البابا يوحنا بولس الأول.. بطريرك لمدة شهر!
الخميس 17/أكتوبر/2024 - 10:17 ص
طباعة
روبير الفارس
يوحنا بولس الأول (1912- 1978) هو بابا الكنيسة الكاثوليكية الثالث والستون بعد المائتين بين 26 أغسطس 1978 و28 سبتمبر 1978 في واحدة من أقصر الحبريات التي عرفتها البابوية الكاثوليكية. – جلس 33 يومًا فقط على كرسي الفاتيكان- عرف عن هذا البابا كونه حبرًا إصلاحيًّا، وعزم على تطبيق مقررات المجمع الفاتيكاني الثاني بقوّة، لكن وفاته المبكرة حالت دون تحقيق ذلك، وقيل: إن الماسونيون في إيطاليا قد قتلوه، في حين أن تحقيقات الفاتيكان الرسمية تنكر ذلك، وقال عنه خلفه الشهير والذي اختار نفس اسمه البابا يوحنا بولس الثاني "لم تكن بابويته خفيفة، بل كانت مفعمة بالدفء والمحبة، والمشاعر الفياضة. في خطابه الأخير أكد في توجيهاته الحكيمة للمؤمنين الحاضرين جماهيريًا، على الإيمان والأمل والحب."
انخرط البابا في السلك الكهنوتي باكرًا، وشارك في المجمع الفاتيكاني الثاني، وشغل قبل انتخابه، عددًا من المناصب المهمة في الكنيسة الكاثوليكية كان أعلاها "بطريرك البندقية".. يعتبر البابا أول بابا ولد في القرن العشرين وكذلك آخر بابا توفي فيه، كما يعتبر حتى الآن آخر بابا إيطالي، إذ إن الباباوات الذين خلفوه يوحنا بولس الثاني هو بولندي وبندكت السادس عشر ألماني وفرنسيس الأول أرجنتيني؛ عُرف هذا البابا بين الإيطاليين باسم البابا الباسم أو بسمة الله، وأطلقت عليه عدد من الوسائل الإعلام العالمية منها مجلة التايم اسم بابا سبتمبر.
يعتبر البابا يوحنا بولس الأول، ثالث البابوات الذين شغلوا سابقًا مركز "بطريرك البندقية" في القرن العشرين بعد بيوس العاشر ويوحنا الثالث والعشرين؛ مع بداية حبريته قام يوحنا بولس الأول باستبدال اللقب الرسمي الخاص به من "الحبر الأعظم" إلى "الراعي الأعلى"، وبهذا الاسم وجهت الدعوات الرسمية لحضور حفل التنصيب أما اسمه البابوي فهو أول اسم مركب في تاريخ البابوية، وهو جمع لاسمي سلفيه يوحنا الثالث والعشرون وبولس السادس، كذلك فهو أول من أضاف لقب "الأول" إلى اسمه، في تاريخ السجلات البابوية.
ميلاده ونشأته
ولد باسم ألبينو لوتشياني في قرية فورنو دي كانالي شمالي البندقية، يوم 17 أكتوبر 1912، ومنذ طفولته كان يعاني العديد من الأمراض.. عرف عن والدته الإيمان وحضور الصلاة في الكنيسة باستمرار؛ أما والده فكان معتنقا للأفكار الاشتراكية بصورة كبيرة وتاثر الطفل بوالداته وخاصة في المواظبة على حضور الكنيسة؛ وهو ما دفع بعض المؤرخين وكاتبي سيرته القول بأنه كان من كارهي الحزب الاشتراكي الذي كان والده منغمسًا فيه ويسافر كثيرًا بسببه، ولعدم استقرار الأب في مهنة، كانت العائلة تعيش حياة أقرب للفقر.
دراساته وحياته الكنسية
عندما كان ألبينو في الحادية عشر من عمره، أراد دخول الدير بتشجيع من والدته وكاهن القرية الآب فيليبو كارلي، وتقبل والده الأمر دون اعتراض باعتبار ان ذلك سوف يريحه من اعبائه المادية تجاهه فانخرط في المدرسة الإكليركية لدراسة اللاهوت عام 1923 وله من العمر أحد عشر عامًا فقط في قرية فلتر القريبة من قريته، ومنها انتقل إلى إكليركية الابرشية في مدينة بولونو، وكان يود الانخراط في الرهبنة اليسوعية لكن رغبته لم تحقق لظروف غير معلومة.
ورسم كاهنًا في 7 يوليو 1935 وله من العمر 23 سنة، وفي عام 1937 عيّن معاونًا لمدير المدرسة الإكليركية في بلونو، أرفقها بدراسة الدكتوراه في اللاهوت، وانتقل إلى الجامعة الغريغورية في روما لهذه الغاية، بموافقة شخصية من البابا بيوس الثاني عشر وأشرف على أطروحته عدد من كبار لاهوتيي ذلك العصر ومنهم فيليس كابيلو. وقد بدأ دراسته في 27 مارس 1941، وتقطعت دراسته بسبب اجواء الحرب العالمية الثانية وانهي دراسته في 23 نوفمبر 1946وفي العام التالي أي في عام 1947 عينه مطران بلونو، معاونًا عامًا في الأبرشية، وفي عام 1958 توفيت والدته ووالده، وتزوج شقيقه وشقيقته، وفي العام نفسه عينه البابا يوحنا الثالث والعشرون أسقفًا على البندقية وله من العمر 46 سنة في الفاتيكان. ثم رفع في 15 ديسمبر 1969 إلى مرتبة بطريرك البندقية وكاردينال في الكنيسة الكاثوليكية، خلال عهد البابا بولس السادس.
اختياره لكرسي الفاتيكان
بعد وفاة بولس السادس، تكاثر عدد المرشحين لخلافته، ولم يكن من المتوقع انتخاب خلف له بشكل سريع، بل كان من المتوقع أن يطول المجمع الانتخابي، إلا أنه وكما نقلت التسريبات الصحفية اللاحقة، فإن البابا حصل على 68 صوتًا، ومع تكرار عمليات التصويت والمشاورات بين الكرادلة، اتفقوا على انتخابه، فانتخب بأغلبية 99 صوتًا مقابل الكاردينال سيري الحاصل على 68 صوتًا في حين حصل الكاردينال لورشيدو على صوت واحد، علمًا أنه لانتخاب البابا يجب الحصول على ثلثي المجمع الانتخابي للكردالة.
كان القداس الإلهي الذي يتخلله حفل تتويج البابا يعود للقرن الحادي عشر ويتخلله الكثير من مظاهر الترف والبذخ يتقدمها التيرا وهو التاج البابوي ذو الثلاث طبقات للإشارة إلى السلطات الثلاث الأرضية والسماوية والزمنية، وكان يصنع من المعادن الثمينة. قام البابا بولس السادس بإلغاء تيرا وباع تاجه وهو هدية من أبرشية ميلانو ووزع ثمنه على ايتام المدينة، وعند انتخاب البابا يوحنا بولس الأول، كانت تلك المرة الأولى منذ تسعة قرون يلغى فيها "حفل التتويج" ويستبدل "بحفل التنصيب"، ويقلّد البابا فيها تاجًا أسقفيًا عاديًا إلى جانب الباليوم، وهو وشاح صوفي أبيض يرتديه كبار البطاركة والأساقفة إلى جانب البابا رمزًا للسلطة والشراكة. وعمومًا فإن كثيرًا من مظاهر الفخامة التي كانت تراق مواكب البابا كحمله على عرش خاص ونفخ الأبواق الفضية كانت قد ألغيت خلال حبرية بولس السادس ضمن سلسلة الإصلاحات التي أقرّت بعد المجمع الفاتيكاني الثاني. رغم ذلك فإن شعار البابا قد حوى على رمز التيرا، وهو آخر بابا يستخدمه في شعاره.
أعماله
عمل يوحنا بولس الأول إلى "أنسنة" مكتب البابا ودوائر الفاتيكان، كان أول بابا في العصور الحديثة تكلم بصيغة المفرد أن استخدم "أنا" بدلاً من صيغة "نحن"، وإن كان في كثير من الأحيان يتم إعادة كتابة المحاضر الرسمية لخطبه بأسلوب أكثر رسمية من قبل مساعديه المحافظين، بما فيها صحيفة المراقب الروماني الصادرة عن الفاتيكان. في إحدى تصريحاته قال البابا: "إن الله هو والدنا، بل أكثر من ذلك إنه والدتنا"، في إشارة مقتسبة من سفر أشعياء بالعهد القديم، والتي تتحدث عن حمل الله للإنسان وكان من أعماله أن دعا المؤمنين للصلاة في 10 سبتمبر من أجل نجاح مفاوضات كامب ديفيد للسلام في الشرق الأوسط.
لم ينشر البابا يوحنا بولس الأول أي دستور رعوي أو رسالة عامة، لكن من المعروف أن كان يعد رسالة عامة من أجل تأكيد خطوط المجمع الفاتيكاني الثاني، وهو الذي وصفه "بالحدث التاريخي والاستثنائي في مسيرة نمو الكنيسة"، وأراد تشديد الانضباط في حياة الكهنة وسائر المسيحيين. كان البابا محسوبًا على الجناح الإصلاحي التقدمي في الكنيسة الكاثوليكية لا الجناح المحافظ التقليدي، وكان صاحب مبادرات مثل تخصيص 1% من دخل الكنائس حول العالم لتوزع على الفقراء في العالم الثالث. استقبل البابا خورخي فيديلا وهو رئيس المجلس العسكري الأرجنتيني؛ ما أثار جدلاً كبيرًا في الفاتيكان، خصوصًا عندما ذكّر البابا الرئيس الأرجنتيني علنًا بانتهاكات حقوق الإنسان التي جرت في الأرجنتين خلال ما سمي "الحرب القذرة".
على صعيد اللاهوت الأخلاقي، فإن البابا كان يناقش علنًا الصيغة الإنسانية الذاتية، ويرى عدد من الصحفيين والباحثين أن "البابا كان متمسكًا بتعاليم الكنيسة التقليدية بشكل حاد، وخصوصًا مع أولئك الذين من خلال حرية التصرف لا يلتفتون للحظر الذي تفرضه الكنيسة على وسائل منع الحمل"، وهو ما كرسه لاحقًا يوحنا بولس الثاني. كذلك فإن البابا وعلى غرار سلفه بولس السادس رفض المس بقضية تبتل الكهنة، وكان يرى أن مشكلة الكهنوت ليست في التبتل بل في الإيمان، وانتقد أيضًا تجربة طفل الأنابيب دون أن يحظرها على الكاثوليك، ودعا المسيحيين لإعطاء مثل صالح، وهو ما من شأنه حسب البابا تخفيف الإلحاد حيث اعتبر ان من أسباب انتشار الإلحاد، هو التناقض الناشب أحيانًا بين أقوال المسيحيين وأعمالهم. رسائله
اعتبر البابا محاورًا وكاتبًا مرموقًا، يدل على ذلك بعض الوثائق والرسائل الرعائية التي نشرها حين كان كاردينالاً، بعضها ذو طابع شخصي وخاصة مثل رسائل موجهة إلى يسوع وداود وبينوكيو وماريا تيريزاكان عموم الشعب يشير إلى أن يوحنا بولس الأول يتمتع "بدف الشخصية"، إلا أن هناك نظرة ناقدة للبابا، حول عدم "ارتقاءه إلى مسئوليات البابوية"، خصوصًا لدى مقارنة خطبه البسيطة بخطب أسلافه بيوس الثاني عشر وبولس السادس. بعض التقارير أفادت أنه كان أول من بابا في القرن العشرين لم يقم في حياته السابقة بأي دور دبلوماسي خارجي مثل بيوس الحادي عشر ويوحنا الثالث والعشرين.
رغم ذلك، يعتبر البابا من أنصار الإصلاح الطقسي والإداري، وصرّح بأنه "لا يمكن القيام بإصلاح من دون المجازفة"، وأن "الأمانة لا الرتابة هي ما يريده الله في الكهنوت" وعلى الصعيد السياسي والاقتصادي انتقد البابا الماركسية والستالينية واعتبرها "خسارة للإيمان والإنسان"، وشجب الرأسمالية الغير مقيدة وما "تلد من الآلام والمظالم والحروب"، لكنه كأسلافه كان نصيرًا للملكية الخاصة في التعليم الاجتماعي. كما صرّح عام 1976 أي قبل انتخابه بابا، أنه بالإمكان أن يكون المسيحي ديمقراطي أو شيوعي "فالالتزامات المختلفة مقبولة، شريطة أن يبقى الإيمان دون تغيّر ولا فساد". رغم ذلك، فإن لشخصيته تأثيرًا في العموم، وله صورة دافئة، كما أنه رجل لطيف نوعًا ما، ووصف من قبل الصحافة بأنه "شخصية محبوبة جدًا حتى دون أن يتحدث كلمة واحدة"، يعزز ذلك كونه خطيبًا ماهرًا، إلى جانب أنه لا يمانع من الضحك، وفي وسائل الإعلام الكثير من التسجيلات الصوتية الودية.
وفاته
وجد البابا جالسًا في سريره وميتًا قبل وقت قصير من فجر يوم 29 سبتمبر 1978، أي بعد 33 يومًا فقط من ولايته البابوية، أفاد الفاتيكان أن البابا البالغ من العمر 65 عامًا قد توفي في الليلة السابقة إثر نوبة قلبية؛ لم يجر تشريح للجثة كما هو معتاد، إلى جانب تضارب التصريحات والتقارير حول أسباب الوفاة، وهو ما أدى إلى تعدد نظريات المؤامرة بشأن ذلك. بعض التقارير أفادت أن البابا قد عثر عليه ميتًا وفي يده بعض أوراق كان يكتبها، وبينما لم يؤكد الفاتيكان الخبر، تضاربت الأنباء حول محتوى كلمات البابا الأخيرة.