الأكراد وحلم الدولة المستقلة (الجغرافيا.. التاريخ .. المحفزات .. الموانع)
الإثنين 09/فبراير/2015 - 08:24 م
طباعة
مدخل:
على مدى تاريخه الطويل لم يعرف الشعب الكردي، الذي يزيد تعداده حالياً على 40 مليون نسمة، دولة مستقلة. وظل هذا الشعب منذ حوالي 3000 عام جزءًا من أمم أخرى، أو نجح في إقامة إمارات متناثرة في أحسن الأحوال في إطار دول أكبر سادت المنطقة مثل الدولة الإسلامية أو الدولة العثمانية، كإمارة البابانيين قرب السليمانية وإمارة أردلان وإمارة بوتان في كردستان (تركيا الحالية)، ثم إقامة ولايات مثل ولاية شهرزور وعاصمتها كركوك الحالية وولاية الموصل وغيرهما.
لكن فكرة تشكيل دولة كردية مستقلة لم يكن يشغل الوعي الكردي أو هاجسه بل لم يكن مطروحاً بالأساس كضرورة أو حتى رغبة ثانوية، ذلك أن مفهوم الدولة الحديثة لم يكن قد ظهر أو وصلت أفكاره إلى المنطقة حتى نهايات القرن التاسع عشر، حيث بدأ الكثير من الدول في الظهور بالمنطقة وفق نظام حديث.
حلم قديم:
محمود الحفيد
لكن الزعامات الكردية وقتذاك، رغم إمكاناتها، ظلت منشغلة بقضايا ثانوية صرفت اهتمامها عن هدف تحقيق حلم إقامة الدولة الكردية المستقلة، التي ظلت الإمبراطوريتان الفارسية والعثمانية ومن بعدهما إيران وتركيا الحديثتان تحاربان بشدة أي جهد أو مسعى في ذلك الاتجاه.
ورغم أن بعض الفرص المواتية تهيأت للكرد بعد الحرب العالمية الأولى لرسم ملامح دولتهم المستقلة، في إطار المعاهدات والتحالفات الدولية والإقليمية التي سادت وقتذاك، إلا أن الزعماء الكرد، وفي مقدمتهم الشيخ محمود الحفيد، اكتفى بإقامة مملكته الصغيرة في السليمانية، والتي لم تدم طويلا، وانهارت سريعاً بعد حرب دامية مع قوات الاحتلال البريطاني التي قضت على الإمبراطورية العثمانية في المنطقة وكل الكيانات المتحالفة معها، ومن ضمنها مملكة الحفيد الذي أخفق في اغتنام واستغلال الأجواء والمشاعر التي سادت وقتها لانتزاع الاعتراف بحق الكرد في امتلاك دولتهم.
دكتور لقاء مكي
هكذا انهارت أول دويلة كردية مستقلة إثر اصطدامها بواقع التقسيمات السياسية التي أعقبت الحرب العالمية الأولى، في ظل عدم انتباه الملك الكردي الأول محمود الحفيد إلى أن العصر الجديد يتطلب رؤى وسلوكيات جديدة، فحدث أن حصل الأتراك على دولتهم، فيما ظل الكرد بلا كيان سياسي مستقل، بل وتوزعوا على أربعة من بلدان المنطقة وهي تركيا وإيران والعراق وسورية.
ويعترض حلم قيام دولة كردية بحسب دكتور لقاء مكي المتخصص في الشئون العراقية جملة مصاعب حقيقية بعضها يرتبط بالطبيعة والجغرافيا، والبعض الآخر يتعلق بالظروف الإقليمية والدولية والحقائق الجيوسياسية التي لا يمكن تخطيها.
الجغرافيا والتاريخ في مواجهة حلم الدولة:
عبد الله أوجلان
هناك أولا: مشكلة التضاريس الصعبة، فأرض الكرد أو كردستان هي عبارة عن سلاسل مستمرة من الجبال والمرتفعات التي تبلغ أحيانا حدا شديدا من التعقيد، هذه التضاريس كانت هيأت الظرف لحماية واستمرار العمل الكردي المسلح عقودا طويلة، وحفظت لمئات السنين تراث الكرد وثقافتهم، لكنها في الوقت نفسه وعلى امتداد الأزمان مثلت عنصر إعاقة جوهريا أمام بناء دولة كردية موحدة، بل وحتى توحيد الكرد ومنع تشرذمهم إلى تجمعات متباعدة ومنعزلة من الصعب أن تتفق فكريا وثقافيا وسياسيا.
ثانيا: الخلافات الكردية- الكردية أو صعوبة التنسيق في أحسن الأحوال، إذ ما زال كرد كل دولة في المنطقة متميزين عن الآخرين من بني جنسهم في رؤاهم السياسية، وأساليب عملهم بين عسكرية وسياسية وكذلك في تحالفاتهم الخارجية لا سيما الإقليمية أو مع الولايات المتحدة.
إن كرد تركيا مثلا ينشطون من خلال حزب العمال الكردستاني يساري التوجه، الذي عاد للعمل المسلح بعد سنين من اعتقال قائده عبد الله أوجلان، وهذا الأخير كان يعتبر قيادات كرد العراق مجرد زعامات إقطاعية؛ ولذلك لم يجد كرد تركيا ملاذا لدى أشقائهم في العراق، فظلوا في منطقة الشريط الحدودي المعقدة والعصية على كل خصومهم.
ثالثا: الموانع الإقليمية الرافضة لأي توجه كردي نحو الاستقلال حتى لو كان جزئيا، وتقف تركيا في مقدمة هذا المنهج، ورغم أن معظم الكرد يتمركزون في هذه الدولة (حوالي 16 مليونا)، فإن الدستور التركي يرفض الاعتراف حتى بوجود الكرد ويسميهم (أتراك الجبل)، والسلطات التركية لم تسمح إلا مؤخرا باستخدام اللغة الكردية بشكل علني إلى جانب السماح ببعض الأنشطة الخاصة بالكرد، التي تقتصر على نيل جزء من حقوقهم الثقافية والقومية، ويقترب الأمر من ذلك في سوريا، وبشكل ما في إيران؛ ولذلك فإن هذه الدول ترفض بإصرار أن تتشكل دولة كردية في العراق مثلا وهي يمكن أن تمارس عليها حصارا خانقا، بل إن أيا منها- لا سيما تركيا- يمكن أن تقوم بعمل عسكري ضد كرد العراق، إذا ما حصل ذلك، علما بأن كردستان العراقية هي وحدها المؤهلة اليوم للحصول على مكاسب تتعلق بالحكم الذاتي والفدرالية، أو بحق تقرير المصير.
رابعا: ضعف الاقتصاد، ذلك أن دولة كردية في جزء من كردستان الكبرى ولتكن في العراق مثلا لن تكون قادرة على الحياة حتى لو لم تواجه موانع إقليمية أو دولية، فاقتصاد مثل هذه الدولة سيكون ضعيفا بسبب قلة الموارد الطبيعية والجو الإقليمي المعادي، الذي يمكن أن يقبل بنشوئها، لكنه لن يسمح لها على الأرجح بالتنفس؛ خوفا من انتشار عدواها إلى الكرد في الدول المجاورة، وحتى مع النفط الذي يمكن أن يكون موجودا في شمال العراق، بل حتى إذا ما سيطر الكرد على كركوك فإن دولة كردية مستقلة لا منفذ لها على البحر لن تتمكن من بيعه أو تصديره إذا ما رفضت دول الجوار التعاون معها للتواصل مع العالم، ناهيك طبعا عن توافر أساليب أخرى للحصار تجعل من هذه الدولة معتمدة بالكامل على المعونات الدولية في حال وجودها أصلا.
خامسا: المعوق الدولي الذي ما زال يصر على رفض أي إعادة لرسم خريطة المنطقة، والسماح بتأسيس دولة كردية تنسف الواقع الجغرافي لمرحلة ما بعد الحرب العالمية الأولى.. إن الأمر هنا يتعلق بالقانون الدولي بقدر ما يتعلق بالمصالح الدولية لا سيما مصالح الدول الكبرى، إذ إنه فضلا عن أن المنطقة حساسة أكثر مما يجب لإثارة اضطرابات شديدة تصاحب تأسيس دولة كردية، فإن إرادات مختلفة ينبغي أن تتفق قبل الشروع بذلك، حتى لو سلمنا بأن الإرادة الأمريكية ستكون حاسمة هنا.
حلم الاكراد علي ضوء المستجدات التي ترشح العراق للتقسيم الطائفي:
الملا مصطفى البارزاني
لكن يبدو أن هذا المعوق الدولي إلى جانب التغيرات الإقليمية تنبئ بوضع وتحرك جديدين في مسألة الدولة الكردية، خاصةً مع عرض لتقرير أثير في الكونجرس الأمريكي عام 2005، يقول التقرير الذي أعده مركز للدراسات في واشنطن: إن أمريكا يمكن أن "تشجع قيام دولة مستقلة للكرد في العراق تمهيدا لقيام كردستان الكبرى"، ويمضي التقرير في سرد "التحولات الإستراتيجية التي ستتحقق في المنطقة في حال تشجيع واشنطن قيام دولة كردستان في العراق، ومنها ضمان وجود دولة صديقة وحليفة للولايات المتحدة والغرب وإسرائيل، وتطوير واستثمار مشاعر الملايين من الكرد، المتعاطفة مع الولايات المتحدة في منطقة إستراتيجية، لا سيما أن الولايات المتحدة تواجه خزينا من الكراهية المتنامية عند الشعوب العربية".
ويمضي التقرير إلى أن تشكيل الدولة الكردية المقترحة التي ستتوسع مستقبلا لتضم مناطق الكرد في إيران وتركيا وسوريا- يهدف أيضا إلى "إيجاد حليف إستراتيجي لدولة إسرائيل يمكن أن يشكل لها عمقا سياسيا وعسكريا واقتصاديا وسوقا رائجا لبضائعها، فالكرد- حسب التقرير- لا يتحسسون من أي انفتاح مع إسرائيل، بفعل تاريخ قديم من العلاقات ومن الدعم السياسي والعسكري للكرد منذ عهد الزعيم الكردي الملا مصطفى البارزاني، إلى جانب تشكيل قوة إستراتيجية عسكرية واقتصادية لها القدرة على إيجاد توازن إقليمي حقيقي مع إيران والدول العربية، وأيضا مع العراق أو ما يتبقى منه في حال أفرزت الديمقراطية فيه تيارا سياسيا متطرفا".
ويسهب التقرير في سرد الضرورات الإستراتيجية لقيام دولة مستقلة للكرد في العراق، ويورد خاصة دورها في ما يسمى بمكافحة الإرهاب، لا سيما بعد أن تتوسع لتصبح كردستان الكبرى ذات الـ40 مليون نسمة وعلى رقعة كبيرة من الأرض قد تصل إلى نصف مليون كيلو متر مربع.
والواضح أن المفاوضات الأمريكية الكردية الآن تسير في هذا الاتجاه، وهو ما سيتضح خلال الأيام القادمة، خاصةً مع تعقد الوضع كل يوم بشكل أكبر داخل العراق.