بالوثائق.. الصفقات الحرام بين بريطانيا والإسلاميين (الحلقة الأولى)
الثلاثاء 29/سبتمبر/2015 - 01:20 م
طباعة
اسم الكتاب: التاريخ السري لتآمر بريطانيا مع الأصوليين
التأليف: مارك كورتيس
الترجمة: كمال السيد
الناشر: المجلس القومي للترجمة – مصر 2015
يستند هذا الكتاب للوثائق الرسمية البريطانية التي رفعت عنها السرية، خاصة وثائق للخارجية والمخابرات، ليفضح تآمر الحكومة البريطانية مع المتطرفين والإرهابين، دولًا وجماعات وأفراداً، في أفغانستان وإيران والعراق وليبيا والبلقان وسوريا وإندونيسيا ومصر وبلدان رابطة الدول المستقلة حديثاً، بل حتى في نيجيريا التي تآمرت بريطانيا على خلافة سوكوتو فيها في أوائل القرن العشرين مع متأسلمين هناك؛ وذلك لتحقيق مصالحها الاستراتيجية والسياسية والاقتصادية.
ويوضح المؤلف وهو صحفي وكاتب ومستشار، عمل زميلاً باحثاً في المعهد الملكي للشئون الدولية، ومديراً لحركة التنمية الدولية ورئيساً لقسم السياسة في مؤسسة المعونة بالعمل والمعونة المسيحية، يوضح كم كانت بريطانيا ماهرة وماكرة في التلاعب بكل الأطراف، وأن أكثر من استغلتهم ثم نبذتهم عندما لم يعد لهم جدوى وانتفى الغرض، هم المتأسلمون، بدءاً من الإخوان المسلمين للسعودية لبن لادن والشيع الأفغانية للفرق الإندونيسية . وبالوقائع والتفاصيل الموثقة يعرض الكتاب أن المصلحة الخاصة كانت من الأساس في سياسة بريطانيا الخارجية، وأن المبادئ والقيم ليس لها مكان فيها، وأنها استندت في ذلك إلى سياسة "فَرِّق تَسُد"، وتقلبت في التعامل مع كل الأطراف المتضاربة، فبعد أن مولت طالبان وسلحتها انقلبت عليها، وساندت حيدر علييف الشيوعي السابق، عضو المكتب السياسي للحزب الشيوعي السوفيتي ومن رؤساء إلى جي بي والذي أباد خصومة بوحشية، ضد معارضيه المتأسلمين، وبعد أن تآمرت مع الولايات المتحدة لإعادة الشاه لعرشه في 1953 بتدبير انقلاب على القائد الوطني مصدق، رفضت طلبه للجوء إليها بعد إطاحة الخميني، وكان وزراؤها صادقين في اعترافهم بأن هذه هي سياسة بلادهم عندما قال أحدهم: إن هذا عمل لا يتسم بالشرف لكنها حسابات المصالح، وبعد عداء مرير لعدم الانحياز قالت مارجريت هيلدا تاتشر وهي سياسية بريطانية، وهي المرأة الوحيدة التي شغلت منصب رئيسة وزراء في تاريخ بريطانيا العظمى: إن أفغانستان بلد من بلدان حركة عدم الانحياز العظيمة! وبعد إدانتها للمتمردين عادت لتقول: إن كلمة المتمردين خاطئة، وإنهم مقاتلون في سبيل التحرير، وبعد رفض الإسلام، رجعت لتقول إنه بديل جيد للماركسية، وإن الحكم الديني الإسلامي مَصد للسوفيت.
ويعرض الكتاب دور بريطانيا القيادي والباقي في التآمر مع المتأسلمين، ثم تحولها إلى "جزمة"– كما يقول– في رجل الأمريكيين، تقوم بالأعمال القذرة التي يأنف الآخرون القيام بها .ويضرب الكتاب أمثلة للرياء البريطاني، أشهرها "إسراف" السيدة تاتشر في التزلف للسعودية التي أصبحت بريطانيا معتمدة عليها اقتصادياً، وإفراطها في الحديث عن "عظمة الملك فهد وحكمته"، وبعد نظر الحكومة السعودية في مناسبات كثيرة، وكذلك حديثها عن "بعد نظر وروعة" ضياء الحق دكتاتور باكستان، والمحرك الأول بجانب السعودية، للإرهاب العالمي، كذلك حديثها عن بعد نظر الشاه وخبرته التي لا تبارى.
وعلى ذلك، ففي جنازته في القاهرة أرسلت أمريكا ريتشارد نيكسون للمشاركة، وأرسلت فرنسا سفيراً واكتفت بريطانيا بموظف في السفارة. ونورد فما يلي بضع نماذج مما حواه الكتاب عن طبيعة السياسة البريطانية التي شاركتها الولايات المتحدة كثيراً من آثامها:
- كانت بريطانيا هي المحرك والموجه للقوى المتأسلمة في تصديها للقومية والعلمانية، وفي هذا خططت لاغتيال قادتها في مصر وسوريا والعراق وإندونيسيا خاصة عبد الناصر وسوكارنو.
- إن جميع الحروب التي اتخذت طابعاً جهادياً لعبت بريطانيا الدور الرئيسي فيها في أفغانستان للبوسنة حتى الحرب بين أذربيجان وأرمينيا حول ناجورنو كاراباخ والحر في كشمير وفي بلدان رابطة الدول المستقلة.
- إنها شجعت الملا عمر قائد طالبان على أن يوافق في محادثاته مع الأمير تركي رئيس المخابرات السعودية على تسليم بن لادن، وهو نفس ما عرضه حسن الترابي المتأسلم، ودفعت السعودية لتخصيص الملاين من الدولارات لإبادة الجيش العراقي في 1991، وشجعت بن لادن على أن يعرض على السعوديين أن تدافع قواته بعد أفغانستان عن المملكة، ولكن هؤلاء فضلوا نشر نصف مليون جندي أمريكي (كافر) للدفاع عن أرض الحرمين، ووافقت على ضم مجاهدين حاربوا في أفغانستان إلى الحرس الوطني السعودي بعد عودتهم وتولت تدريبهم، ودفعت هي والأمريكيون الشيعة في جنوب العراق للثورة على صدام، ثم تخلتا عنهم، بل وقامتا بحماية قوات صدام التي سحقتهم وذبحت آلافاً منهم.
- إنها أعلنت أنها لن تربط سياسة التجارة والدفاع بقضايا حقوق الإنسان، وذلك في تعاملها مع السعودية وباكستان وغيرها من الدول التي تمتهن كرامة البشر، بل وأعلنت أن كل بلد حر فيما يفعله بمواطنيه.
- إنها قامت هي وأمريكا باختبار أسلحة جديدة فتاكة في أفغانستان لبيان مدى فاعليتها، ومن جانب آخر وردت أسلحة لم تثبت فاعليتها في حربها في فوكلاند لأتباعها المتأسلمين في حروبهم، وهربت لهم أسلحة سوفيتية حتى لا يعرف مصدرها . وأرسلت حمولة 100 طائرة من القذائف لمسعود في أفغانستان وتولت تهريب المجاهدين الأفغان بأسماء مزورة لبريطانيا لتدريبهم في معسكرات هناك.
- إنهم مع تزلفهم للسعوديين بل وتذللهم لهم، كانوا ينفسون عليهم أشياءهم، فيقول السفير ديلي موريس: "إنه مأساة أن تركز العناية الإلهية مع كل ما يحتاجه العالم، هذا القدر من الموارد والثروة في أيدي ناس لا يحتاجونه ويتسمون بقدر كبير من عدم المسئولية بشأن استخدامه، ويعتبرون باقي العالم موجوداً لخدمتهم ". ويقول سفير بريطاني آخر عن الملك سعود: إنه "يبدو أنه ليس لديه فكره عن أن الأموال ينبغي انفاقها على أغراض أخرى غير نزواته الشخصية، أو أن هناك حدوداً لما يمكن أن يأتي منها". كذلك يوضح الكاتب أن البريطانيين اقترحوا على وكالة المخابرات المركزية، استغلال انقسامات الأسرة لإسقاط سعود، وأنهم رغم مداهنتهم للسعوديين كانوا حريصين على إقامة علاقات بمن يمكن أن يكونوا بدلاء لبيت آل سعود، بمن فيهم المعارضون السعوديون في لندن، رغم أن أحد سفرائهم أعلن في تعليقه على الوضع في السعودية: "أن مصالحنا تتحقق على أفضل وجه بنظام استبدادي يحافظ على الارتباط بالغرب بأكثر مما تحقق بديمقراطية تندفع منحدرة نحو الشيوعية والفوضى".
- إن البريطانيين نظروا للعرب باستمرار نظرة دونية، فكما يقول الكتاب فان السير كونجريف "إن العرب، مسلمين ومسيحيين ويهود كلهم بهائم، ومصيرهم لا يعادل حياة إنجليزي واحد". كذلك عارض تشرشل إقامة دولة نيابية عربية في فلسطين، وقال: إن العرب أقل شأناً وقدرة من اليهود. ومع ذلك، فمثالاً لعدم مبدئية البريطانيين، فإنه مع ظهور بوادر الحرب العالمية في الأفق، ومع كل استغلال بريطانيا للإسلام، الذي أشادت به تاتشر حتى ظننا أنها ستعتنقه، فإنها لم تعتبره أبداً حليفاً استراتيجياً واعتبره تشرشل "القوة الأكثر رجعية في العالم"، ورغم تعاونها مع القوى المتأسلمة، فقد اعتبرتها دوماً معادية لها، رغم أنها ضمت جحافل من المتأسلمين وقدمت لهم مساعدات مادية ولوجستية جمة، لدرجة أن لندن سميت لندنستان، بل وكانت بريطانيا إبان حكمها للهند التي تضم 20 مليون مسلم آنذاك، تقول إنها أكبر دولة إسلامية في العالم .
- إنها كانت باستمرار تنكث وعودها للعرب، فبعد أن أوهمت الشريف حسن أنها ستنصبه خليفة للعرب بعد هزيمة العثمانيين، أخذت صف ابن سعود لأن مطالبة اقتصرت على الجزيرة العربية، رغم أنه في حربه مع حسين قتلت 400 الف لأنها لم تكن تأخذ أسرى وهرب أكثر من مليون، وعند انتصاره شنق 40 ألف وبتر أعضاء 350 ألفاً. وبعد سب تشرشل لابن سعود قال: "إن إعجابي به لشديد لولائه لنا الذي لا يتزعزع"، بل وأرسل قوات بريطانية لضرب جزء من قوات ابن سعود المناوئين لبريطانيا الذين تمردوا عليه . وفي المقابل وفرت السعودية لبريطانيا موطئ قدم في قلب العالم الإسلامي، في أرض الحرمين.
تلك عينه صغيره مما أورده الكتاب من جرائم بريطانيا في العالم الإسلامي، ومع ذلك لم ينس الكتاب إنجازات الأمريكيين الذين بزوا البريطانيين في هذا الصدد . فقد اعترف هؤلاء بأن عبد الناصر أجبرهم على مساندة نظم ظلامية ورجعية وضارة بسمعة مؤيديها، وأنهم جعلوا القومية عدوهم الأول، ونال اليساريون الجزء الأول من اهتمامهم، فقد لعبوا الدور الأساسي في ذبح أعضاء حزب تدوه الإيراني في 1953، وفي إبادة الحزب الشيوعي الإندونيسي الذي كان يضم مليوني عضو على أيدي صديقهم سوهارتو ومن معه من المتأسلمين، كذلك فعلوا في العراق والأردن وفي أفغانستان التي كان عميلهم حكمتيار فيها يسلخ جلود أعدائه، خاصة اليساريين أحياء، فقد ساندوه بكل قوتهم، رغم أن الكونجرس قال إنه أكثر القادة الأفغان فساداً .
ويبرز الكتاب دور أميكا وتابعتها بريطانيا في تأييد الدكتاتور (ضياء وسوهارتو والشاه وغيرهم) والملك (آل سعود وحسين وقابوس) وآية الله (الملالي في انقلاب 1953 ثم الخميني قبل أن تنقلب عليه، وكذلك ملالي طالبان قبل أن توليهم ظهرها لرفضهم توقيع عقد نفط مع شركة أمريكية ). وقد أجبر الأمريكيون السعوديين على تمويل سلسلة من حروبهم ليس فقط في أفغانستان، بل في أنجولا وزائير وتشاد والفلبين وبلدان رابطة الدول المستقلة، بل ودفع السعوديون مليوني دولار لوكالة المخابرات المركزية للحيلولة دون نجاح الحزب الشيوعي الإيطالي . كذلك مول السعوديون مؤامرة في لبنان دبرتها أمريكا وشاركت فيها بريطانيا لاغتيال محمد حسن فضل زعيم حزب الله وقتل فيها 80 شخصاً وجرح 400، ومع ذلك نجا فضل الله، واضطرت السعودية لدفع مليوني دولار ليكف عن مهاجمة أمريكا. وقد أورد الكتاب أن السعودية وأمريكا دفع كل منهما 3 مليارات دولار للحرب على أفغانستان، وأن حكمتيار وحده حصل منها على 600 مليون دولار وحصلت القاعدة على 300 مليون دولار، وقد جندت مخابرات أمريكا كثيرين من قادة المتأسلمين، منهم سعيد رمضان مؤسس التنظيم الدولي للإخوان الذين يقال إنهم مولوه بمبلغ 10 ملايين دولار، وأجبروا الأردن على منحه جواز سفر. وورد أن أمريكا بدأت من أوائل الخمسينيات تمول الإخوان في مصر وتساعدهم في سوريا لتدبير مؤامرتين، وتعاونت معهم هي وشركة أرامكو لتكون خلايا منهم في السعودية لمحاربة القومية العربية .كذلك تآمرت أمريكا مع المتأسلمين الذين كانوا يتحدون النظام السوفيتي في آسيا الوسطى من بين رجال القبائل. وكان دور أمريكا بارزاً في تمويل ملالي إيران وتسليحهم في انقلاب 1953، وحتى بعد الثورة على الشاه أغدقت أمريكا بعدها على الملالي قبل أن تنقلب عليهم، بحيث راجت نكته في طهران كما يقول أشرف بهلوي بأنك إذا رفعت ذقن أحد الملالي فسترى عبارة "صنع في أمريكا".
تلك قلة من أمثلة يذخر بها الكتاب عن استغلال الثالوث الغير المقدس، أمريكا وبريطانيا والسعودية، للمتأسلمين وتحالفهم معهم في تنفيذ استراتيجياتهم، ولكن السحر انقلب على الساحر في كثير من الأحيان، وانقلب المتأسلمون على صناعهم؛ مما أثار حرباً شعواء بين الطرفين، وجعل السعودية تعود إلى "الأسلمة المنضبطة" وتضيق على المتأسلمين فتقطع المعونة عن الإخوان وتعدم بعض المتطرفين، وتسحب جواز سفر بن لادن وتستهدفه. وقد جعل هذا بريطانيا وأمريكا أكثر حرصاً في تعاملهم مع المتأسلمين، وإن ظلت لهم اليد الطولى واستمروا في استغلالهم رغم صخب هؤلاء في إعلان العداء لهما. ولأهمية الكتاب وفضحه لتاريخ الإسلامي السياسي وكيف أنه لعبة في يد القوى الغربية سوف نعرض له على حلقات.
السعودية وباكستان صناعة بريطانية
يؤكد الكتاب أن الحكومات البريطانية، من العمال والمحافظين على حد سواء في سعيها لتحقيق ما يسمى "المصلحة الوطنية" في الخارج، تواطأت عقوداً طويلة مع القوى الإسلامية المتطرفة، بما في ذلك التنظيمات الإرهابية، فقد تسترت عليها، وعملت إلى جانبها وأحياناً دربتها ومولتها، بغية الترويج لأهداف محدده للسياسة الخارجية وغالباً ما فعلت الحكومات ذلك في محاولات يائسة للحفاظ على قوة بريطانيا العالمية التي عانت من أوجه ضعف متزايدة في مناطق أساسية من العالم؛ نظراً لعجزها عن أن تفرض إرادتها من جانب واحد وافتقارها لحلفاء آخرين. ومن ثم فالقصة ترتبط في الصميم بقصة انهيار الامبراطورية البريطانية ومحاولة الإبقاء على نفوذها في العالم.
وقد أقامت بريطانيا مع بعض القوى الإسلامية، المتطرفة تحالفاً استراتيجياً دائماً لضمان تحقيق أهداف السياسة الخارجية الأساسية طويلة الأجل، ودخلت في زواج مصلحة واتحاد وثيق العرى بصورة مؤقتة مع قوى أخرى منها لتحقيق نتائج محددة قصيرة الأجل. وقد أشار بعض المحللين إلى أن الولايات المتحدة تعهدت أسامة بن لادن والقاعدة، ولكن هذه التقارير خلت من الحديث عن دور بريطانيا في تشجيع الإرهاب الإسلامي على الدوام، ولم تجر رواية القصة كاملة مطلقاً، ومع ذلك، فقد كان تأثير هذا التواطؤ على صعود التهديد الإرهابي أشد من تأثير الثقافة الليبرالية البريطانية أو الإلهام بالجهاد الذي أثاره احتلال العراق.
وكان أقرب مدى وصلت إليه وسائل الإعلام السيارة لهذه القصة في الفترة التي تلت 7 يوليو مباشرة، عندما كشفت التقارير المتفرقة، الصلة بين أجهزة الأمن البريطانية والمتشددين المتأسلمين الذين كانوا يعيشون في لندن. فقد توارد أن بعضاً من هؤلاء الأشخاص كانوا يعملون عملاء أو مخبرين لبريطانيا إبان انخراطهم في أعمال الإرهاب في الخارج . ومن الجلي أن البعض منهم كانت تحمية أجهزة الأمن البريطانية عندما كان مطلوباً من قبل حكومات أجنبية. ذلك جزء مهم لكنه صغير فحسب من صورة أكبر كثيراً تتعلق أساساً بسياسة بريطانيا الخارجية.
لقد تواطأت هوايتهول مع مجموعتين من القوى الفاعلة المتأسلمة كانت لهما ارتباطات قوية ببعضهما البعض. تضم المجموعة الأولى دولاً أساسية راعية للإرهاب المتأسلم، وأهم دولتين هما حليفتا بريطانيا الرئيسيتان اللتان ترتبط معهما لندن بشراكة استراتيجية قديمة العهد – باكستان والسعودية . فقد تستر مخططو السياسة الخارجية بصورة دائمة على سياسة السعوديين والباكستانيين الخارجية، واعتبروا أن هاتين الدولتين حليفتين رئيسيتان حالياً فيما كان يوصف حتى وقت قريب بأنه الحرب على الإرهاب. ومع ذلك، فإن مدى رعاية الرياض وإسلام آباد للإسلام المتطرف في شتى أنحاء العالم يخسف تعهد البلدان الأخرى له، خاصة الأعداء الرسميين مثل إيران وسوريا، وكما سنرى، فقد كانت السعودية، خاصة بعد ازدهار اسعار النفط في 1973 التي دفع بها إلى وضع الدولة عالمية التأثير، مصدر مليارات الدولارات التي تدفقت لدعم قضية الإسلام المترف، بما في ذلك المجموعات الإرهابية العاملة في شتى انحاء العالم . ويمكن المحاجة بمثال جيد هو أن القاعدة هي جزئياً من خلق السعودية خليفاً لبريطانيا؛ نظراً للروابط المباشرة التي قامت بين المخابرات السعودية وبن لادن منذ السنوات الأولى للجهاد ضد السوفيت في أفغانستان في ثمانينيات القرن الماضي.
وفى الوقت نفسه، كانت باكستان راعياً رئيسياً لمجموعات إرهابية شتى منذ استيلاء الجنرال ضياء الحق على السلطة في انقلاب عسكري وقع في 1977، فقد أخرج العمل العسكري بعض الجماعات إلى حيز الوجود وبعد ذلك جرى تعهدها بالسلاح والتدريب. إن مفجري قنابل 7 يوليو وغيرهم ممن أصبحوا إرهابيين بريطانيين هم جزئياً نتاج لعقود متتالية من الرعاية الباكستانية الرسمية لهذه الجماعات. وحالياً، فإن الشبكات التي تتخذ من باكستان مقراً لها هي التي تمثل أكبر خطر على بريطانيا، وتحتل موقع المركز بالنسبة للإرهاب العالمي، وربما أضحت حتى أكثر أهمية من القاعدة، رغم تركيز الإعلام الغربي على بن لادن.
إن كلاً من باكستان والسعودية صنيعتان بريطانيتان، فقد تشكلت السعودية بصورة دموية في عشرينيات القرن الماضي بدعم عسكري ودبلوماسي بريطاني، في حين اقتطعت باكستان من الهند في 1947 بمساعدة المخططين البريطانيين. ويتقاسم هذان البلدان- وإن اختلفا تماماً بطرق كثيرة- افتقاراً أساسياً للمشروعية غير كونهما "دولتين إسلاميتين". وقد كان الثمن الذي تكبده العالم لرعايته للصيغ المتطرفة على نحو خاص من الإسلام – والدعم البريطاني لهما- باهظاً جداً حقاً . وفي ضوء تحالفهما مع بريطانيا، لا غرو في أن الزعماء البريطانيين لم يدعوا إلى قصف إسلام أباد والرياض بالقنابل أسوة بكابول وبغداد؛ حيث إن من الواضح أن الحرب على الإرهاب لا تتم بهذا القصد، وإنما هي نزاع مع أعداء حددتهم واشنطن ولندن بصفة خاصة. وقد ترك هذا قدراً كبيراً من البنية الأساسية العالمية للإرهاب سليماً لم يمس؛ مما يثير مزيداً من الأخطار بالنسبة للعامة في بريطانيا والعالم.
والمجموعة الثانية من القوى الفاعلة المتأسلمة التي تواطأت معها بريطانيا هي الحركات والمنظمات المتطرفة. ومن بين أكثر هذه الحركات نفوذًا التي تظهر طوال هذا الكتاب، الإخوان المسلمون، التي تأسست في مصر في 1928 وتطورت لشبكة لها تأثيرها على النطاق العالمي، والجماعة الإسلامية التي تأسست في الهند البريطانية في 1941، وأصبحت قوة سياسية وأيديولوجية كبرى في باكستان. كما عملت بريطانيا سراً إلى جانب حركة دار السلام في إندونيسيا، والتي وفرت مرتكزات أيديولوجية مهمة لتطور الإرهاب في هذا البلد. ورغم أن بريطانياً تعاونت أساساً مع الحركات السنية في الترويج لسياستها الخارجية، فإنها لم تنفر في بعض أوقات من التستر على القوى الشيعية، مثل المتطرفين الشيعة الإيرانيين في خمسينيات القرن الماضي وقبل الثورة الإسلامية في 1979 وبعدها.
بيد أن بريطانيا شاركت أيضًا في عمليات وحروب سرية إلى جانب تشكيلة من المجموعات الجهادية الصراح، وارتبطت في بعض الأحيان بالحركات التي ذكرناها تواً. وقد روجت هذه الجماعات لأشد جداول الأعمال الدينية والسياسية رجعية، وارتكبت على نحو روتيني فظائع مروعة ضد المدنيين. وقد بدأ التواطؤ من هذا النوع في أفغانستان في ثمانينيات القرن الماضي، عندما ساندت بريطانيا سراً إلى جانب الولايات المتحدة والسعودية وباكستان، المقاومة من أجل هزيمة الاحتلال السوفيتي لهذا البلد. وجرى تقديم دعم عسكري ومالي ودبلوماسي للقوى الإسلامية التي سرعان ما نظمت نفسها وهي تجبر السوفيت على الانسحاب، في شبكات إرهابية جاهزة لضرب أهداف غربية. وبعد الجهاد في أفغانستان، أجرت بريطانيا تعاملات سرية من نوع أو آخر مع متشددين في منظمات إرهابية شتى، بما في ذلك حركة الأنصار الباكستانية، والجماعة الإسلامية المقاتلة الليبية، وجيش تحرير كوسوفو، وكانت لها جميعاً روابط قوية مع قاعدة بن لادن، وجرى الاضطلاع بعمليات سرية مع هذه القوى وغيرها في آسيا الوسطى، وشمال إفريقيا وشرقي أوروبا .
ورغم أن العوامل التي أقدمها هي أن بريطانيا قد أسهمت بصورة تاريخية في تطور الإرهاب العالمي، إلا أن التهديد الحالي الذي يواجه بريطانيا ليس ببساطة "ارتداداً على الأعقاب"، حيث إن تواطؤ هوايتهول مع الإسلام المتطرف مستمر، وإن كان في شكل مختلف. فالمخططون لا يواصلون علاقاتهم الخاصة مع الرياض وإسلام آباد فحسب، بل ويتآمرون أيضًا مع جماعات مثل الإخوان المسلمين في مصر، والشيعة الإسماعيلية في العراق، يتآمرون في الواقع مع عناصر من طالبان في أفغانستان في مسعى يائس للتصدى للتحديات الكثيرة الراهنة التي تواجه وضع بريطانيا في الشرق الأوسط .
وترجع جذور تعاون بريطانيا مع الإسلام المتطرف كما سنرى في الفصل الأول إلى سياسة "فرق تسد" التي اتبعت في عهد الامبراطورية، عندما كان المسئولون البريطانيون يسعون بانتظام إلى تعهد مجموعات إسلاميه أو أفراد مسلمين للتصدي للقوى الوطنية الناهضة التي كانت تتحدى الهيمنة البريطانية. فمن المعروف أن المخططين البريطانيين ساعدوا في خلق الشرق الأوسط الحديث إبان الحرب العالمية الأولى، وبعدها تنصيب حكام في أراض وبلدان حددها المخططون البريطانيون. لكن السياسة البريطانية انطوت أيضًا على السعي إلى إعادة الخلافة في قيادة العالم الإسلامي، إلى السعودية، الخاضعة للسيطرة البريطانية، وهي استراتيجية كان لها أهمية هائلة بالنسبة لمستقبل المملكة السعودية وباقي العالم.
وبعد الحرب العالمية الثانية، واجه المخططون البريطانيون خسارة وشيكة للإمبراطورية وصعود قوتين عظميين جديدتين، لكنهم كانوا قد عقدوا العزم على الحفاظ على أقصى ما يمكن من النفوذ السياسي والتجاري في العالم . ورغم أن جنوب شرق آسيا وإفريقيا كانا مهمين بالنسبة للمخططين البريطانيين، أساساً بسبب مواردهما من المواد الخام، فقد كان الشرق الأوسط هو الذي تريد لندن ممارسة نفوذها عليه، بسبب احتياطياته الهائلة من النفط. ومع ذلك فقد ظهر فيه عدو رئيسي اتخذ شكل القومية العربية الرائجة بقيادة جمال عبد الناصر في مصر، التي سعت للنهوض بسياسة خارجية مستقلة وإنهاء اعتماد دول الشرق الأوسط على الغرب. ولاحتواء هذا التهديد، لم تساند بريطانيا والولايات المتحدة ملكيات وقيادات اقطاعية محافظة موالية للغرب فحسب، وإنما أقامتا علاقات سرية مع قوى متأسلمة، خاصة الإخوان المسلمين، لزعزعة استقرار الحكومات ذات النزعة القومية والإطاحة بها.
ومع سحب بريطانيا لقواتها العسكرية من الشرق الأوسط في أواخر الستينيات، اعتبرت قوى متأسلمة مثل النظام السعودي، ومرة أخرى الإخوان المسلمون، قائمة مقامها في الحفاظ على مصالح بريطانيا في المنطقة، لمواصلة زعزعة النظم الشيوعية والقومية، أو "كقوة عضلية تدعم حكومات الجناح اليميني الموالية للبريطانيين . وبحلول سبعينيات القرن الماضي، كانت القومية العربية قذ هزمت فعلياً باعتبارها قوة سياسية، جزئياً بفضل المعارضة الأنجلوأمريكية لها، وحلت محلها لحد كبير قوة الإسلام المتطرف الصاعدة، والتي اعتبرتها لندن ثانية سلاحاً تحت الطلب لدحر بقايا القومية العلمانية والشيوعية في دول رئيسية مثل مصر والأردن .
وبعد أن أفرغت حرب أفغانستان في الثمانينيات من القرن الماضي تشكيلة من القوى الإرهابية، بما في ذلك القاعدة، بدأ ارتكاب الأعمال الوحشية الإرهابية أولاً في البلاد الإسلامية، م في أوروبا والولايات المتحدة في التسعينيات. ومع ذلك، فالأمر الحاسم في هذه القصة هو أن بريطانيا استمرت في اعتبارها أن بعض هذه الجماعات مفيدة، أساساً بوصفها قوات لحرب العصابات تقوم مقامها في أماكن جد مختلفة على غرار البوسنة وأذربيجان وكوسوفو وليبيا، وهناك استخدمت إما للمساعدة في تحطيم الاتحاد السوفيتي وتأمين المصالح الكبرى في النفط أو لمحاربة النظم القومية، والتي تمثلت هذه المرة في نظام سلوبودان ميلوسفتش في يوغوسلافيا ومعمر القذافي في ليبيا.
وطوال هذه الفترة، وجدت جماعات جهادية ومجاهدون أفراد ملاذًا آمناً في بريطانيا، وحصل البعض منهم على حق اللجوء السياسي، مع مواصلة الانخراط في أعمال الإرهاب في الخارج. ولم تتسامح هوايتهول فحسب مع تطور "لندنستان "- العاصمة التي تعمل قاعدة ومركز تنظيم لجماعات جهادية كثيرة، بل وشجعت ذلك – حتى وإن وفر هذا "ضوءاً أخضر" بحكم الأمر الواقع لذلك الإرهاب. وأظن أن بعض العناصر، على الأقل في المؤسسة البريطانية، سمحت للجماعات المتأسلمة بأن تعمل انطلاقاً من لندن ليس فقط لأنها كانت تقدم معلومات لأجهزة الأمن، ولكن أيضًا لأنها كانت تعد مفيدة بالنسبة للسياسة الخارجية البريطانية، خاصة في الحفاظ على شرق أوسط منقسم سياسياً – وهو هدف قديم العهد للمخططين في عصر الامبراطورية وفيما بعد الحرب – وكرافعة للتأثير على سياسات الحكومات الخارجية.
وقد اعتبرت القوة الإسلامية المتطرفة مفيدة بالنسبة لهوايتهول بخمس طرق: بصفتها قوة عالمية مضادة تتصدى للأيديولوجيات القومية العلمانية والشيوعية السوفيتية، في حالتي الشعودية وباكستان، وبصفتها قوة عضلية محافظة داخل البلدان لدحر القوميين العلمانيين ومساندة النظم الموالية للغرب، وبصفتها قوة صدام تزعزع استقرار الحكومات وتطيح بها، وبوصفها قائم مقام قوة عسكرية لخوض الحروب، وبوصفها أدوات سياسية لدفع الحكومات للتغيير.
ورغم أن بريطانيا أقامت علاقات خاصة قديمة العهد مع السعودية وباكستان، فإنها لم تقم تحالفاً استراتيجياً مع الإسلام المتطرف في حد ذاته. ففيما وراء هاتين الدولتين، تمثلت سياسة بريطانيا في التعاون مع القوى المتأسلمة في اعتبارها مسألة تتعلق بفرص تحقق غرضاً معيناً، رغم أنه ينبغي القول: إن هذا كان على الأصح تعاوناً منتظماً . ومرة تلو الأخرى، تكشف وثائق التخطيط التي ترفع عنها السرية أن المسئولين البريطانيين كانوا يدركون تماماً أن المتعاونين معهم معادون للغرب وللإمبريالية ولا يتحلون بالقيم الاجتماعية الليبرالية أو أنهم إرهابيون فعلاً. لم تتعاون هوايتهول مع هذه القوى لأنها تتفق معها، لكن لمجرد أنها كانت مفيدة في لحظات معينة. ويبدو أن الجماعات المتأسلمة قد تعاونت مع بريطانيا للأسباب نفسها المتعلقة بتحقيق المصلحة الخارجية، ولأنها كانت تقاسمها نفس الكراهية للقومية الرائجة . وقد عارضت هذه القوة المتأسلمة، الإمبريالية البريطانية في الشرق الأوسط مثلما تعارض الاحتلال الراهن للعراق وأفغانستان، لكنها لم تعارض بأية حال السوق الحرة أو السياسات الاقتصادية الليبرالية الجديدة التي تتبعها الحكومات الموالية للغرب التي تساندها بريطانيا في المنطقة.
والامر الحاسم، هو أن التواطؤ البريطاني مع الإسلام المتطرف ساعد أيضاً في الترويج لهدفين استراتيجيين جغرافيين كبيرين للسياسة الخارجية. الأول هو ضمان النفوذ والسيطرة على موارد رئيسية للطاقة، والتي تعتبر دائماً في وثائق التخطيط البريطانية لدعم القوى المتأسلمة والانحياز لها بصفة عامة على الابقاء على حكومات في السلطة أو تنصيب حكومات تتبع سياسات نفطية ودية تجاه الغرب.
وكان الهدف الثاني هو الحفاظ على مكانة بريطانيا في نظام مالي دولي موال للغرب. فقد استثمر السعوديون مليارات الدولارات في اقتصادي الولايات المتحدة وبريطاينا ونظمها المصرفية، وبالمثل فإن لبريطانيا والولايات المتحدة استثمارات وتجارة ضخمة مع السعودية، وهذا هو ما يحميه التحالف الاستراتيجي مع الرياض. ومنذ الفترة 73-1975، عندما أجرى المسئولون البريطانيون سراً طائفة متنوعة من الصفقات مع السعوديين لاستثمار إيراداتهم من النفط في بريطانيا، كما سنرى، كان هناك ميثاق انجلو أمريكي سعودي ضمني للحفاظ على هذا النظام؛ مما استلزم غض لندن وواشنطن الطرف عن أي شيء آخر ينفق السعوديون أموالهم عليه. وقد اصطحب هذا من الجانب السعودي، باستراتيجية لتمويل القضايا الإسلامية والجهادية و"بسياسة خارجية إسلامية ترمي إلى الإبقاء على أسرة سعود في السلطة".
وفى الترويج لهذه الاستراتيجية، تعاونت بريطانيا بصورة روتينية مع الولايات المتحدة، التي لها تاريخ مماثل من التواطؤ مع الإسلام المتطرف . وفي ضوء انهيار القوة البريطانية، تحولت العمليات الأنجلوأمريكية من أن تكون مشروعات مشتركة حقاً في السنوات الأولى التي أعقبت الحرب إلى مشروعات تشغل فيها هوايتهول مكان الشريك الأدنى منزلة، الذي يقدم عادة القوات المتخصصة السرية في عمليات تديرها واشنطن. وفي بعض الأوقات حلت بريطانيا باعتبارها الذراع السرية في واقع الأمر للحكومة الأمريكية، وقامت بالأعمال القذرة التي لم تكن تستطيع واشنطن القيام بها، أو لا تريد القيام بذلك. وبذكر ذلك، نؤكد أن استخدام بريطانيا للقوى الإسلامية لتحقيق أهداف سياسية يسبق في تاريخه استخدام الولايات المتحدة لها، وأن ذلك يرجع لعصر الامبراطورية . وبالمثل، فقد عملت هوايتهول في عالم ما بعد الحرب بصورة مستقلة أحياناً عن واشنطن؛ وذلك لتحقيق مصالح بريطانية على نحو مستقل / مثل مؤامرتها للإطاحة بعبد الناصر في الخمسينيات أو إقامة لندنستان في التسعينيات.