"صدمة" جهيمان.. أعادت السعودية للوهابية
الإثنين 20/نوفمبر/2023 - 11:00 ص
طباعة
حسام الحداد
•الكتاب: حتى لا يعود جهيمان
•المؤلف:: د.توماس هيغهامر ود.ستيفان لاكروا
•المترجم: د. حمد العيسى
•الناشر: منتدى المعارف في بيروت 2013
ترجع أهمية الكتاب، الذي يحمل عنوان (حتى لا يعود جهيمان: حفريات إيديولوجية وملاحق وثائقية نادرة)، ليس فقط في نوعية العمل، وحساسية الملف الذي يتطرق إليه؛ بل تكمن، أيضاً، في بعض الخلاصات المهمة، التي تساعد الباحثين على قراءة بعض الآثار السلبية لقلاقل تدبير الملف الديني في المنطقة، وهو التدبير الذي يختلف بين هذه السياسة وتلك، والمتأثر بهذا السياق أو ذاك، بما يُفسّر، مثلاً، أنّ التفاعل مع الظاهرة الإسلامية الحركية يختلف بين مرحلة ما قبل وما بعد اندلاع أحداث ما اصطُلح عليه بأحداث (الربيع العربي).
وقد أشار د. الأحمري في مقدمته إلى أنه ما كان يتوقع أن يقدم يوماً لعمل استشراقي؛ لما يصاحب غالب أعمال المستشرقين من فقدان الموضوعية حتى صارت منبوذة لدى المتلقي، وأصبح الإنصاف من المستشرقين شذوذاً يعزز قاعدة التجني من قبل عامتهم، ولذا تروج أفكار المستشرقين عبر وسطاء وناقلين محليين. وقد أثنى على ما في عمل المؤلفين من إحكام وأخذ عليه تأثره بغربتهم عن بيئتنا وسيطرة الهاجس التنظيري أحيانا، وعدَّ من العبث ما أشيع كمسلَّمة عن هزيمة جهيمان وانتشار أفكاره.
ولفت المترجم د. العيسى نظر القراء إلى اعتماد الباحثين بشكل كبير على أقوال الأستاذ ناصر الحزيمي الذي تحول بدرجة 180 بعد أن قضى ثماني سنوات في السجن، ثم نشر ذكرياته في الرياض السعودية وليس الغارديان اللندنية! وبحسرة المواطن المخلص قال المترجم إن التسهيلات التي منحت للمؤلفين الشابين لو منح مثلها لباحث سعودي لجاء بحثه أحسن وأحكم، وقد أثبت المترجم دعواه هذه حين أضاف للكتاب سبعة ملاحق ذات قيمة عالية؛ خاصة وثائق السفارة الأمريكية، كما تعقب المترجم المؤلفين في بعض المواضع؛ ولم يقع أسيراً لأصولهما الغربية.
يتكون الكتاب من عدة مقدمات وفصلين، ويتحدث الفصل الأول عن جهيمان وأحداث احتلال الحرم، ويختص الفصل الثاني بدراسة تأثير الشيخ الألباني الذي رآه الأحمري تأويلاً مبالغاً فيه مع أن المؤلفين كانا أنزه من بعض بني جلدتنا حين كتبا بصراحة أنهما بريئان من إتهام الألباني ونسبة أخطاء حركة جهيمان إليه.
وبعد ذلك أضاف المترجم سبعة ملاحق، الأول والثاني فقرات من كتب غربية عن السعودية وحادثة جهيمان، والثالث حوار لصحيفة السفير اللبنانية مع الملك فهد بعد إنهاء التمرد وكان حينها ولياً للعهد، والملحق الرابع حوار لذات الصحيفة مع الأمير نايف وزير الداخلية آنذاك، والملحق الخامس نقل فيه بيان هيئة كبار العلماء، وأما السادس وهو الأهم فقد تضمن ترجمة 35 وثيقة من برقيات السفارات الأمريكية في جدة وطهران والكويت ودمشق وعمان والقاهرة والرباط، والملحق السابع للصور؛ وإحداها تنشر لأول مرة في كتاب صادر بالعربية، وهي صورة الضباط الفرنسيين الثلاثة ومعهم ضابط سعودي طمس وجهه.
ومن المُهمٌّ جداً التوقف عند أسباب نزول الكتاب، كما نقرأ ذلك في كلمة المترجم حمد العيسى، وقد جاء فيها: «إن هدفي من اختيار هذا الكتاب، أنّ جهيمان أُعدِم، ومات، ونال ما يستحقه جرَاء فعلته النكراء، ولكنّه، كما يشرح مؤلفا الفصلين الأول والثاني في هذا الكتاب، ترك ذكرى، وبعض الأفكار الخطرة التي واصل حملها بعض خلفائه، مثل: أبي محمد المقدسي، الذي كان أكثر تطرّفاً من جهيمان؛ وعانينا من هذه الأفكار لاحقاً في تفجيرات الرياض عام (2003م) مثلاً»، وفي غيرها من التفجيرات التي طالت العديد من الدول الإسلامية والغربية على حدّ سواء.
الفصل الأول (ص 51 ـ 99) مُخصّص كليّاً لتسليط الضوء على واقعة اقتحام الحرم المكي، في حين خُصّص الفصل الثاني (ص 101 ـ 126) لاستعراض تأثير الشيخ الألباني (ت 1999م) على بزوغ الظاهرة السلفية، في نسختها المعاصرة. ومن أهمّ مضامين هذا الفصل أنّ الألباني وفّرَ المبدأ الأساس، الذي كان ضرورياً لبزوغ تيار (أهل الحديث الجدد)، عبر آرائه الفقهية الأصيلة، ومعارضته النفوذ المتزايد للإخوان المسلمين، وتيار الصحوة، في الفضاء الديني السعودي، وما بعده، مع رغبة في إعادة تشكيل وتجديد (السلفية) الوهابية، والمحافظة، في آنٍ، على موقفه القويّ ضدّ التدخل في السياسة.
ويخلص ستيفان لاكروا، في هذا السياق، إلى أنّ هذا التيار السلفي (الألباني المرجعية) يُعدُّ، اليوم، «مسيطراً داخل الحركة السلفية في العديد من الدول، كما أنّ له وجوداً قوياً جداً في العديد من الدول الأخرى، مثل: السعودية، والأردن، والكويت، واليمن، وفرنسا، والجزائر، التي أدركت أنظمتها الحاكمة، منذ فترة طويلة، فائدة هذا التيار لعمل توازن مع صعود أنموذج من السلفية السياسية، التي تشكّل تحدياً غير مسبوق لسلطانهم». ولهذا السبب تحديداً، وفي عالم ما بعد أحداث (11 سبتمبر 2001م)، فإنّ هذه «الأنظمة تعتبر هذا التيار ضرورياً، حيث لا يمكن الاستغناء عنه مطلقاً، وهذا هو السبب-جزئياً على الأقل- الذي سيجعل هذا التيار يواصل الانتعاش والازدهار في السنوات القادمة، ليُصبح، من ثمّ، أحد أهم مكونات الإسلام السلفي»
الفصل الثالث (ص 133 ـ 168) عبارة عن ترجمةٍ لدراسة مرجعيّة ونادرة جداً، وتترجم إلى العربية لأوّل مرة. مُحرّرها هو جوزيف ألبرت كيشيشيان، وهو عالم أمريكي من أصل أرمني؛ ومؤرّخ وعالم سياسة مرموق، ومتخصّص تحديداً في منطقة الخليج العربي. يُلخّص كيشيشيان واقعة اقتحام الحرمين في سطرين دالين: «كان العتيبي وإخوانه يريدون محاكاة المثال النبوي: الوحي، ثم الدعوة، ثم الاستيلاء على السلطة، لإسقاط الحكم، وإقامة المجتمع الإسلامي المتزمّت، الذي يحمي الإسلام من الكفار، ويبغض الأجانب»
وبالعودة إلى أهمِّ الخلاصات، التي جاءت في الكتاب، نخصّ بالذكر تلك الواردة في الفصل الرابع (ص 169 ـ 185) من الكتاب، وعنوانه (الدين والدولة في السعودية: مَن يُهيمن على مَن؟)، وتنطلق مُحرّرة الفصل الباحثة رينيه فان ديمن من نقضِ دعوى متداولة في أدبيات العلاقات الدولية، ومفادها: أنّ البلدان النامية تصبح، حتماً، أكثر علمانية خلال عملية التحديث. والحال أنّ دراسة التفاعل بين الدين والسياسة في المملكة العربية السعودية تُناقض هذا الافتراض، وذلك لاعتبارات عدّة أهمها أنّ طفرة السبعينيات النفطية، والتطوير اللاحق في المملكة لكلّ من البنية التحتية، والاقتصاد، وحتّى المجال الاجتماعي، لم يغيّر طبيعتها الدينية، بما يتطلّب التسليم بتعقيد العلاقة بين السلطة الزمنية الحاكمة والمؤسسة الدينية، ومن هنا دلالة عنوان الفصل: (أَتهيمن الدولة على الدين أم يهيمن الدين على الدولة؟).
حتى نأخذ فكرة أولية حول الآثار السلبية لحادثة الحرمين على مشروع التحديث في السعودية، من المهم التذكير بلائحة من الإنجازات التي تحقّقت في العقود الأولى الموالية للطفرة النفطية، حيث تمّ التسريع من وتيرة تحديث المملكة، عبر إدخال التكنولوجيات الجديدة إلى المجتمعات البدوية، وبناء خطوط الاتصال، وطرق النقل، وتطوير البنية التحتية السعودية، بالإضافة إلى هذه التغيرات المادية، كما حظر الملك فيصل بعض الممارسات (السلفية) الوهابية، التي عفا عليها الزمن مثل الرقّ، وأدخل تعليم المرأة، وأطلق التلفزيون السعودي. كما شهدت الستينيات، ثم السبعينيات بالتحديد، ما اصطلحت عليه الدراسات الغربية بـ(سنوات تفجّر التنمية، والتجريب الليبرالي، والانفتاح على الغرب)، على الرغم من أنّ هذه التقنيات والتطورات الاجتماعية كانت تُعدُّ بِدعاً، وفقاً للمرجعية السلفية الوهابية.
وما تخلصُ إليه الباحثة أعاق استيلاء جهيمان العتيبي وجماعته على الحرم المكي عام (1979م)؛ بل عرقل، بالفعل، مسار المملكة التدريجي نحو العلمانية لعقدين من الزمن على الأقل، حيث احتلت مجموعة من الأصوليين (السلفيين) الوهابيين، بقيادة جهيمان، الحرمَ المكي؛ لأنهم عدُّوا التغييرات التحديثية، التي تشهدها المملكة في جميع أنحاء البلاد، انتهاكاً لتعاليم الدين. وعلى الرغم من أنّ معظم السكان المسلمين شعروا بالرعب من الأعمال العدوانية للمتمردين على الحرم المكي، إلا أنّ نقد المتمردين للسلطة، ودعوتهم لوقف التغريب الثقافي للمملكة، حصلا على تعاطف مدهش عبر المملكة، كما أنّ مخاوف جهيمان كانت متفقة مع التزمّت الأخلاقي (السلفي) الوهابي، الذي كان يعادي النزعة الاستهلاكية، والانغماس في الملذات والمادية، التي نتجت عن دمج الاقتصاد السعودي الريعي في نظام عالمي للعلاقات الرأسمالية.
مُجريات الأحداث، تفاعلاً مع صدمة الاعتداء على الحرمين، لم تعد سراً من أسرار الساحة، فقد كان أحد أبرز عواقبها إعادة توجيه التمويل السياسي لنشر المشروع السلفي الوهابي في الخارج، وكانت إحدى الوسائل، التي شكّلت هذه الهوية، تمرّ عبر دعم المنظمات، والجماعات، والمشاريع، التي تروّج لـ«إحياء الإسلام في المناطق الأكثر فقراً في العالم الإسلامي»
هناك اختلافات جليّة بين الباحثين حول أسباب دعم وترويج المشروع السلفي الوهابي، بين اتجاه بحثيّ لخّصه ياروسلاف تروفيموف، الذي يُجادل بأنّ الحكومة السعودية وافقت على نشر (السلفية) الوهابية مقابل الدعم المحلي من العلماء أثناء وبعد حادثة مكّة، واتجاه يُمثّله جيفري هاينز، الذي انطلق من أطروحة جوزيف ناي عن (القوة الناعمة)، للاعتراض على الاتجاه الأول بأنّ الحكومة أُجبرت على نشر الإسلام الوهابي لأسباب دينية بحتة، بقدر ما كان ترويج هذا النمط من التديّن يروم تعزيز الأهداف السياسية الخارجية عن طريق نشر قوتها الناعمة.
من مفاتيح الكتاب، أيضاً، تسليط الضوء على نموذج عربي في (السياسات الدينية)، إذا سَلّمنا، جدلاً، بأن الدول العربية والإسلامية، كانت لديها سياسات عمومية دينية واضحة المعالم، والأفق، والأهداف.
فيما يتعلق بالحالة السعودية، اتّضح أنّ استخدام الدين في سياق إحداث نوع من التوازن السياسي والاجتماعي زاد من الصدع بين المحافظين والسلطة الحاكمة. ومن المفارقة المدهشة أنّ عودة النظام للتمسك بالسلفية الوهابية، وتطبيقها بقوة داخل المملكة، بعد تمرّد مكّة عام (1979م)، أنتج جيلاً جديداً من (الجهاديين) أكثر تطرفاً، بمعنى آخر، تدفق القوة الناعمة السعودية (أي تمويل المؤسسات الإسلامية)، ما أسهم، من حيث لا تشاء السلطات السعودية، في خدمة تطرف إسلامي (جهادي) قاده على الخصوص أسامة بن لادن وما تلاه من جماعات سلفية جهادية أدت في النهاية إلى مولد تنظيم الدولة "داعش" وما يقوم به في معظم الدول الإسلامية من قتل وتخريب وإرهاب.