من الخنادق إلى المجتمع الدولي: مبادرة شعبية تعيد النقاش حول أدوات الضغط الفلسطيني
الخميس 10/أبريل/2025 - 08:10 م
طباعة
في خضم بحر الدم والركام الذي يعيشه قطاع غزة، أطلقت مجموعة من المواطنين والمثقفين الفلسطينيين، مبادرة شعبية تنادي بوقف الحرب وتبادل الأسرى بين المقاومة الفلسطينية والاحتلال الإسرائيلي، على أساس تسليم الأسرى الإسرائيليين للوسطاء الدوليين (مصر وقطر) وبضمانات من الأمم المتحدة والدول دائمة العضوية في مجلس الأمن. تحمل هذه المبادرة في طياتها نوايا نبيلة وحرصًا صادقًا على إنقاذ ما تبقى من حياة وكرامة في القطاع المنكوب، لكنها في الوقت ذاته تُثير تساؤلات مشروعة حول جدواها، وتُسلّط الضوء على تعقيدات الواقع الفلسطيني والإقليمي والدولي.
بين التبني الشعبي وغياب الغطاء السياسي
تنطلق المبادرة من رحم المعاناة الشعبية، وتُعبّر عن صوت الشارع الفلسطيني المتعطش إلى وقف الحرب والدمار، لكنها تفتقد إلى الدعم من الجهات الفاعلة سياسيًا وميدانيًا، أي الفصائل الفلسطينية المسلحة التي تمتلك القرار الحقيقي فيما يتعلق بملف الأسرى. فالمقاومة، وتحديدًا حركة "حماس"، تعتبر ملف الأسرى أحد أوراق القوة الاستراتيجية التي تُدار بعناية فائقة ضمن حسابات أوسع ترتبط بالميدان والمفاوضات. لذلك، من غير المرجح أن تتفاعل هذه القوى مع مبادرة تُطالب بتسليم الأسرى دون شروط مباشرة، حتى وإن كانت الوساطة مضمونة أمميًا.
تدويل الملف: سلاح ذو حدّين
تطرح المبادرة تسليم الأسرى إلى دول دائمة العضوية في مجلس الأمن، تحت إشراف أممي، وهو مقترح يحمل في ظاهره بعدًا إنسانيًا وقانونيًا، لكنه في باطنه يُعقد المشهد ويزيد من الاعتماد على جهات دولية أثبتت عبر سنوات طويلة انحيازها أو عجزها. فمجلس الأمن، الذي لم يتمكن حتى الآن من إصدار قرار ملزم بوقف العدوان على غزة، يصعب اعتباره جهة ضامنة موثوقة في نظر كثير من الفلسطينيين. كما أن مشاركة قوى مثل الولايات المتحدة، التي تُعد الحليف الأبرز لإسرائيل، تطرح شكوكًا حول حيادية أي آلية إشرافية أو رقابية على هذا النوع من المبادرات.
مبادرة إنسانية أم تفكيك لأوراق الضغط؟
المبادرة، رغم خطابها الإنساني، قد تُفهم من قبل بعض الأطراف كخطوة تهدف إلى تفكيك ورقة الأسرى التي تُعد أحد أقوى أدوات الردع بيد المقاومة، دون تحقيق مكاسب موازية على الأرض. كما أنها تمنح إسرائيل ذريعة جديدة للهروب من استحقاقات وقف إطلاق النار الشامل، عبر الاكتفاء باستعادة أسراها دون التزام سياسي واضح تجاه باقي بنود المبادرة مثل الانسحاب من غزة والضفة أو رفع الحصار.
غياب الضمانات الفعلية وتكرار الخطاب الإنشائي
رغم وضوح المقترحات، إلا أن المبادرة لا توضح بشكل عملي آلية إلزام الأطراف، ولا تُقدم أي ضمانات حقيقية سوى "الرهان الأخلاقي" على المجتمع الدولي، وهو رهان أثبت عجزه المزمن في الحالة الفلسطينية. كما أن تكرار المطالبة بإعادة الإعمار وفق "المبادرة العربية للسلام" يعيد إنتاج الخطاب التقليدي، دون التطرق إلى ديناميكيات جديدة مثل دور الأطراف الإقليمية غير العربية، أو طبيعة العلاقات المتغيرة في المنطقة، خاصة في ظل الهرولة نحو التطبيع.
صوت مهم لكنه معزول
لا يمكن التقليل من أهمية هذه المبادرة من حيث رمزيتها؛ فهي تُعبّر عن نبض إنساني حقيقي وصرخة ضمير في وجه آلة الحرب، كما أنها تُعيد الاعتبار لدور الفرد والمثقف والمجتمع المدني في الشأن العام. لكن في ميزان السياسة الفعلية، تبقى معزولة ما لم تتبنَّها قوى تملك زمام القرار، أو تتحول إلى ضغط شعبي جماهيري واسع يُجبر الفصائل على مراجعة حساباتها.
خاتمة:
المبادرة الشعبية الفلسطينية الجديدة تشكل مرآة عاكسة لحالة الاختناق السياسي والإنساني في غزة، لكنها أيضًا تفضح هشاشة النظام الدولي وتناقضاته. وفي حين تُعد محاولة جادة لتقديم رؤية بديلة عن الحلول العسكرية، إلا أنها تصطدم بجدار الواقع السياسي الصلب، الذي لا يُكسر بمجرد النوايا الحسنة. ومع ذلك، فإن التراكم الشعبي المستمر لهذه الأصوات قد يُشكل مع الزمن قوة ضاغطة لا يُستهان بها، بشرط أن تتبلور في مشروع وطني متكامل لا يكتفي بالنداء الأخلاقي، بل يبني إستراتيجية واقعية لمواجهة الاحتلال.