها.


الرؤية المتطرفة: عقيدة الهدم وفرض الرواية الأحادية

على الجانب الآخر، تتبنى الجماعات المتطرفة مثل داعش وطالبان وهيئة تحرير الشام رؤية أيديولوجية تسعى إلى محو التراث الإنساني والديني بحجة محاربة "الشرك" أو "الأوثان". فدمّرت طالبان تماثيل بوذا في باميان عام 2001، وقامت داعش بتدمير معالم تاريخية في تدمر والموصل، مثل معبد بعل شمين والجامع النوري. هذه الجماعات ترى أن الماضي الثقافي والتاريخي يمثل تهديدًا لسيطرتها الفكرية، إذ يشكل التراث بوابة لفهم تنوع الحضارات وعمقها الإنساني.

تعتمد الجماعات المتطرفة في رؤيتها على تفسير جامد ومنغلق للدين، يجعل من التراث الإنساني هدفًا رئيسيًا لها، حيث ترى في المعالم الأثرية أيقونات تعكس تنوع الثقافات وعمق التاريخ الإنساني، وهو ما يتعارض مع خطابها الأحادي الذي يسعى إلى طمس أي مظهر للتنوع الحضاري. بالنسبة لهذه الجماعات، يُعد تدمير الآثار خطوة ضرورية لترسيخ سلطتها، عبر محو الرموز التي قد تشكل تحديًا لأيديولوجيتها، والتي تُظهر أن المجتمعات الإسلامية كانت دومًا جزءًا من حضارات متعددة الأوجه.

إلى جانب الأيديولوجيا، تستخدم الجماعات المتطرفة تدمير الآثار كأداة دعائية تسعى من خلالها إلى تحقيق أهداف متعددة. فمن خلال التدمير العلني لمعالم شهيرة، تبعث برسائل تحدٍ للمجتمع الدولي وتؤكد قدرتها على فرض إرادتها. كما أنها تستخدم هذه الأعمال لجذب الأنظار إليها وكسب التأييد من أتباعها المتشددين الذين يرون في هذه التصرفات تأكيدًا على التزامها بمبادئها المتطرفة. في الوقت ذاته، تساهم هذه العمليات في خلق الفوضى، وهو المناخ الذي تستفيد منه هذه الجماعات لتوسيع نفوذها والسيطرة على مناطق جديدة.

الأخطر من ذلك، أن هذه الجماعات تسعى من خلال هدم الآثار إلى فصل المجتمعات المحلية عن تاريخها وهويتها، مما يضعف شعورها بالانتماء ويجعلها أكثر عرضة للتجنيد والتبعية. فالمعالم التاريخية ليست مجرد رموز ثقافية، بل هي شواهد على قدرة المجتمعات على التعايش والابتكار عبر العصور. وعندما تُدمر هذه الشواهد، يتلاشى جزء من الذاكرة الجماعية، مما يفتح الباب أمام هذه الجماعات لإعادة تشكيل الهوية الثقافية بما يخدم أهدافها المتطرفة.


تشابه الأهداف: محو الهوية وإعادة تشكيل الوعي

برغم الفروقات الظاهرية بين إسرائيل والجماعات المتطرفة، إلا أن كلاهما يلتقي في الهدف النهائي: إعادة تشكيل الوعي الجمعي بما يخدم روايته الخاصة.


1. محو الهوية

تعمل إسرائيل على محو الهوية الفلسطينية عبر إزالة الأدلة المادية التي تعكس وجود الشعب الفلسطيني وتاريخه العريق في المنطقة. تسعى من خلال تدمير المعالم الأثرية إلى طمس الحضارة الفلسطينية التي تمتد جذورها لآلاف السنين، واستبدالها بروايات تُبرز ارتباطًا زائفًا بين الأرض واليهود. كما تعمل على تهويد الأماكن التاريخية والدينية، مثل تحويل المسجد الإبراهيمي في الخليل إلى موقع يهودي، وإدراج الحرم القدسي ضمن سردياتها التوراتية. هذه الممارسات تهدف إلى تهميش الفلسطينيين من سرديتهم التاريخية وتشتيت شعورهم بالانتماء لأرضهم.

على الجانب الآخر، تنتهج الجماعات المتطرفة مثل داعش وطالبان وهيئة تحرير الشام سياسة شاملة لتدمير كل ما يعبر عن التنوع الحضاري والديني. ترى هذه الجماعات أن كل ما يخالف رؤيتها الضيقة للإسلام يُعتبر عدوًا يجب القضاء عليه، بما في ذلك الآثار الإسلامية التي تعود لفترات زمنية مختلفة. الهدف الأساسي هنا هو فرض تصورها الأحادي للإسلام، الذي ينكر التنوع الحضاري والديني داخل المجتمعات الإسلامية نفسها، ويُقدم رؤية مشوهة للماضي تخدم مصالحها الأيديولوجية.


2. إضعاف الذاكرة الجمعية

تدرك إسرائيل أن الذاكرة الجمعية للشعوب هي أحد أهم العوامل التي تعزز صمودها ومقاومتها. لذلك، تسعى إلى تدمير المعالم التاريخية التي تشكل جزءًا من الهوية الثقافية والجمعية للشعب الفلسطيني. من خلال استهداف هذه الرموز، تحاول إسرائيل قطع العلاقة بين الفلسطينيين وأرضهم، مما يجعلها مجرد قطعة جغرافية خالية من التاريخ والروح. هذا التفكيك للارتباط الثقافي يُسهل عملية السيطرة الإسرائيلية على الأرض والشعب، ويضعف أي جهود مقاومة تعتمد على الشعور العميق بالانتماء.

أما الجماعات المتطرفة، فإنها ترى في الذاكرة الجمعية خطرًا على شرعية مشروعها. الحفاظ على التراث والتاريخ يُظهر أن الإسلام كان دائمًا دينًا يتعايش مع التنوع الثقافي والديني، وهو ما يتعارض مع خطابها المتطرف. لذا، تسعى هذه الجماعات إلى محو الذاكرة الجمعية، ليس فقط من خلال تدمير الآثار، بل أيضًا عبر فرض سرديات جديدة تشوه الماضي الإسلامي وتضعه في قالب يخدم مصالحها. بهذه الطريقة، تُفكك الروابط بين الأفراد وتاريخهم، ما يُسهل السيطرة الفكرية عليهم.


3. إعادة كتابة التاريخ

تركز إسرائيل على إعادة كتابة التاريخ الفلسطيني والعربي في المنطقة بما يخدم مشروعها الاستيطاني. من خلال تدمير المعالم الأثرية، تزيل الشواهد التي تؤكد على وجود الفلسطينيين وارتباطهم بأرضهم عبر العصور. وفي الوقت نفسه، تروج لروايات تاريخية مضللة تدعي أن الأرض كانت دائمًا جزءًا من التراث اليهودي، مستندة إلى تفسيرات توراتية تفتقر إلى الأدلة التاريخية الموثوقة. هذه الروايات تُستخدم لتبرير سياساتها الاستيطانية، وتدعم خطاباتها أمام العالم.

في المقابل، تتبنى الجماعات المتطرفة نهجًا مشابهًا، حيث تسعى إلى إعادة كتابة التاريخ الإسلامي بما يتماشى مع أيديولوجياتها المتشددة. تحاول هذه الجماعات طمس فترات الازدهار الثقافي والتعايش الحضاري في التاريخ الإسلامي، لتقديم صورة مشوهة تخدم رؤيتها للعالم. من خلال تدمير المعالم الإسلامية التي تعود لعصور مختلفة، تسعى إلى إخفاء التنوع والثراء الذي ميز التاريخ الإسلامي، وتقديم نسختها الضيقة كالحقيقة المطلقة. هذا التشويه يُساهم في خلق أجيال تفتقر إلى الفهم العميق لتراثها، مما يجعلها أكثر عرضة للتطرف.


التداعيات الثقافية والسياسية

إن الهجمات على التراث الثقافي والمعماري، سواء من إسرائيل أو الجماعات المتطرفة، تحمل تداعيات خطيرة على المجتمعات المتضررة.


1. فقدان الهوية

يؤدي محو التراث الثقافي والمعماري إلى خلق فراغ ثقافي عميق في المجتمعات المتضررة. فالمعالم التاريخية ليست مجرد شواهد على الماضي، بل هي رموز تعكس هوية الشعوب وارتباطها بجذورها الحضارية. عندما يتم تدمير هذه المعالم، تفقد المجتمعات جزءًا من ذاكرتها الجماعية التي تساهم في تشكيل شعورها بالانتماء والاستمرارية. هذا الفقدان يجعل الشعوب أكثر عرضة للتبعية الفكرية والثقافية، إذ تسعى الأطراف المهيمنة إلى فرض هويتها الخاصة على المجتمعات التي تم تفريغها من تاريخها.

علاوة على ذلك، يخلق هذا الفراغ بيئة خصبة للانقسام الداخلي، حيث تفقد المجتمعات مرجعياتها الثقافية المشتركة التي تجمعها وتوحدها. عندما تُمحى الرموز التاريخية التي تُمثل إرثًا جماعيًا، تتحول المجتمعات إلى فسيفساء من الهويات الفرعية المتناحرة، مما يسهل السيطرة عليها من قِبل القوى الخارجية أو الجماعات المتطرفة. وبالتالي، يُصبح غياب الهوية الموحدة أداة فعالة لتفكيك المجتمعات من الداخل.


2. إضعاف المقاومة

يرتبط ارتباط الشعوب بمعالمها التاريخية ارتباطًا وثيقًا بمفهوم المقاومة، إذ تمثل هذه المعالم مصدرًا للإلهام والقوة النفسية في مواجهة الاحتلال أو الهيمنة. تدمير هذه المعالم يقطع الصلة بين الشعوب وماضيها، مما يضعف الروح المعنوية ويجعل السيطرة عليها أكثر سهولة من الناحية النفسية والسياسية. فالآثار التاريخية ليست مجرد رموز ثقافية، بل هي دلائل مادية على وجود الشعوب وحقها في الأرض، وعندما تُزال، تتعرض الروايات الوطنية والتاريخية للانهيار.

بالإضافة إلى ذلك، يؤدي فقدان المعالم التاريخية إلى شعور المجتمعات بالعجز وفقدان القدرة على التصدي للهيمنة. فعندما تُحطم رموز المقاومة الثقافية والتاريخية، تتزعزع ثقة الأفراد في قدرتهم على الحفاظ على هويتهم وتراثهم. وهذا بدوره يُضعف الحركات الوطنية ويُعزز الشعور بالاستسلام، مما يُمهد الطريق أمام الهيمنة الكاملة سواء من قِبل الاحتلال أو الجماعات المتطرفة.


3. إضعاف الحوار الحضاري

تدمير التراث الثقافي يقطع صلة مهمة بين الشعوب والحضارات المختلفة، حيث إن هذه المعالم تمثل جسورًا للحوار والتفاهم الإنساني. دراسة الآثار والتاريخ المشترك تعزز من إدراك التنوع الثقافي وعمق التجربة الإنسانية، مما يساعد في بناء حوار حضاري يخفف من حدة الصراعات. وعندما تُدمر هذه الرموز، تُغلق أبواب التفاهم، وتتحول العلاقات بين الشعوب إلى صراع قائم على الجهل وسوء الفهم.

إضافة إلى ذلك، فإن تدمير التراث يقضي على فرصة المجتمعات لإظهار مساهماتها الحضارية في التاريخ الإنساني. بدلاً من التفاخر بإرثها الثقافي، تجد هذه المجتمعات نفسها في حالة دفاع عن حقها في الوجود. وبالتالي، يُضعف هذا التدمير قدرة الشعوب على المشاركة في صياغة رؤية مشتركة للمستقبل، ويُعزز الانقسامات العالمية القائمة على التمييز الثقافي والديني.


الخاتمة

يمثل استهداف المعالم الأثرية والتاريخية نقطة تقاطع خطيرة بين مشاريع الهيمنة الإسرائيلية والعقائد التدميرية للجماعات المتطرفة. فكلاهما يرى في التراث المادي خطرًا يهدد روايته الخاصة للواقع، سواء من خلال محو الهوية الفلسطينية وتفكيك الذاكرة الجمعية للشعوب، أو من خلال تدمير رموز التنوع الحضاري والديني لفرض تصور أحادي للإسلام. هذه الممارسات، على اختلاف دوافعها، تشترك في هدف واحد: طمس الجذور الثقافية والإنسانية التي تشكل أساس الهوية المقاومة والتعايش السلمي.

لذلك، فإن حماية التراث الثقافي والتاريخي ليست مجرد معركة لحفظ الماضي، بل هي مسؤولية إنسانية لضمان استمرارية الهوية والقيم المشتركة التي تربط الشعوب. الدفاع عن المعالم الأثرية هو دفاع عن حق الشعوب في سرد قصتها، والحفاظ على رموزها التي تشكل وعيها الجمعي وتاريخها الإنساني. مواجهة هذه المحاولات التدميرية تتطلب جهودًا جماعية تعزز من وعي المجتمعات بأهمية التراث، وتحميه كجزء أصيل من نضالها من أجل الحرية والكرامة.

شارك