تسعى هذه القراءة إلى استكشاف خلفية هذه الأيديولوجيات الدينية وتأثيرها على الأمن القومي العربي، حيث يعكس الصراع بين هذه الأيديولوجيات التوترات المستمرة التي تعيشها الدول العربية. من دعم تركيا للجماعات السنية في مختلف أنحاء المنطقة، إلى تدخلات إيران في الشؤون الداخلية للدول العربية عبر حلفائها الشيعة، وصولاً إلى تأثير السياسات الإسرائيلية في الشرق الأوسط، يتشكل مشهد معقد من التحالفات والصراعات التي تسعى كل قوة دينية لفرض رؤيتها على المنطقة. 

شهدت المنطقة العربية في السنوات الأخيرة صعودًا ملحوظًا للأيديولوجية السنية، التي تقودها تركيا من خلال سياستها الإقليمية الطموحة. تسعى تركيا، تحت قيادة حزب العدالة والتنمية، إلى إعادة تأسيس نفسها كقوة إقليمية قائدة للعالم الإسلامي السني، مما جعلها تدعم بشكل فعال الحركات والأحزاب السنية في الدول العربية. يعد دعم تركيا لجماعة الإخوان في مصر وحركة حماس في فلسطين وغيرهها من الجماعات والحركات المتطرفة كجبهة تحرير الشام في سوريا وعدد من الفصائل المسلحة في ليبيا من أبرز الأمثلة على هذه السياسة، حيث تسعى تركيا إلى تعزيز نفوذها في المنطقة من خلال دعم القوى التي تتبنى الأيديولوجية السنية. كما أن دعمها للأحزاب السنية في سوريا والعراق يعكس رغبتها في مواجهة التأثير الشيعي المتزايد في تلك الدول.

دور تركيا في قضايا الأمن القومي العربي أصبح محوريًا في السنوات الأخيرة، حيث تدخلت عسكريًا في العديد من الدول العربية مثل سوريا وليبيا والعراق. في سوريا، لعبت تركيا دورًا رئيسيًا في دعم الفصائل السورية السنية المسلحة في مواجهة النظام السوري المدعوم من إيران وروسيا. وفي العراق، دعمت تركيا بعض الفصائل السنية في مواجهة النفوذ الإيراني المتزايد في البلاد. أما في ليبيا، فقد قدمت تركيا دعمًا عسكريًا لحكومة الوفاق الوطني المعترف بها دوليًا، التي تتضمن العديد من القوى السنية. ورغم أن هذه التدخلات تهدف إلى تعزيز الأمن القومي التركي وحماية مصالحها الإقليمية، إلا أنها أضافت مزيدًا من التعقيد إلى الأوضاع الأمنية في المنطقة وأثارت العديد من الجدل حول تأثيرها على استقرار الدول العربية.

تعد إيران القوة الإقليمية الرئيسية التي تقود الأيديولوجية الشيعية في منطقة الشرق الأوسط، حيث تروج لسياسات طائفية تهدف إلى تعزيز نفوذها في الدول العربية. تدعم إيران بشكل كبير الجماعات الشيعية في العديد من الدول العربية، مثل حزب الله في لبنان، والحشد الشعبي في العراق، الذي كان له دور بارز في محاربة تنظيم داعش، وجماعة الحوثيين في اليمن، التي تسعى لتحويل البلاد إلى دولة تابعة للمحور الشيعي. هذه السياسات تعكس رغبة إيران في بناء "الهلال الشيعي"، وهو تحالف غير رسمي من الدول والمجموعات التي تتبنى الأيديولوجية الشيعية، مما يساهم في تعزيز دورها في السياسة الإقليمية.

من جهة أخرى، أثارت سياسات إيران الإقليمية جدلًا كبيرًا حول تأثيراتها على الأمن القومي العربي. في حين يرى البعض أن إيران تقدم دعمًا للجهود ضد الإرهاب وتنشر الاستقرار في بعض المناطق مثل العراق وسوريا، يرى آخرون أن تدخلاتها تؤدي إلى تفاقم الصراعات الطائفية وزيادة التوترات بين السنيين والشيعة في المنطقة. كما أن دعم إيران للمجموعات المسلحة في لبنان والعراق واليمن يثير القلق بشأن تهديد استقرار الدول العربية واستقلالها، إذ يعتبر العديد من هذه الأنشطة بمثابة تهديد مباشر للأمن القومي العربي. وبذلك، فإن الأيديولوجية الشيعية التي تقودها إيران تشكل تحديًا حقيقيًا للمنطقة، فهي تمثل خطرًا على استقرار الدول العربية، لكن يمكن أيضًا أن يُنظر إليها كفرصة لبعض هذه الدول إذا تم التوصل إلى حلول دبلوماسية لتسوية النزاعات.

تعد الأيديولوجية اليهودية التي تقودها دولة إسرائيل جزءًا محوريًا من الصراع على الأمن القومي العربي في منطقة الشرق الأوسط. تأسست إسرائيل في عام 1948 إثر صراع طويل مع العالم العربي، ويعتبر تأسيسها نقطة تحوّل دراماتيكية في تاريخ المنطقة، حيث كانت نتيجتها نزاعات مسلحة مستمرة مع الدول العربية حول الأراضي والحقوق. تعتمد إسرائيل في سياساتها على الحفاظ على تفوقها العسكري وتعزيز أمنها القومي، مما يدفعها للتركيز على مواجهات عسكرية مستمرة مع الفلسطينيين والدول العربية المجاورة. في إطار هذا الصراع، كانت إسرائيل تحرص على الحفاظ على وجودها في بيئة إقليمية معادية، حيث تطور موقفها الأمني ليتضمن استراتيجيات تتعلق بالاستقلالية العسكرية والنووية، مما جعلها تشكل تهديدًا مستمرًا للأمن القومي العربي.

في السنوات الأخيرة، طرأت تغييرات كبيرة في العلاقات بين إسرائيل وبعض الدول العربية، خاصة بعد اتفاقات أبراهام 2020 التي شهدت تطبيع العلاقات بين إسرائيل والإمارات والبحرين، تبعتها خطوات تطبيع بين إسرائيل والسعودية. هذا التحول في العلاقات يثير تساؤلات حول تأثيره على التوازنات الإقليمية. بينما يرى البعض أن هذه العلاقات قد تؤدي إلى تحالفات استراتيجية جديدة لمواجهة التهديدات الإقليمية المشتركة، مثل التحديات الإيرانية، يعتقد آخرون أن هذا التطبيع يساهم في إضعاف التضامن العربي ويزيد من الانقسامات في المنطقة. من هنا، فإن العلاقات الإسرائيلية مع الدول العربية لها تأثير مزدوج، حيث يمكن أن تشكل جزءًا من الحلول للأزمات الإقليمية، لكنها في الوقت نفسه تساهم في تعقيد الصراعات الحالية.

يشهد الشرق الأوسط تصادمًا مستمرًا بين الأيديولوجيات السنية والشيعية واليهودية، وهو ما ينعكس بشكل واضح في العديد من الحروب والنزاعات التي تعصف بالمنطقة. ففي سوريا، مثلاً، كان الصراع بين النظام السوري المدعوم من إيران وحزب الله (الشيعي) من جهة، والحركات السنية المسلحة المدعومة من تركيا ودول الخليج من جهة أخرى، يشكل تجسيدًا لهذه التوترات الطائفية التي تؤثر على استقرار المنطقة. وبالمثل، تعكس الحرب اليمنية النزاع بين الحوثيين المدعومين من إيران (الشيعة) والتحالف العربي بقيادة السعودية (السنة) في صراع إقليمي يهدد استقرار اليمن ودول الجوار. أما في العراق ولبنان، فقد أدى التدخل الإيراني المباشر ودعم الجماعات الشيعية إلى تعزيز الانقسامات الطائفية التي تؤثر بشكل سلبي على الوحدة الوطنية في هذه البلدان، مما يفاقم من الأزمات الأمنية في المنطقة.

تساهم القوى الكبرى، مثل الولايات المتحدة وروسيا، في تعزيز أو تقويض هذه الأيديولوجيات من خلال تدخلاتها العسكرية والدبلوماسية في المنطقة. فعلى سبيل المثال، تدعم الولايات المتحدة بشكل رئيسي الدول السنية في مواجهة التوسع الإيراني في الشرق الأوسط، كما تقدم دعمًا لإسرائيل في مواجهة التحديات الأمنية التي تطرحها الأيديولوجية الفلسطينية والعربية. من جهة أخرى، تجد روسيا نفسها في موقف داعم لإيران والنظام السوري في صراعات مثل الحرب السورية، مما يساهم في تعميق الصراع بين القوى السنية والشيعية. وبالتالي، فإن هذه التدخلات الدولية تلعب دورًا مزدوجًا في تعزيز الأيديولوجيات المتصادمة أو في محاولة إعادة التوازن الإقليمي، ما يجعل الأمن القومي العربي عرضة لتقلبات الصراع المستمر في المنطقة.

في ظل الأيديولوجيات المتصادمة بين القوى السنية والشيعية واليهودية، يعاني الأمن القومي العربي من تهديدات متزايدة تؤثر بشكل مباشر على استقرار الدول العربية. تتداخل هذه الصراعات الإيديولوجية مع النزاعات الإقليمية والعالمية، حيث تتبنى القوى الكبرى مواقف داعمة أو معارضة لبعض الأطراف في المنطقة، مما يؤدي إلى تعميق الانقسامات العربية. التدخلات العسكرية من قبل دول مثل إيران وتركيا، بالإضافة إلى الدعم الغربي لإسرائيل وبعض الدول العربية السنية، تؤدي إلى تجزئة المنطقة وفتح جبهات صراع جديدة، مما يعزز التوترات الداخلية في العديد من الدول العربية مثل العراق وسوريا وليبيا. هذا التوتر المستمر يزيد من تعقيد جهود بناء الوحدة العربية وتعطيل استقرار المنطقة بشكل عام.

من جانب آخر، تساهم التدخلات العسكرية الخارجية في تأجيج النزاعات القائمة وتعميق الأزمات الداخلية. ففي سوريا، أدى الدعم العسكري الروسي والإيراني للنظام إلى تعزيز الانقسامات الطائفية والعرقية، بينما سعت تركيا إلى تقوية فصائل المعارضة السنية، مما جعل الحرب السورية ساحة لتصفية الحسابات بين القوى الإقليمية. في اليمن، أسهم التدخل السعودي في تأجيج الحرب الأهلية وتفاقم الوضع الأمني في المنطقة. كما أن التدخلات العسكرية في العراق ولبنان قد أضعفت قدرة الدول العربية على الحفاظ على استقرارها الداخلي، وجعلت من الأمن القومي العربي عرضة للتلاعب الخارجي. لذا، فإن الصراعات الإيديولوجية وتدخلات القوى الإقليمية والدولية تشكل تحديات كبيرة أمام تعزيز الأمن والاستقرار في المنطقة.

تسعى العديد من المبادرات الإقليمية والدولية لتخفيف حدة الصراعات الناتجة عن الأيديولوجيات المتصارعة في المنطقة العربية وتعزيز الأمن القومي. من أبرز هذه المبادرات التعاون الإقليمي بين الدول العربية، مثل جهود جامعة الدول العربية لحل النزاعات والصراعات الطائفية والسياسية، إلى جانب تحركات منظمات مثل مجلس التعاون الخليجي التي تسعى إلى تعزيز الأمن والاستقرار. كما تلعب الأمم المتحدة دورًا مهمًا في تقديم الوساطات لإيجاد حلول سلمية للنزاعات من خلال مبعوثيها الخاصين، خصوصًا في سوريا واليمن وليبيا، إلى جانب نشر قوات حفظ السلام في بعض المناطق. إلا أن فعالية هذه المبادرات تظل محدودة في ظل الانقسامات الداخلية وصعوبة التوصل إلى اتفاقات توافقية بين القوى الكبرى المتورطة في هذه الصراعات.

من جهة أخرى، يمكن أن تكون العلمانية أو التوجهات الداعمة للتنوع الديني والسياسي حلولًا محتملة لتجاوز الانقسامات الأيديولوجية. إذا تمكنت الدول العربية من تبني نماذج سياسية قائمة على قبول التنوع واحترام حقوق الأقليات الدينية والطائفية، فإن ذلك قد يسهم في تقليل التوترات الداخلية ويعزز من الاستقرار. العلمانية قد تساهم في تحييد الدين عن السياسة، مما يعزز من الوحدة الوطنية ويسهم في تقليل التأثيرات الخارجية التي تستغل التوترات الطائفية لتحقيق مصالحها. في هذا السياق، يمكن أن تساعد ممارسات الديمقراطية التعددية على تعزيز التعايش بين مختلف الأيديولوجيات في المنطقة، مما يسهم في بناء مستقبل أكثر استقرارًا وأمانًا للأمن القومي العربي.

في ختام هذه القراءة، يتضح أن الأيديولوجيات المتصادمة بين القوى السنية والشيعية واليهودية قد أثرت بشكل كبير على الأمن القومي العربي، مما أضاف طبقات من التعقيد إلى الأزمات الإقليمية. إن تدخلات تركيا وإيران وإسرائيل، كلٌ وفقًا لأيديولوجياتها الخاصة، قد ساهمت في تعزيز الانقسامات الطائفية والعرقية في المنطقة، وأدت إلى تفشي الحروب والصراعات التي تهدد استقرار الدول العربية. بالإضافة إلى ذلك، فإن الصراعات المستمرة أصبحت محطًا لتدخلات القوى الكبرى مثل الولايات المتحدة وروسيا، مما زاد من تعقيد الوضع الأمني العربي وجعل المنطقة مسرحًا للتنافس الجيوسياسي الدولي.

تواجه المنطقة تحديات ضخمة في ظل هذه الأيديولوجيات المتصارعة التي تؤثر بشكل مباشر على استقرار الدول العربية. من العراق إلى سوريا واليمن وليبيا، تزداد الخلافات الطائفية والصراعات السياسية في ظل التدخلات الإقليمية والدولية المتزايدة. وقد انعكست هذه التوترات على الأمن القومي العربي، مما يشكل تهديدًا حقيقيًا للقدرة على بناء دولة عربية موحدة ومستقرة.

من أجل تعزيز الأمن القومي العربي، يجب أن تعمل الدول العربية على تعزيز التعاون الإقليمي والتنسيق بين مختلف الأطراف السياسية. لا بد من إيجاد آليات جديدة لحل النزاعات العربية الداخلية، بما في ذلك تعزيز الحوار بين المكونات الدينية والطائفية المختلفة. يجب أن تكون هناك مبادرات لتخفيف حدة الصراعات الداخلية من خلال الإصلاحات السياسية والاجتماعية التي تساهم في تحقيق العدالة والمساواة لجميع الفئات في المجتمع. علاوة على ذلك، ينبغي دعم دور جامعة الدول العربية والمنظمات الإقليمية الأخرى، وتفعيل جهودها لتسوية النزاعات في المنطقة.

كما ينبغي أن تكون هناك دعوة قوية إلى تبني التعددية والديمقراطية التوافقية في المنطقة. اعتماد العلمانية أو تسوية القضايا الطائفية والسياسية من خلال احترام حقوق الأقليات يمكن أن يسهم في تحسين استقرار المنطقة. يجب أن تلتزم الدول العربية بمبادئ التعايش السلمي، والعمل على بناء نموذج سياسي يشمل الجميع، سواء من المذاهب السنية أو الشيعية أو المسيحية أو غيرها من الأقليات. إن الحفاظ على التنوع في إطار من الاحترام المتبادل يمكن أن يسهم في تحقيق الاستقرار السياسي والاجتماعي في الدول العربية.

توصي الدراسة أيضًا بتعزيز قدرات الدول العربية على مواجهة التهديدات الأمنية من خلال تعزيز التعاون الأمني والاستخباراتي بين الدول العربية. يمكن أن يؤدي بناء تحالفات استراتيجية لمكافحة الإرهاب والنزاعات المسلحة إلى تحسين الوضع الأمني في المنطقة. يجب أن تسعى الدول العربية إلى تحقيق التوازن بين سياساتها الداخلية والخارجية بما يساهم في تعزيز استقلالها وأمنها الوطني، دون أن تكون فريسة للصراعات الإقليمية أو التدخلات الدولية.

أخيرًا، يجب أن يكون هناك تأكيد على ضرورة الحوار المباشر بين الدول العربية والقوى الإقليمية الكبرى، مثل إيران وتركيا، لتحقيق تفاهمات تهدف إلى الحد من التوترات وتعزيز الاستقرار الإقليمي. ينبغي أن يكون هناك عمل دبلوماسي مستمر من أجل إرساء قواعد أساسية للتعاون والتفاوض مع القوى الإقليمية والدولية، لضمان عدم التفريط في السيادة الوطنية للأقطار العربية، مع الحفاظ على مصالح الأمن القومي العربي في سياق التحديات الجيوسياسية المعقدة.