بين العزة والذلة: تفكيك ثنائية الصراع في الدعاية الداعشية
الأحد 02/مارس/2025 - 01:12 ص
طباعة

جاءت افتتاحية العدد 484 من صحيفة "النبأ"، الصادرة مساء الخميس 27 فبراير 2025، عن تنظيم داعش، لتعكس نموذجًا متكررًا من الخطاب الأيديولوجي المتطرف، الذي يُعيد إنتاج رؤية تكفيرية متشددة قائمة على ثنائية حادة بين "الإيمان والكفر" و"العزة والذلة". من خلال هذه الافتتاحية، يسعى التنظيم إلى تأطير الصراع العالمي وفقًا لمنظوره الخاص، حيث يتم تقسيم العالم إلى معسكرين متناقضين، أحدهما يمثل "الحق" والآخر يجسد "الباطل"، مما يبرر استخدام العنف كوسيلة لتحقيق غاياته الأيديولوجية. هذا الخطاب لا يقتصر على تأكيد أفكار التنظيم فحسب، بل يهدف أيضًا إلى تجديد ولاء أنصاره، وشحذ عزيمتهم في ظل التحديات التي يواجهها ميدانيًا وسياسيًا.
تعتمد الافتتاحية على قراءة انتقائية للنصوص الدينية، حيث يتم استدعاء آيات قرآنية وأحاديث نبوية وتأويلها ضمن سياق يخدم أهداف التنظيم، متجاهلًا المقاصد الأوسع للنصوص الإسلامية التي تدعو إلى العدل والرحمة. كما تعمل هذه الافتتاحية على تعزيز خطاب المظلومية، من خلال تصوير عناصر التنظيم كضحايا لحرب كونية تُشن ضدهم، مما يسهم في خلق حالة من الاستقطاب الشديد، ويدفع الشباب المتأثرين بهذا الفكر إلى الانخراط في التنظيم أو تنفيذ عمليات إرهابية تحت تأثير هذه الدعاية. وبهذا، يتحول الخطاب من مجرد وسيلة تبريرية إلى أداة تحريضية فعالة، تدفع الأفراد إلى الفعل العنيف، وتغذي دورة التطرف والصراع.
أولًا: السياق العام للخطاب
تأتي هذه الافتتاحية في ظل بيئة أمنية وسياسية مضطربة، حيث فقد تنظيم داعش معظم الأراضي التي كان يسيطر عليها بعد سلسلة من الهزائم العسكرية المتتالية على يد قوات محلية ودولية. هذه الانتكاسات لم تكن مجرد خسائر جغرافية، بل أثرت أيضًا على القدرات التنظيمية لداعش، ما أدى إلى تراجع مصادر تمويله، وانخفاض معدلات التجنيد في صفوفه، وتصاعد الضغوط الأمنية على خلاياه النائمة. في ظل هذه المعطيات، يسعى التنظيم إلى إعادة بناء هويته عبر خطاب يرسّخ مفاهيم الثبات والصمود في وجه "الطواغيت"، في محاولة لاستقطاب عناصر جديدة، والحفاظ على ولاء أتباعه، وإبقاء الروح المعنوية مرتفعة.
إلى جانب الهزائم العسكرية، يواجه التنظيم تحديًا أيديولوجيًا متزايدًا، حيث تزايدت المبادرات المناهضة للفكر المتطرف، سواء عبر المؤسسات الدينية الرسمية أو الجهود المجتمعية والمدنية، ما خلق بيئة أكثر وعيًا تجاه خطورة الخطاب الداعشي. ولذلك، تحاول الافتتاحية استدعاء مفهوم "العزة" كمبرر لرفض كل أشكال التسويات السياسية أو التحولات الفكرية، مقدّمةً نموذجًا للمؤمن الصامد الذي لا يتراجع أمام التحديات، مما يسهم في ترسيخ نهج التطرف وعدم قبول أي مراجعات فكرية داخل التنظيم.
علاوة على ذلك، يستخدم التنظيم مفهوم "الجهاد" بوصفه أداة لحشد الأتباع، لكنه يفرغه من سياقه الفقهي السليم ويحوّله إلى ذريعة لممارسة العنف والإرهاب. في الافتتاحية، يتم تصوير هذا الجهاد على أنه المعركة الأخيرة بين الإيمان والكفر، حيث تتكالب القوى "الصليبية" و"المرتدة" ضد "المجاهدين". هذه السردية تهدف إلى استدرار التعاطف مع مقاتلي التنظيم، وتصويرهم كضحايا مستهدفين بسبب "تمسكهم بالدين الحق"، مما يخلق دافعًا نفسيًا لدى بعض الأفراد للانضمام إليهم أو تنفيذ عمليات إرهابية بشكل فردي
ثانيًا: الدلالات الخطابية
1. الانتقائية في استخدام النصوص الدينية
يعتمد الخطاب على اقتباسات قرآنية وأحاديث نبوية يتم تأويلها وفق فهم أحادي يخدم أيديولوجية العنف. يتم استدعاء الآيات التي تتحدث عن "العزة لله وللمؤمنين" كتبرير لإقصاء الآخرين وتصنيفهم ضمن معسكر "الذلة" و"الردة". هذه الانتقائية في استخدام النصوص تؤدي إلى تجريدها من سياقاتها التاريخية والتفسيرية، مما يسمح بإعادة توظيفها في سياق معاصر يخدم أهداف التنظيم.
إضافةً إلى ذلك، يُغفل الخطاب الآيات والنصوص التي تدعو إلى التسامح والتعايش، ويستبدلها بتفسيرات تشدد على المواجهة والصدام. هذا النمط من التأويل يرسّخ رؤية ضيقة للعالم، حيث يُصبح كل مخالف عدوًا محتملاً، مما يعزز الانغلاق العقائدي ويحدّ من أي إمكانية للحوار أو التعددية الفكرية.
2. التقابل الثنائي (Dualism)
يُقسّم الخطاب العالم إلى معسكرين متضادين: "معسكر الإيمان" (الذي تمثله الجماعة) و"معسكر الكفر" (الذي يضم كافة من يخالفهم). هذه الثنائية الحادة تُسهم في بناء عقلية استقطابية ترى في العالم ساحة معركة أبدية بين الحق والباطل، مما يُسهّل تبرير العنف بوصفه ضرورة شرعية لا خيارًا سياسيًا.
علاوةً على ذلك، يتم شيطنة كل من يتعاون مع المؤسسات السياسية أو الأنظمة الحاكمة بوصفه "مرتدًا"، وهو ما يعزز ثقافة التكفير والعنف ضد المخالفين. هذه الرؤية المتشددة تضعف أي جهود للإصلاح الديني أو التفاوض السياسي، إذ إنها تصر على أن أي محاولة للخروج من هذه الثنائية تعني الوقوع في صف الأعداء.
3. تأجيج مشاعر المظلومية والاضطهاد
يُصوِّر التنظيم أتباعه كـ"ثلة مؤمنة" تقف في وجه "أمم الكفر" التي تكالبت عليها. هذا السرد يهدف إلى تعزيز مشاعر الاضطهاد، مما يدفع الأفراد إلى البحث عن العدل عبر العنف. يتم تصوير الهجمات العسكرية ضد التنظيم على أنها حرب على الإسلام نفسه، مما يخلق حالة من التماهي بين التنظيم والدين، بحيث يصبح الدفاع عنه واجبًا شرعيًا لا مجرد موقف سياسي.
كما أن الخطاب يعمد إلى توظيف مفاهيم الجهاد والموت في سبيل الله، ليجعل القتال والمواجهة خيارًا وحيدًا أمام الأفراد. هذه الاستراتيجية تعزل الأتباع عن أي حلول سلمية محتملة، وتدفعهم نحو رؤية العنف كوسيلة وحيدة لتحقيق العدالة والكرامة.
4. التحريض على العنف والتضحية بالنفس
يتم تقديم العمليات الانتحارية والمواجهات المسلحة كأفعال جهادية بطولية، مما يسهم في تشكيل ثقافة استشهادية تُغري الشباب بالانضمام إلى التنظيم. يُضفى طابع القداسة على مقاتلي التنظيم، حيث يُصورون كأبطال يتحدّون قوى الظلم والطغيان، وهو ما يعزز من جاذبية التنظيم لدى الفئات المهمشة والمحبطة.
بالإضافة إلى ذلك، يتم تصوير الموت في سبيل التنظيم كغاية سامية تتجاوز أي اعتبارات دنيوية. هذا الخطاب يُسهم في تطبيع فكرة الانتحار بوصفه استشهادًا، مما يؤدي إلى استقطاب مزيد من الأفراد المستعدين للتضحية بأنفسهم في سبيل الأيديولوجية المتطرفة.
ثالثًا: أثر الافتتاحية على تنامي الإرهاب
يسهم هذا الخطاب في ترسيخ عقلية العنف لدى الأفراد الذين يتأثرون به، مما يزيد من احتمالية انخراطهم في التنظيمات المسلحة. فحين يُقدَّم العنف على أنه السبيل الوحيد لتحقيق العزة والكرامة، يصبح الانضمام إلى الجماعات المتطرفة خيارًا جذابًا لأولئك الذين يبحثون عن معنى لحياتهم أو يشعرون بالإقصاء في مجتمعاتهم.
كما يعزز الخطاب حالة الاستقطاب داخل المجتمعات الإسلامية، حيث يتم استهداف الشباب الذين يعانون من التهميش الاقتصادي والاجتماعي، مما يجعلهم أكثر عرضة للتطرف الفكري. عندما يتم إقناع هؤلاء الشباب بأنهم يعيشون في بيئة معادية للإسلام، يصبحون أكثر استعدادًا لتقبل الأفكار العنيفة والانخراط في أنشطة متطرفة.
إضافةً إلى ذلك، يُضعف هذا الخطاب فرص المصالحة المجتمعية، حيث يؤجج النزاعات الطائفية والسياسية عبر تصوير جميع المخالفين على أنهم أعداء للدين. هذا التوجه يؤدي إلى خلق بيئة من الشك والعداء بين مكونات المجتمع، مما يجعل أي جهود للتعايش السلمي أكثر صعوبة.
كما أن هذا الخطاب يُسهم في استدامة الصراعات العنيفة، حيث يعزز مناخًا فكريًا يبرر استمرار القتال والجهاد المسلح ضد أي طرف يُعتبر معاديًا. وبالتالي، فإن مثل هذه الخطابات لا تؤدي فقط إلى تأجيج الصراعات الراهنة، بل تزرع أيضًا بذور صراعات مستقبلية قد تستمر لعقود.
رابعًا: سبل مواجهة هذا الخطاب
تفكيك الخطاب الأيديولوجي
تقديم تفاسير دينية معتدلة تبيّن زيف التأويلات الداعشية للنصوص الدينية. ينبغي تعزيز الخطاب الديني الوسطي الذي يوضح التناقضات في الطرح المتطرف، ويكشف استغلال التنظيم للنصوص لتحقيق أهداف سياسية لا تمت للإسلام بصلة.
تفعيل دور العلماء والمفكرين في توعية الشباب بخطورة الفكر المتطرف. يمكن تحقيق ذلك من خلال إنشاء برامج توعوية في المساجد والمدارس والجامعات، بالإضافة إلى نشر مواد إعلامية توضح مخاطر الفكر التكفيري، وتقدم رؤية دينية متزنة تعزز قيم التعايش والتسامح.
تعزيز المناعة الفكرية والمجتمعية
دعم مناهج التعليم التي تكرّس قيم التعددية والتسامح. يجب إعادة النظر في المناهج الدراسية بحيث تعزز التفكير النقدي، وتقدم روايات تاريخية ودينية غير منحازة، مما يساهم في تحصين الأفراد ضد الدعاية المتطرفة.
إنشاء منصات إعلامية مضادة تفضح تناقضات الجماعات المتطرفة. هذه المنصات يجب أن تكون قادرة على الوصول إلى الفئات المستهدفة من قبل التنظيمات الإرهابية، وتقديم محتوى جذاب يكشف زيف الدعاية المتطرفة، ويقدم بدائل فكرية وحياتية أكثر إيجابية.
تعزيز العمل الأمني والاستخباراتي
مراقبة المنصات الدعائية التي تستخدمها التنظيمات الإرهابية. يجب تتبع أنشطة الجماعات المتطرفة على الإنترنت، والعمل على تفكيك شبكات التجنيد الخاصة بها، من خلال تقنيات الذكاء الاصطناعي والتحليل الرقمي.
تتبع تمويل الجماعات المتطرفة وتجفيف منابعها. يشكل التمويل العصب الأساسي لبقاء التنظيمات الإرهابية، لذا يجب على الحكومات والمنظمات الدولية التعاون لرصد مصادر التمويل غير المشروعة، وفرض عقوبات صارمة على الجهات التي تدعم الإرهاب بشكل مباشر أو غير مباشر.
خاتمة
تمثل افتتاحية صحيفة "النبأ" نموذجًا واضحًا للخطاب المتطرف الذي يستند إلى تأويلات منحرفة للنصوص الدينية، بهدف تبرير العنف وإضفاء المشروعية عليه كوسيلة لتحقيق أهداف سياسية وأيديولوجية. من خلال استخدام مفاهيم مثل "العزة" و"الجهاد"، يسعى هذا الخطاب إلى استقطاب الأفراد، خاصة الشباب، ودفعهم إلى تبني نهج الصدام مع المجتمع والمؤسسات القائمة. إن هذا التوظيف المشوه للنصوص الدينية لا يؤدي فقط إلى ترسيخ عقلية العنف والانغلاق، بل يسهم أيضًا في تفكيك النسيج الاجتماعي وتأجيج الصراعات داخل المجتمعات الإسلامية.
إن التصدي لهذا الخطاب لا يمكن أن يقتصر على الحلول الأمنية فقط، بل يستدعي تضافر جهود فكرية وتربوية وإعلامية، تعزز مناعة الأفراد ضد الفكر المتطرف. من الضروري أن تقوم المؤسسات الدينية والفكرية بتقديم تفسير صحيح ومتزن للنصوص الدينية، يعكس جوهر الإسلام القائم على التسامح والعدالة. كما أن تعزيز دور الإعلام في كشف تناقضات الفكر المتطرف، إلى جانب تطوير المناهج التعليمية التي تكرس قيم الحوار والتعددية، يمثلان خطوات أساسية في تحصين المجتمعات من الانزلاق نحو العنف والتطرف، وبناء ثقافة تقوم على السلام والتعايش.