معركة مصطفي بيومي مع الارهابية لم تنهي صدور الطبعة الثانية من كتابه "نجيب محفوظ والإخوان المسلمون"
الثلاثاء 08/يوليو/2025 - 03:26 م
طباعة

صدر مؤخرا عن سلسلة "كتاب اليوم" بمؤسسة أخبار اليوم الطبعة الثانية من كتاب "نجيب محفوظ والإخوان المسلمون" للناقد والمبدع مصطفى بيومي، وذلك بعد مرور أكثر من عقدين على إصدار الطبعة الأولى في عام 2005.
الكتاب العميق يسلط الضوء علي شخصية الاخوان المسلمون في روايات "نجيب محفوظ"، وقد استخلص مصطفي بيومي كل الشخصيات التي تعبر عن فكر الاخوان، محللا أفعالها ومواقفها، وكيف عبرت عن نفسها من خلال السياق التاريخي والاجتماعي في مصر الكتاب ضم عدة محاور منها الاخوان والدين، الفكر السياسي للاخوان، الاخوان والمرأة، الاخوان والوفد، الاخوان والصدام مع ثورة يوليو، الاخوان والسادات والتيارات الدينية. صدرت الطبعة الاولي من الكتاب عام 2005
وقد كتب مقدمة الطبعة الثانية الكاتب الشاب احمد مصطفي بيومي وجاء في نصها
رسالة من مصطفي بيومي: المعركة لم تنته بعد
في حضرة الغياب، يصبح للكلمة مذاق مختلف، وللذاكرة عبء الحنين. أكتب هذه المقدمة بعد أن غاب والدي، مصطفى بيومي، عن عالمنا المادي، لكنه لم يغب يوما عن ساحة الفكر، ولم تنقطع كلماته عن السعي، ولم تخب جذوة الأسئلة التي ظل يشعلها في صمت وتواضع وكبرياء.
عرفت والدي ليس فقط كأب، بل كمثقف لا ينام إلا حين تروى فكرة، ولا يسكت إلا ليتأمل صوتا أعلى من الضجيج. عرفت فيه رجلا لا يكتب ليعجب الناس، بل ليثير السؤال، لا يتورع عن النقد، ولا يتحمس للعراك من أجل العراك، بل من أجل الحقيقة. وكان من أكثر المعارك التي خاضها فكرا وتحليلا -وليس صخبا وشتائم– تلك التي تناول فيها حضور جماعة الإخوان في المجتمع المصري، وعلاقتها المتوترة، الصامتة، المعقدة، بالأدب والكتاب.
هذا الكتاب الذي أقدمه للقارئ اليوم هو جزء من هذا المشروع؛ مشروع التذكير المستمر، واليقظة الدائمة، من مغبة التهاون مع فكر يضمر أكثر مما يعلن، ويتلون أكثر مما يوضح، ويندس بين الصفوف، لا ليصلح، بل ليفكك من الداخل. فالإخوان، منذ نشأتهم وحتى لحظتنا هذه، لم يكونوا يوما إلا جماعة وظيفية، ومشروعا سياسيا مغلفا بشعارات دينية، هدفه الأوحد السيطرة، واستلاب العقول.
ولأن نجيب محفوظ جذرا من جذور مصر الحديثة، وكان شاهدا على قرن من التحولات، كان لا بد أن تنعكس هذه الجماعة في مراياه، مرة كظل بعيد، وأخرى كوجه قبيح، وثالثة كصوت زاحف لا يخطئه السمع. ولم يكن محفوظ رجلا سياسيا، لكنه كان أديبا حساسا لما يجري، يكتب في رواياته ما قد لا يقال في المقالات. وقد أدرك أبي هذا مبكرا، فاختار أن يتتبع أثر الإخوان في كتابات محفوظ، لا ليدين فقط، بل ليفهم، ويفهمنا.
لم يكن موقف والدي من الإخوان وليد لحظة سياسية عابرة، أو مجرد رد فعل غاضب، بل كان ثمرة قراءة عميقة لتاريخ طويل من التلون، والتآمر، والدم. كان يعرف تماما أن الخطر الأكبر لا يأتي من العدو الظاهر، بل من الداخل المتخفي في ثوب الفضيلة، وأن المعركة الحقيقية لا تكون مع سيف ظاهر، بل مع عقل مغسول ومصطلحات منمقة وشعارات ترعب البسطاء.
إن الإخوان، كما كتب مرارا، هم جماعة تتغذى على الأزمات، وتتنفس مناخ الفوضى، وتتقن استغلال الدين ليصبح أداة حكم وقمع وتكفير، بدلا من كونه نبعا للتسامح والتنوير. وهم لا يرون في الفن جمالا، بل رجسا، ولا في الأدب حكمة، بل خرافة، ولا في الحرية حقا، بل فجورا. ولهذا، كان التصادم مع نجيب محفوظ أمرا حتميا، حتى وإن لم يأخذ الشكل العنيف الصريح إلا متأخرا حين طعنه أحدهم بسكين في رقبته، بتحريض فكري مباشر أو غير مباشر، من ذات المناخ الذي أنتج فكر التكفير والتفجير.
وأبي، إذ يتتبع هذه العلاقة بين محفوظ والإخوان، فإنه يضيء –بطريقته التحليلية– كيف كانت الجماعة حاضرة دوما، لا فقط في السياسة، بل في النسيج الثقافي والاجتماعي، تتسلل إلى العقل الجمعي، تعيد تشكيل الأذواق، وتزيف المفاهيم. ولهذا، فإن الحديث عنها لا يجب أن يحصر في لحظة سقوطهم السياسي في 2013، أو في أيام حكمهم البائسة، بل ينبغي أن يظل حيا في ذاكرتنا، لأن الفكر الذي لا يهزم، سيعود، حتى ولو سقطت راياته مؤقتا.
كان أبي مؤمنا بأن التنوير ليس رفاهية، بل ضرورة بقاء، وأن الأمة التي تنسى أعداء الوعي، سرعان ما تقع فريسة لابتسامتهم الخادعة، وكان يرى أن المثقف الذي يصمت عن الخطر، يصبح شريكا فيه. ولهذا، كتب عن الإخوان، وكتب عن الفقر، وكتب عن العشوائيات، وكتب عن القهر، وكتب عن المثقفين الذين خانوا دورهم، لأنه يؤمن أن هذا هو ما يجب أن يكون عليه صوت المثقف الحقيقي: ضميرا للأمة.
وربما، في لحظة كتابة هذه المقدمة، أتأمل، كابن فقد أباه، وكقارئ تتلمذ على يديه، كم هي مريرة هذه اللحظة التي نعود فيها لقراءة تاريخه في غيابه، لكنه الغياب الذي لا يقصي صاحبه، بل يرفعه، ما دام قد زرع بيننا ما يثمر. وهذا الكتاب واحد من تلك الثمار: عمل جاد، نزيه، عميق، يستحق أن يقرأ لا فقط كدراسة في علاقة أديب بجماعة، بل كمرآة لمرحلة مصرية حرجة، وكمساهمة صادقة في معركة الوعي التي لم تنته بعد.
إننا لا نعيد اليوم الحديث عن الإخوان لأننا نحب الخوض في الماضي، بل لأن الماضي يملك عادة ثقيلة في التسلل إلى الحاضر إن لم نكن يقظين، فالفكر المتشدد لا يموت بالسجون، ولا ينكسر بالحظر، بل يظل يعيد إنتاج نفسه في قنوات جديدة، وأسماء جديدة، لكنه يحمل ذات السم: ازدراء الحرية، وكراهية الفن، ورفض التعدد، واستغلال الدين لأغراض دنيوية.
وفي هذا السياق، فإن ما كتبه مصطفى بيومي هو ليس فقط كشفا لموقف محفوظ، بل تذكير بموقف ينبغي أن نعيد ترسيخه: أن المثقف لا يجوز له أن يهادن من يكره الفكر، ولا أن يصافح من يحتقر الفن، ولا أن يتغاضى عن من يكفر الناس باسم الله.
لقد عاش والدي مناضلا بالفكرة، وسلاحه الكلمة، ودرعه العقل، وختم حياته كما عاشها: صامتا حين يكون الصخب، ناطقا حين يلزم الموقف. وأنا أضع بين أيديكم هذا الكتاب الآن، لا فقط وفاء له، بل إيمانا بأن الأفكار لا تموت، وأن الذاكرة الحية هي السلاح الأول ضد عودة الظلام.
في النهاية، أقول لكل قارئ أمين: إن قراءتك لهذا العمل هي مساهمة في المعركة الحقيقية؛ معركة الوعي، وهي التذكرة التي نحتاجها دائما بأن من يحاول خطف العقل، لا يقل خطرا عن من يسرق الوطن.
واقتبس من أبي ما كتبه في هذا الكتاب بين أيديكم: "إن من يقرأ نجيب محفوظ بعمق لا يستطيع أن يقبل بالفكر الإخواني، ومن يتأمل عالم محفوظ يدرك أن هذه الجماعة لم تكن يوما منسجمة مع روح الفن، ولا مع نبض الإنسان، بل كانت دائما خارج نسيج الحياة الحقيقية، ترفضها وتخطط لامتلاكها بالقهر، لا بالمشاركة."
تلك كانت كلماته، وهي أبلغ من كل نداء، وأصدق من كل تحذير، فاقرأوا هذا الكتاب بعين اليقظة.
المعركة لم تنته بعد.
رحمك الله يا أبي، ألقاك على خير.
ابنك المحب
أحمد