المنار وجذور الأصولية الإسلامية بمصر.. أساس البلاء
الخميس 26/نوفمبر/2015 - 04:28 م
طباعة
اسم الكتاب: جذور الأصولية الإسلامية في مصر المعاصرة
الكاتب: أحمد صلاح الملا
الناشر- مكتبة الأسرة – القاهرة 2015
يعد رشيد رضا واحدًا من أهم مؤسسي الأصولية الإسلامية في مصر والعالم العربي من هنا تأتي أهمية رسالة الماجستير التي صدرت في كتاب (جذور الأصولية الإسلامية في مصر المعاصرة رشيد رضا ومجلة المنار 1898 – 1935) لأحمد صلاح الملا والتي اتبعت منهج التحليل التاريخي لنصوص المقالات المنشورة في المنار، وربطت بين هذه النصوص بالواقع الذي أنتجها من خلال قراءة رؤية المنار للاستعمار الغربي ودولة الخلافة العثمانية والمرأة والآخر الديني- المسيحي- ليصل الباحث إلى أن فكر المنار كان في جوهره رد فعل دفاعي، استنجد بلحظة الإسلام التأسيسية- بعد فصلها عن واقعها التاريخي- ليواجه بها الاستعمار الغربي وما جلبه من أفكار وقيم وأنماط سلوك، ومن هنا يمكن القول بأن المنار- والإصلاح الإسلامي عامة- كانت في الأساس محاولة للحفاظ على أسس المجتمع التقليدي ومقاومة ما يتهدده من مخاطر، عبر "تحصين" ثقافته "وسد منافذ الاختراق" دونها.
وبهذا المعنى، فإننا نعتقد أن ثمة صفتين أساسيتين ميزتا فكر المنار، فهو من ناحية فكر "مثالي"؛ حيث فسر تخلف العالم الإسلامي بالانحراف عن مبادئ الإسلام الصحيح" الذي كان قائماً- حسب هذه الرؤية- في الماضي الذهبي، وليس في ضوء تخلف شروط الواقع المعاش لهذا العالم اقتصاديًّا واجتماعيًّا وسياسيًّا وثقافيًّا، وهو من ناحية أخرى فكر "محافظ"؛ حيث كان يعارض في العمق عناصر العلمنة والحداثة في الثقافة العربية، أكثر مما يعارض عناصر الجمود في التراث الإسلامي التقليدي؛ ولذا انحصرت محاولته الإصلاحية ضمن حدود "ترميم الواقع" وليس تغييره.
وقد زاد من بروز الطابع المحافظ لفكر المنار كممثل للإصلاح الإسلامي، أن هذا الإصلاح عامة كان في حالة ارتداد دفاعي مستمر نحو الذات ونحو الماضي تبعاً لتعاظم التدخل الأوربي في العالم الإسلامي، فبينما كان الطهطاوي- بوصفه ممثلًا لمشروع نهضة- مستعدًّا للاعتراف للغرب بعناصر تفوقه فكريًّا وقيميًّا كما ماديًّا وتقنيًّا، كان على الأفغاني وعبده ومن بعدهما رشيد رضا ومجلته المنار مواجهة تناقض من نوع مختلف؛ حيث كان هؤلاء أكثر اعتقاداً من الطهطاوي بحتمية انتصار الحداثة؛ لأنهم أصبحوا في عصرهم يراقبون تغلغلها السريع في كافة نواحي حياتهم، لكنهم كانوا أيضاً أكثر خوفاً وحذراً تجاهها؛ لأنهم اعتبروا أن انتصارها بشكل حاسم- مع ما تجسده من حالة إمبريالية- يعني تدمير هويتهم وعالمهم بأكمله.
في ضوء هذا التصور، ينبغي التأكيد على مسألة أساسية، وهي "هشاشة" المحتوى التوفيقي لفكر المنار؛ حيث قبلت المنار دوماً الجوانب العملية والتقنية للحداثة على اعتبار أنها "وسائل قوة" تفيد المسلمين في صراعهم مع الغرب، بينما لم يكن الأمر بالبساطة نفسها بالنسبة لمنظومات الأفكار والقيم التي طرحها التحدي الغربي على الواقع الإسلامي، والتي رفضتها المنار ورأت فيها أدوات لإضعاف العالم الإسلامي واختراقه.
وقد تجلى فكر المنار الدفاعي والمحافظ، في مجمل أطروحاتها السياسية والاجتماعية، فعلى المستوى السياسي، رفضت المنار قيما حداثية أساسية كالوطنية والعلمانية، وهو ما انعكس في مواقف عديدة لها على صعيد الممارسة، وحتى بالنسبة للفكرة الديمقراطية التي قبلتها المنار، كان هذا القبول مشروطاً بتهميش مبدا "سيادة الأمة" الذي يشكل جوهر الديمقراطية بوصفه معياراً سياسياً، ووضع هذه السيادة في المرتبة الثانية، بما يجعل الاعتراف بها مرهوناً دائماً بضرورة التوافق الكامل مع أحكام المعيارية الدينية الثابتة ممثلة في الكتاب والسنة.
وفي الإطار نفسه، يمكن فهم رفض المنار للدولة المدنية الحديثة كما جسدها "مصطفى كمال" ودفاعها في المقابل عن "الخلافة" كفكرة وكنظام، بما يثبت التصورات التقليدية حول "السيادة" الدينية.
أما على المستوى الاجتماعي فقد كانت نظرة المنار للمرأة على سبيل المثال، تمثل استمراراً وترسيخاً للنظرة الفقهية الكلاسيكية ذات الطابع الذكوري لها، وهي نظرة لا ترى المرأة سوى من منظار "جنسي" و"دوني" مباشر، وعلى صعيد آخر، تميزت رؤية المنار "للتعليم" بذات المحتوى الدفاعي المحافظ؛ حيث ارتكز عملها فيه على مقاومة أشكال التعليم الحديث بطابعها العلماني الوطني، وترميم البنى التعليمية التقليدية ذات الأساس الديني عبر تلقيحها شكليًّا ببعض معطيات الحداثة، وهي محاولة ثبت على أية حال ضعف جدواها وعدم قدرتها على منح المسلمين نظاماً تعليميا عصرياً متكاملاً، يعينهم على التكيف مع معطيات العالم الحديث.
ويقول الملا: "لتحقيق مزيد من الفهم لظاهرة الإصلاح الإسلامي التي كانت المنار إحدى أهم حلقاتها، سنتناول هنا مسألة هامة وهي طبيعة البناء الاجتماعي الداعم لهذا الإصلاح، والذي كان هذا الإصلاح- في نهاية المطاف- يتحدث باسمه.
هشمت عملية الإلحاق الإمبريالي الغربي للعالم الإسلامي في إطار السوق الرأسمالية العالمية، البنى والعلاقات الاقتصادية – الاجتماعية القديمة في هذا العالم، وشوهت في الوقت ذاته نمو البنى والعلاقات البرجوازية فيه، وبمعنى ما، يمكن اعتبار الوقت نفسه؛ حيث كان هذا الإصلاح محاولة لمواجهة التدمير الغربي للحوامل التقليدية المستقرة للمجتمعات الإسلامية، محاولة للحديث باسم تشكيلات اجتماعية واسعة ارتكزت حياتها على البنى الاقتصادية- الاجتماعية القديمة، ولم تستطع تكييف مصالحها مع التحول نحو علاقات الرأسمالية التابعة، فتمت إزاحتها لإفساح المجال للبنى والقيم الجديدة، بينما اتخذ من استطاعوا تكييف مصالحهم مع الواقع الجديد مساراً فكرياً آخر تميز عادة بتوجهات اجتماعية محافظة ذات غطاء فكري ليبرالي ومتعاون مع الغرب.
لكن كانت مشكلة الإصلاح الإسلامي الحديث، هي أن ضعف قاعدته الاجتماعية وكونها بالأساس قاعدة "قبل برجوازية"، قد حكم عليه بأن يظل- في محصلته العامة- إصلاحاً متردداً و"ماضويا"، وعاجزاً عن بناء تصورات جديدة للدين تنسجم مع مطالب المجتمع البرجوازي الحديث.
وطبقا لهذا التصور، تكون الطبيعة الماضوية المتشائمة للإصلاح الإسلامي جزءاً من بنيته نفسها؛ حيث فرضها عليه استناده إلى القوى الاجتماعية التي سحقتها العلاقة بالغرب، ولعل هذه الطبيعة بالذات هي التي خلقت مقولة "الانحدار التاريخي" باستمرار نحو الأسوأ، التي كانت إحدى المقولات الرئيسية في خطاب الإصلاح الإسلامي، وبمعنى معين، فإننا إذا افترضنا أن الطهطاوي كان طليعة طبقة برجوازية في طور التكوين، يصبح من الممكن القول أن المنار كانت تمثل- بشكل ما- تعبيراً عن أزمة هذه الطبقة؛ سواء بسبب إلحاقها المستمر بمشروع الدولة، أو بسبب الضغط الغربي الإمبريالي المباشر عليها.
هنا بالضبط، تكمن أزمة الإصلاح الإسلامي الجوهرية، خاصة إذا قارناه بالإصلاح الديني الأوروبي، فبينما كان الإصلاح الديني الأوربي تعبيراً عن صراع اجتماعي ناضج بين الوعي البرجوازي الحديث وبين قوى الإقطاع، فإن من الصعب النظر للإصلاح الإسلامي الحديث كممثل لطبقة صاعدة؛ حيث يظل واضحاً استناد هذا الإصلاح بالأساس إلى قاعدة اجتماعية تُصارع كي لا يتم تهميشها بشكل كامل.
ولهذا كانت النتائج في الحالتين مختلفة جذرياً، فبينا استطاع الإصلاح الديني الأوروبي وضع الدين تحت سلطة العقل وتقديم رؤى دينية جديدة تلائم واقع المجتمعات الأوربية، لم يستطع الإصلاح الإسلامي الحديث بلورة تطور مماثل، فتحول هذا الإصلاح في النهاية إلى مجرد رافد من روافد السلفية المحدثة، التي لا ترى في العقيدة حافزاً للتقدم الإنساني، بل ترى في الإنسان ذاته أداة للعودة إلى نموذج رومانسي مسبق للعقيدة.