اشتباكات على ضفتي الفرات.. تصعيد جديد بين الجيش السوري و"قسد" يكشف عمق الانقسام شرق دير الزور
السبت 26/يوليو/2025 - 09:30 ص
طباعة

في وقتٍ تتداخل فيه خيوط النزاع السوري بين السياسي والعسكري، وبين المحلي والإقليمي، شهدت محافظة دير الزور تصعيدًا جديدًا أعاد إلى الأذهان هشاشة الاستقرار الأمني في المنطقة الشرقية.
فقد اندلعت اشتباكات عنيفة ليل الجمعة - السبت بين قوات الجيش السوري وقوات سوريا الديمقراطية (قسد) على ضفتي نهر الفرات، في تطور يحمل دلالات سياسية وعسكرية تتجاوز مجرد التوترات المحلية، ويعكس تعقيدات الصراع المستمر على هوية وسيادة الأرض السورية.
وبحسب مصادر محلية من ريف دير الزور الشرقي، فإن المواجهات جرت في مدينة القورية، بعد أن رصدت وحدات من الجيش السوري تحركات اعتبرتها "مشبوهة" لعناصر من "قسد" على الضفة المقابلة لنهر الفرات. التحركات أثارت استنفاراً سريعاً، تلاه تبادل إطلاق نار استخدمت فيه أسلحة رشاشة متوسطة، واستمرت الاشتباكات لساعات، قبل أن تتراجع حدتها تدريجياً دون أن تتوفر معلومات دقيقة بشأن حجم الخسائر في الأرواح أو المعدات لدى الطرفين.
غير أن شهود عيان تحدثوا عن أجواء توتر شديدة سادت أوساط المدنيين، مع انتشار واسع للحواجز واستنفار أمني في البلدات المجاورة، ما يعكس خشية حقيقية من تطورات ميدانية أوسع في الساعات أو الأيام القادمة.
وفيما لم يصدر تعليق رسمي من الطرفين حول أسباب التصعيد، نقلت وسائل الإعلام الرسمية السورية تصريحات مهمة عن مدير إدارة الشؤون الأمريكية في وزارة الخارجية، اعتبر فيها أن ما جرى يأتي في سياق "مماطلة قوات قسد في تنفيذ نموذج مصغر للاندماج مع الدولة السورية في دير الزور".
وقال المسؤول إن "قسد تحاول فرض واقع اجتماعي وثقافي خاص بها، وتستحوذ على موارد المحافظة، وتتصرف كسلطة قائمة بذاتها، ما يعرقل الجهود الرامية إلى استعادة وحدة سوريا وفرض سيادتها على كامل أراضيها".
وربط المصدر الدبلوماسي السوري بين الجمود في تطبيق اتفاق العاشر من مارس/آذار، وبين غياب ما وصفه بـ"الرؤية الموحدة داخل قيادة قسد"، ملمّحًا إلى انقسامات داخلية وتدخلات خارجية تعيق أي خطوة نحو إعادة دمج المؤسسات المحلية في إطار الدولة.
واعتبر أن دمشق ما زالت تفتح الباب أمام الحل السياسي، لكنها في المقابل لن تتهاون مع من يحاول فرض وقائع جديدة على الأرض أو يعيق عودة سيطرة الدولة على مواردها الاستراتيجية، خصوصًا في مناطق تتمتع بثروات نفطية وزراعية ضخمة كريف دير الزور الشرقي.
ما جرى في القورية، وفقًا لمراقبين، لا يمكن فصله عن السياق العام المتوتر الذي تشهده المنطقة الشرقية من سوريا منذ شهور، حيث تتكرر حوادث الاحتكاك بين الجيش السوري و"قسد" في مناطق التماس القريبة من نهر الفرات، وسط تبادل للاتهامات حول تهديد الاستقرار، وتضارب المصالح، وتحركات سرية يُعتقد أنها تُمهّد لعمليات عسكرية أو تحولات ميدانية مفاجئة.
وتُعد محافظة دير الزور من أكثر المناطق حساسية، بالنظر إلى أنها تمثل نقطة التقاء بين مشاريع متنافسة: مشروع الدولة المركزية التي تسعى دمشق لاستعادتها، ومشروع الإدارة الذاتية الذي تتبناه "قسد" بدعم مباشر من التحالف الدولي بقيادة الولايات المتحدة.
ورغم أن "قسد" تبرر سيطرتها على شرق الفرات بمبررات أمنية تتعلق بمحاربة تنظيم داعش وضمان استقرار المناطق المحررة، إلا أن السلطات السورية ترى في تلك السيطرة امتدادًا للنفوذ الأمريكي، ومحاولة لفصل مناطق واسعة عن سلطة الدولة، ما يشكل من وجهة نظر دمشق تهديدًا مباشرًا لوحدة سوريا الجغرافية والسياسية. ويضيف التنافس على الموارد الاقتصادية في المنطقة، لاسيما النفط والغاز والمياه، أبعادًا جديدة لهذا الصراع المعقّد، إذ تتهم الحكومة السورية "قسد" بأنها تستحوذ على الموارد وتمنع وصولها إلى بقية المحافظات، بينما تنفي "قسد" هذه الاتهامات وتقول إنها تدير الموارد بشكل يخدم سكان المنطقة أولاً.
ومن الناحية الشعبية، يبدو أن المزاج العام في ريف دير الزور يزداد توترًا، وسط تصاعد الشكاوى من الاعتقالات التعسفية والممارسات الأمنية التي تنفذها "قسد" بحق سكان القرى والبلدات ذات الغالبية العربية، الأمر الذي يعمّق الشرخ بين القيادة الكردية في "قسد" وبين المكوّن العربي الذي يشكّل قاعدة شعبية واسعة في شرق الفرات.
هذا التوتر المحلي غالبًا ما يتحول إلى حوادث عنف مفاجئة، ما يفتح الباب أمام احتمال توسع الاشتباكات وتحولها إلى مواجهة أوسع إن لم يتم احتواؤها في الوقت المناسب.
ويرى محللون سياسيون أن التصعيد الأخير قد يكون رسالة مزدوجة من دمشق، موجهة إلى الداخل والخارج في آنٍ معًا. فعلى المستوى المحلي، هو تأكيد على أن الدولة السورية لا تزال تعتبر شرق الفرات جزءًا لا يتجزأ من أراضيها، ولن تقبل باستمرار حالة الانفصال السياسي والعسكري القائمة حاليًا.
أما خارجيًا، فقد يكون هذا التصعيد محاولة للضغط على الجهات الدولية الراعية لـ"قسد"، لا سيما واشنطن، لدفعها نحو الانخراط بجدية في تسوية تضمن عودة مؤسسات الدولة إلى تلك المناطق، خصوصًا في ظل تراجع الحضور العسكري الأمريكي في بعض النقاط، وتزايد المؤشرات على تغيير محتمل في سياسة واشنطن تجاه الملف السوري.
ويري مراقبون أنه في ظل هذه التطورات، تبدو الخيارات أمام الأطراف المتصارعة محدودة، فبين الإصرار على فرض الواقع بالقوة، والسعي لإيجاد تسوية سياسية غير واضحة المعالم، يبقى شرق سوريا مرشحًا لمزيد من التصعيد، خاصة إذا استمر تجاهل المعادلات المحلية المعقّدة، والتي تشمل العشائر العربية، والمصالح الاقتصادية، والخلافات السياسية بين الأكراد والعرب، إضافة إلى الدور المتقلب للفاعلين الدوليين في المنطقة.
وبين كل هذه المعطيات، لا يزال نهر الفرات، بما يحمله من دلالات تاريخية، يشهد انقسامًا جديدًا لا يقل عمقًا عن أي مرحلة سابقة من الصراع السوري، في انتظار لحظة توافق قد تأتي أو لا تأتي.