تصحيح المفاهيم: مبدأ السَّمع والطاعة عند الجماعات المتطرفة

الأربعاء 27/مارس/2019 - 11:28 ص
طباعة تصحيح المفاهيم: مبدأ حسام الحداد
 
يقدم الأزهر الشريف من خلال منصاته الإلكترونية المتعددة العديد من الموضوعات التي تعمل على تفكيك الفكر المتطرف وتقديم فكر معتدل يقوم على روح الانسانية والمساواة بين البشر، وفي اطار تفكيك المفاهيم والمصطلحات تقدم وحدة رصد اللغة العربية تفكيكا لمفهوم "السمع والطاعة" لدى الجماعات المتطرفة، حيث تعتمد التنظيمات الإرهابية في تأصيل مناهجها على فهمٍ مغلوط لنصوصِ القرآن والسُنَّة؛ حتى يتسنى لهم إيهامُ أتباعهم أنهم ينطلقون من منطلقاتٍ شرعيَّةٍ أصيلةٍ، ومن هذه النصوص التي يُفسِّرونها على غير وجهها الصحيح، تلك التي تتعلق بمبدأ السمع والطاعة في الإسلام، مثل قول الله تعالى: {وَاذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَمِيثَاقَهُ الَّذِي وَاثَقَكُم بِهِ إِذْ قُلْتُمْ سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا}، وقول النبي صلى الله عليه وسلم: «وأنا آمركم بخَمسٍ؛ اللهُ أمرني بهن: الجماعة والسمع والطاعة والهجرة والجهاد»، وقوله صلى الله عليه وسلم: «اسمعوا وأطيعوا، ولو استُعمل عليكم عبدٌ يقودكم بكتاب الله تعالى»،  وقول عُبادةَ بنِ الصامت:« بايعنا على السمع والطاعة في مَنشطنا ومَكرهنا وعُسْرنا ويُسْرنا وأَثرةٍ علينا، وألّا نُنازِعَ الأمرَ أهلَه، إلّا أنْ تَرَوا كفرًا بواحًا عندكم من الله فيه برهان»، واستظهروا من هذه النصوص وجوبَ  الطاعة لكلِّ أميرٍ ولو لم يكن إمامًا.
ويلحظ المتابع لما تُصدِره الجماعات المتطرفة، أنَّ هذا الخطاب وتلك اللهجة، دائمًا ما تسعى الجماعات المتطرفة إلى ترسيخه في عقول وقلوب منسوبيها، ومن خلال ما تَسطُره أقلام هذه التنظيمات، نجد أن السمع والطاعة عندهم عبارة عن: عَلاقةٍ بين شخصٍ وتنظيمٍ يُصبح بموجَب تلك العَلاقة تابعًا للتنظيم تبعيةً مباشرةً ومُطْلقةً؛ بحيث يُقَدِّمُ ولاءَه الكامل لتلك الجماعة، بدايةً من أدنى أمرٍ يوَجّهه القادة إليه، وُصولًا بتقديم الرّوح والنّفس رخيصةً في سبيل تنفيذ فكر الجماعة ومعتقداتها.
ومن الجدير بالذّكر؛ أنَّ تلك التنظيماتِ تحتاج بين الحين والآخر إلى تأكيد الرسالة، وترديدها مرّةً بعد مرّة على أفرادها والمنتسبين إليها؛ ضمانًا لاستمرار السيطرة على أفراد التنظيم،  وخوفًا من أن يقوم أحد الأفراد بترك التّبعية لهذه الجماعة بالخروج عنها، أو إعلان المعصية لمن يسمُّونَه الأمير.
ولعلَّ هذا ما يعطينا إجابةً واضحةً عن سبب قيام هذه الجماعات بعقْد دَوراتِ استتابةٍ لكلّ مَنْ يدخل في رحابهم ويقتنع بفكرهم، أو حتى مَنْ يَقدُم عليهم مِنْ خارج مناطق سيطرتهم، ويصل الأمر أحيانًا إلى عقد امتحانٍ في نهاية كل دَورة؛ حتى تحصلَ عند قادة التنظيم حالةٌ من الطمأنينة تعطيهم مؤشِّرًا على أن الأفراد الذين تمَّ تدريبهم قد تشبَّعوا بفكر الجماعة، حتى ما عاد في عقولهم موضعُ شبرٍ لأيِّ فكرٍ آخَرَ يخالف فكر الجماعة، ولو كان صحيح المنقول، وصريح المعقول.
بهذه الطريقة الملتوية، وبهذا المنهج المنتكس؛ يصل أفراد التنظيم إلى درجة الاعتقاد بأن ما يقدّمونه هو أرقى أنواع الجهاد في سبيل الله، وأنَّ الحقَّ يدور مع الجماعة حيث دارت، لا أن الجماعة تدور مع الحقِّ حيث دار، وكأنَّ فكر الجماعة وأصول معتقدها هو الحاكم الأوحد على نصوص الشَّرع، لا العكس!
وربّما يحاول البعض من أتباع هذه التنظيمات أنْ يُلبِسوا باطلَهم ثوبَ الحقّ، فيعلنوا أنَّ طاعتهم لأمرائهم وقادتهم ليست مطلقةً، وإنما هي مُقَيَّدةٌ بغيرِ معصية؛ ويَسوقون من أدلة الكتاب والسُّنَّة ما يُبرهِن على ذلك؛ نقول: عند الحديث عن مبدأ السمع والطاعة في أوساط الجماعات المتطرفة، لا بدَّ من التفريق بين نَوعين من الطاعة:
النوع الأول: طاعة مترتبة على البَيْعة: وهي تلك الطاعة التي يقوم بها الفرد مع هذا التنظيم، ويترتّبُ بموجَبها الهجرةُ إلى مناطق نفوذ تلك الجماعة، ووجوب السمع في المَنشط والمَكره، وهذه الطاعة عندهم مُقَيَّدةٌ بألّا تكونَ في معصية؛ كأنْ يُؤمرَ بالصلاة وقراءة القرآن والصدق... إلخ"، وتقييدها بالكتاب والسنة فيه تمويه باتّباع الشرع؛ إذ إنهم يدَّعون أنهم لا يأمرون أحدًا بمعصية، وعلى الفرد أن يعتقد اعتقادًا جازمًا أن ما تفعله الجماعة هو الصواب المطلق، والحق الذي لم يُفارِقْ الشّرعَ قِيدَ أَنْمَلَة.
النوع الثاني: الطاعة في الحرب: وهي تلك الطاعة التي بموجَبها يقوم الفرد بتنفيذ أوامر القائد في كل شيء، حتى ولو بَدَت الأمورُ في ظاهرها مخالفةً للكتاب والسُنَّة، فعلى الفرد أنْ ينفِّذَ الأمرَ دون نقاش؛ لأن النقاش جدلٌ، والمجادلة مُعَطِّلةٌ لمسيرة الجهاد؛ وتؤدّي إلى الفتنة بين الإخوة، وعلى ذلك: فالمُناقِش أو المُعترِض، يُحكم عليه بالقتل رِدّةً؛ لأنه نَكَثَ في بَيعته!
ومما ينبغي أن نتنبّه إليه: أنَّ الاستشهاد بالآيات القرآنية والأحاديث النبوية في هذا المَقام لا يَعدو أن يكون نوعًا من دَغْدغة المشاعر واللعب على وتر الدِّين؛ حتى تتمَّ طاعة الأوامر لأمراءَ مجهولين يعيشون في السراديب، لتنفيذ أعمال القتل وسفك الدماء.
وإن تعجبْ فعجبٌ صنيعُ هؤلاء الخوارج حين يُنزلون أوامر قادتهم منزلة أوامر رسول الله -صلى الله عليه وسلم- في وجوب طاعتها، ويُرَوِّجون كذبًا وزُورًا أن مخالفة الأوامر تؤدّي إلى هزائمَ نفسيّةٍ وعسكرية، استشهادًا بما وقع في غزوة أُحُد، لَمّا خالف بعضُ الرُّماة أمرَ النبي -صلى الله عليه وسلم- وتَرَكَ الجبلَ؛ فانكشفت ظهور المسلمين ووقعت الهزيمة، وهذه -بلا شكٍّ- مُغالَطةٌ صارخةٌ؛ فإن فِعْلَ النبي -صلّى الله عليه وسلم- وقَوْلَه، وتقريرَه، كلُّ ذلك من مَعين الوحيّ، وهو في مُجْمَله وتفصيله موصولٌ بالسماء، أمّا فِعْل غيره -صلّى الله عليه وسلم- فبخلاف ذلك، فأين الثَّرى من الثُّرَيّا؟!
 ومما يدل على تهافت كلامهم، وضعف حجتهم، وسفاهة منطقهم: استشهادُهم ببعض النصوص النبوية التي توجب السمع والطاعة للأمير، وتناوُلها بمَعزِلٍ عن أخواتها من النصوص المُقَيِّدة لمُطلَق هذه الطاعة، والمُبَيِّنة لمُجْمَلها، ومن ذلك: ما جاء في صحيح البخاري، عن عليّ بن أبي طالب -رضي الله عنه- قال: «بعث النبيُّ -صلّى الله عليه وسلم- سَريّةً، فاستعمل رجلًا من الأنصار، وأمرهم أن يُطيعوه، فغضب، فقال: أليس أمرَكم النبيُّ -صلّى الله عليه وسلم- أن تُطيعوني؟ قالوا: بلى، قال: فاجمَعوا لي حطبًا؛ فجمَعوا، فقال: أَوْقِدوا نارًا، فأَوْقَدوها، فقال: ادخلوها، فهَمُّوا، وجعل بعضُهم يُمسِك بعضًا، ويقولون: فررنا إلى النبي -صلّى الله عليه وسلم- من النار، فما زالوا حتى خَمَدت النار، فسكن غضبُه، فبلغ النبيَّ -صلّى الله عليه وسلم- فقال: «لو دخلوها ما خرجوا منها إلى يوم القيامة؛ الطاعة في المعروف».
بهذا التقرير النبوي، وبهذا التوضيح المُحَمَّديّ؛ يُبَيِّنُ لنا النبيُّ -صلّى الله عليه وسلم- حدودَ هذه الطاعة وضَوابِطَها.
والسؤال المُهِمُّ إذًا: هل ما تقوم به تلك الجماعاتُ الإرهابية من قتلٍ وخرابٍ وتدميرٍ باسم الدّين من المعروف في شيء؟
والسؤال الأهمُّ: من أين اكتسب قادة التنظيمات تلك القُدسيّةَ المزعومة التي توجب طاعتهم طاعةً مطلقة؟ وهل صحّت بَيعة هؤلاء حتى يُضْفوا على زعمائهم لقبَ "خليفة المسلمين"؟
إنَّ العاقل لا يُسَلِّم أصلًا ببَيعة هؤلاء القتلة، فضلًا عن أن يُناقِشَ في وُجوب طاعتهم؛ فقد جاء في صحيح البخاري، أن عمرَ صَعِدَ المنبرَ، فقال في خُطبةٍ له طويلةٍ: "بَلَغَنِي أَنَّ قَائِلًا مِنْكُمْ يَقُولُ: وَاللَّهِ لَوْ مَاتَ عُمَرُ بَايَعْتُ فُلَانًا، فَلَا يَغْتَرَّنَّ امْرُؤٌ أنْ يَقُولَ: إِنَّمَا كَانَتْ بَيْعَةُ أَبِي بَكْرٍ فَلْتَةً وَتَمَّتْ، أَلَا إِنَّهَا قَدْ كَانَتْ كَذَلِكَ، وَلَكِنَّ اللَّهَ وَقَى شَرَّهَا، وَلَيْسَ مِنْكُمْ مَنْ تُقْطَعُ الْأَعْنَاقُ إِلَيْهِ مِثْلُ أَبِي بَكْر؛ مَنْ بَايَعَ رَجُلًا مِنْ غَيْرِ مَشُورَةٍ مِنَ الْمُسْلِمِينَ فَلَا يُبَايَع هُوَ وَلَا الَّذِي بَايَعَهُ؛ تَغِرَّةَ أَنْ يُقْتَلَا".
فهذا عمرُ -رضي الله عنه- يُنكِر أَشَدَّ الإنكار، أنْ يَعْمِدَ رجلٌ إلى رجلٍ فيبايعه بالخلافة، على غيرِ مشورةٍ من المسلمين؛ فمثلُ هذا التصرف، قد يفتح بابًا للشرِّ لا يُغلَق، وهذا ما حدث بالفعل مع "البغدادي" -مُدَّعي الخلافة المزعوم- وأتباعه المُغَيَّبين، الذين لم يُعرف عنهم دفاعٌ عن المُقَدَّسات والحُرُمات.
وهذا ممّا يوجِب تزويدَ الشباب بالفكر المستنير، ويُلزِم الجهاتِ المعنيَّةَ بضرورة إظهار حقيقة التطرف، وبيان أن الإرهاب صناعةٌ لا عَلاقةَ لها بالإسلام مِن قريبٍ أو بعيد.

شارك