دراسة لكاهن مصري.. اللاهوت السياسي يتحدى فوضى العدمية والإرهاب في الأحداث الجارية
الخميس 03/ديسمبر/2015 - 11:28 ص
طباعة

ثلاث أحداث مرت بنا مؤخرًا ظهر فيها الخلط الكبير بين اللاهوت والسياسة: الأول ما كتبته صحيفة يومية أثينية ذائعة الصيت وواسعة الانتشار (الكاثيميريني) على صفحتها الأولى أن الحرب الدائرة اليوم، بعد الأحداث المأساوية في عاصمة النور باريس هي حرب "دينية" قائمة بين الغرب المسيحي والدولة الإسلامية، والحدث الثاني ما أعلنه فضيلة شيخ الأزهر في الأقصر، والحدث الثالث هو الجدل الذي صاحب زيارة البطريرك القبطي إلى القدس، وهل هي زيارة دينية أم سياسية؟ وكأن المسيحيين لم يعد لديهم مرجعية لاهوتية وتراث ثقافي وروحي يقدر عمرهم بعشرين قرنًا بحلوهم ومرهم، ولا بد لهم من "دار افتاء"! تريحهم من عناء الدراسة والبحث والتفكير.
هذه الأحداث دعت العلامة اللاهوتي الأب اثناسيوس حنين، والذي يشغل منصب مستشار مطران أثينا أن يكتب هذه الدراسة المهمة حول اللاهوت والسياسة، على خلفية الجدل المثار الآن، والتي خص بوابة الحركات الإسلامية والأقليات بعرضها حيث يقول الأب اثناسيوس:
"هذا الخلط الكبير أدى إلى أن الأغلبية الصامتة في المحروسة، والتي تسعى للفهم تبحث عن مرجعية ما تسند إليها رأسها المهموم؛ حتى لا يصيبها اكتئاب جمعي. الحروب لا تحتاج إلى من يشرحها إذ ما تدركه من خراب وما تخلفه من ضغائن يغني عن كل توصيف، لكن هذا لا يبرر صمت رجال الدين .
والمنقسمون إلى أتباع الخطاب التقليدي الدفاعي الإسلامي والصمت والتحفظ والتطنيش المسيحي. وليس أدل على الخطاب التقليدي الإسلامي أكثر من حديث فضيلة شيخ الأزهر في مدينة الأقصر، حينما قال: إن الغرب قد عرف عصر النهضة والتنوير حينما ترك الدين، وفضيلته يتبع في التفسير منهج {لا تقربوا الصلاة ...} ويتجاهل النصف الباقي من الآية {وأنتم سكارى}، ولم يقل لنا فضيلته أي دين ترك الأوروبيون؟ وأي تنوير اعتنق الغربيون! لقد ترك الأوروبيون الدين المسيس، والذي قنن كبت الحريات وقمع البحث العلمي وبشر بالأصولية الكتابية وحرفية النصوص، وأفتى بالقتل باسم الصليب، بينما في الحقيقة أنه على الصليب مات إله العسكر، كل العسكر، وأنه بموت المسيح على الصليب بطلت البطولة بحيث أمست القداسة والعلم والحب هم الشكل الوحيد والمضمون الوحيد للإنسان الكامل، وعند دفن المخلص تزعزع مبدأ العنف إلى الأبد، وتسرب إلينا الشك في كل مقولات التاريخ وفي كل قدسيات الأزمنة المتكسرة والمتخلفة، وبتنا نؤمن أن الله لم يحارب يومًا لا قائد لجيش يشوع بن نون ولا لجيوش المسلمين، ولم يأت إلى بلادنا على رأس الصليبيين. (المطران جورج خضر). لقد وجه الأوروبيون وابلًا من النقد الذاتي والعلمي والتاريخي والمنهجي إلى ظاهرة "الدين" في العصور الوسيطة مستخدمين كل أسلحة الفكر الفلسفي الفتاكة، وخرجوا علينا بعصر التنوير، والذي- وبالرغم أن له ما له وعليه ما عليه- كان لهذا العصر اليد الطولى في تحرير اللاهوت من التسييس والسياسة من التلهوت، وبدأ مشوار إعطاء "ما لقيصر لقيصر وما لله لله"، وعرفنا علم اللاهوت وعلم السياسة على يد رجال النهضة !
لا شك أن الذين رحلوا من الشباب والصبايا والأطفال الفرنسيين في عاصمة النور باريس، ومن الروس في شرم الشيخ، أيا كان سبب سقوط الطائرة، قد اصطبغوا بالصبغة التي اصطبغ بها المعلم الإلهي واللاهوتي الأول والثائر الأوحد، وإن لم يتركوا لنا من بعدهم البركات، بل أمطرونا بوابل من الأحزان النفسانية والمخاوف الوجودية والتساؤلات الميتافيزيقية.
خشيتنا ليست ذهاب ذبائح هذا عددها ردت إلى وجه بارئها الكريم ولكنا نرتجف قلقًا على القابلين بالجريمة والغاضين النظر عنها إذ قدروا على كشفها؛ لأنهم إذ ذاك يقتلون نفوسهم حسب قول آبائنا القديسين: "إن الخطيئة انعدام الحس". (المطران خضر في مقال الذين يتقنون الإرهاب ترهبهم الوداعة – جريدة النهار 22- تشرين الثاني 1978). كان لا بد في كلا الحادثين من يهوذا ما! لكي لا تدخل الخيانة إلى قدس أقداس الإنسان والإنسانية جمعاء.
إن الصمت المطبق لرجال الدين وخطابهم الدفاعي- التوفيقي الناعم والخطاب العنيف والغاضب والناقم لرجال السياسة.. يستفز أمثالي ممن لا يحملون بين ضلوعهم إلا القلم على رأي أمل دنقل، ويحث على التساؤل عن هل لله من كلمة في هذا الزمان الرديء.. هل للدين كلمة عن الديان بعيدًا عن الخطاب التبريري والتلفيقي والدفاعي والتكفيري.. نحن المسيحيين الأرثوذكسيين لا نبشر بدين، بل نتعاطى اللاهوت ترياقًا ودواء للخلود الأبدي والشهادة الأنية! لا نغالي إذا قلنا إننا لسنا متدينين بل متألهوا العقول... المسيحية التي نعرفها تشكل علاقة جدلية بين الأبدي والزمني، وقد لا يكون المسيحون أنفسهم على رؤية واحدة وقراءة واحدة؛ بسبب تباين لاهوت أو تباينًا في الحس السياسي الوطني، أو اختلاف المسيرة التاريخية، أو الخبرة الصوفية، إلا أن المثقفين في بلادي- على اختلاف ركائبهم- يدركون أن المسيحية الأصيلة تأتي من الإلهيات، وأن إنجيل يسوع المسيح فيه من الكنوز ما يؤهلنا إلى الالتزام بمصير الوطن الواحد، وبتعبير آخر يمكن الحديث اللاهوتي في السياسة. السؤال ما هو اللاهوت وما هي السياسة؟ وهل من لقاء وهل يمكن أن يلتقي اللاهوت والسياسة خارج الإنسان، فالإنسان مخلوق إلهي وحيوان سياسي، الإنسان هو محراب اللاهوتيين وهو مطمع السياسيين. أين مجد الله؟ يتساءل أحد المفكرين العرب ويجيب بأن هذا هو السؤال السياسي الوحيد؛ لأن "مجد الله" مقولة لاهوتية اتخذت نموذجًا مدنيًّا وسياسيًّا ما دمنا ننطلق من أن المؤمن ينطلق من يقين أنه لا يطلب سوى مجد الله؛ لأن الله هو الألف والياء.. الترجمة السياسية لهذه المقولة هي أن الآخر هو مصيري؛ لأن المؤمن يرى الله أو لا يقدر أن يرى الله إلا في وجوه الآخرين. كل الآخرين.
مَن هو الإنسان حتى تذكره؟
سأل متحيرًا يومًا أحد أكابرنا! إن كان كارل ماركس قد فشل في توحيد العالم بعد أن فككه فان سيجموند فرويد لم يجمع النفس بعد أن شتتها "المطران جورج خضر"، بينما أطلق أئمة فتاوى الخراب طاقات النفس الأمارة بالسوء لتحقق ذاتها في تخريب الحضارة وتلويث الثقافة، الإنسان المعاصر مشتت بين السياسة والمشاكل النفسية والشخصية ومطالب الدين والخوف من الديان. الساحة اليوم تشهد انفصامًا رهيبًا وتحويل مأساوي للكثير من المشاكل النفسية إلى قضايا دينية ولاهوتية. مع أن العلم اللاهوتي لا يبدأ إلا بعد شفاء النفس.. القضية هي علاقة اللاهوت بشئون الناس وهموم الأرض وقضايا الساعة وهي أن سياسة إدارة المدينة شيء آخر غير ذلك.
هل للاهوت كلمة فيما يجري؟ يقول المطران خضر في جدلية العلاقة بين السياسة واللاهوت "نحن أخريون اسخاتولوجيون (خينيفانيون بالمصرية القديمة) لا نقبل حشرنا في نظام سياسي هرمي جامد متسلط، كما لا نقبل بنايانا كنسيًّا هيرارخيا مستبدًّا؛ لأن كنيسة الأرض عندنا أن هي ألا عتبة الملكوت وليست الملكوت مكتملا. نحن أخريون لأننا لا نرتاح إلى رصفنا في سياسات دولة. الروحانيون والمتصوفون منا لم يرتاحوا إلى بيزنطة الأرضية ولا إلى روسيا القديمة. نحن وطنيون حتى النفس الأخير ولا نقبل أن ننحشر في نظام سياسي واحد أو حزب واحد بل لنا الحرية الكاملة في أن نرى خير الجماعة ومصلحة الوطن. إن عباداتنا تدفعنا إلى الزهد بالمنظور وفي نفس الوقت التزام قضاياه بوعي إذا كان هدف اللاهوت هو أنسنة الإنسان تكون السياسة هي القنوات الثقافية والحضارية التي من خلالها يتأنسن الإنسان، وهي الإطار الذي يحفظ للإنسان حريته وسلامته ويهيئ له الأجواء ليطلق سراح طاقاته الكامنة إلى الخير، هل من أصول لهذا الرؤية يرى الأب ثاناسي باباثناسيو في كتابه الأخير (الصدام مع العدمية الاجتماعية واللامعنى السياسي" ويرى الكاتب أن الصدام يأتي عن طريق اللاهوت المتمدين أي الذي يمارس دوره المتجسد في المدينة حسب رؤية العالم المسيحي السوري يوحنا الذهبي الفم في قداس القيامة. إن المسيح قد قام وتمدينت الحياة.
Ανέστη Χριστός και ζωή πολιτεύται
الحياة تمدينت أي صارت مشروعًا جديدًا قائمًا على الإنسان الجديد يحكم ويؤدي إلى نهج حياة سياسي جديد أي نهج حياة للمواطن الحر في الملكوت الجديد، الآن وهنا. الرسول بولس يدعو المسيحيين الذين كانوا يعيشون في ظل الدولة الرومانية إلى أن يتمدينوا ويسلكوا بكياسة سياسة متمدينة ومتحضرة حسبما يتفق مع بشارة المسيح، ولقد حرمتنا الترجمة العربية الفانداكتية البيروتية من المعنى العميق للآية اليونانية والقبطية.
«(Μόνον άξίως του εύαγγελίου του Χριστού πολιτεύεσθε»’(Φιλ. 1 ,27).
الترجمة العربية السائدة تقول: "فقط عيشوا كما يحق لإنجيل المسيح.." فيليبي 1:27 ’ بينما الترجمة المصرية القديمة للآية (القبطية) تعطي نفس المعنى اليوناني "مونون اريبولوليتيفيستى خين بى اميبشا امبى ايفانجليون انتى بخرستوس " والتعبير "بوليتيفستي" يعني ممارسة حقوقي المدنية في المجتمع المتمدين البوليتيا، وهو التعبير الذي استخدمه أفلاطون في مدينته الفاضلة، إذن الحياة حسب المسيح هي التمدين الإنساني والروحي والفهم اللاهوتي والسلوك بكياسة مدنية- سياسية، السياسة أي المدنية أي حياة المدينة الأفضل "هنا" هي امتداد للاهوت واللاهوت هو في أعماقه وبهذا المعنى هو سياسي، أي خلق واقع جديد، وثورة ضد العشوائيات الفكرية والتلوث الثقافي والأحادية السياسية، غير المتمدينة والقمع الفكري والتي تسير عكس مصالح المدينة. اللاهوت يعطي معنى آخر للوجود حسب النيصصي، وهو الطريق المتجدد حسب المعترف مكسيموس.
اللاهوت السياسي على هذا الأساس هو رؤية وجودية وثورة روحية ضد العدمية النفسية والفوضى السياسية واللامعنى الديني. الإنسان حينما يتوقف عن السير في هذا النهج الجديد يصير بالضرورة عابدًا للأصنام أي يتوقف عن النمو اللاهوتي في التمرس على مدنية العمل السياسي هي لون من الصنمية والوثنية الفكرية الجديدة، وتأليه الأشخاص بدلًا من قبول عطية تأليه الإنسان ودخوله في شركة إدارة الكون مع الله .
اللاهوت السياسي المتمدين لا يشكل قسمًا من اللاهوت، كما حدث في التقسيمات العصر الأوسطية السكولاستيكية والتي شكلت ارتدادًا إلى الفلسفة اليونانية القديمة، وتغرب عن الأصول المسيحية الأولى، وسماها العالم اللاهوتي الروسي جورج فلورفسكي "السبي البابلي الجديد للاهوت"، وربما هذا هو- على ما أعتقد وبحسن نية- عمق ما ذهب إليه فضيلة شيخ الأزهر، حينما قال إنه حينما تخلصت أوروبا من سطوة الدين دخلت في عصر التنوير! لقد تركت أوروبا الدين الأصولي والرجعية النصوصية، ومارست النقد الحاد والجارح لهذه العقلية الدينية، وأعملت الفلسفة والعقل، وأسهمت في نهضة الفكر الإنساني اللاهوتي والسياسي بالمعنى الحضاري والثقافي للتعبير. نكرر بأن عصر التنوير له ما له وعليه ما عليه، لكن هذا الحديث ليس مجاله الآن.. نحن نثمن هنا الجهد الإنساني الكبير الذي بذله علماء التنوير. اللاهوت السياسي عند المسيحيين المستقيمي الرأي هو ملء اللاهوت في ملء إنسانيته ومدنيته واندماجه واقتنائه لآليات العصر الثقافية.. اللاهوت المدني هو لون من ألوان اللاهوت العلماني المتحضر الذي تصير قضايا العالم والإنسان شغله الشاغل.
ما هو الأساس اللاهوتي للاهوت السياسي؟
قيامة المسيح هي أساس تمدين الحياة حسب المفكر السوري والرجل الحقوقي واللاهوتي يوحنا الذهبي الفم، حينما قال في ليتورجية الفصح: إن "السيد قد قام والحياة تجلت وتمدينت وتسيست" وهنا يأتي الفكر اللاهوتي ليحول الطاقات الروحية والنفسية إلى رؤية مدنية وبرنامج عمل ثقافي.
SAVOIR VIVRE
اللاهوت السياسي لا يهدف إلى التدخل في آليات الحكم (إشكالية الدين والسياسة) بل يمد القائمين على مصير البلاد بآليات الالتزام السياسي المتمدين. اللاهوت السياسي يعد للدولة أشخاصًا ناضجين (فيليبي 1: 27 ). يستلهمون العدالة من إشراقات الحكم الآتي؛ حيث يسود العدل والمساواة، ومن منطلق هذا الأمل الأخروي جاءت وصية بولس الثائر من ضرورة أن يلتزم المسيحيون بالخضوع الواعي للرئاسات وليس الخنوع الأعمى، ومن هنا نفهم أن الثورة في اللاهوت السياسي ليست هي ثورة مسلحة ضد أنظمة، بل ثورة وجودية وكيانية ونهج حياة جديد، ليست صدامًا مع أشخاص بل مع أوضاع. نحن هنا مع مشروع الدولة المدنية الجديدة والتي هي حركة دائمة يتحقق من خلالها القصد النهائي للتاريخ . الله – الإنسان الثيأنثروبوس- يسير مع الناس في الطريق كما فعل مع تلميذي عمواس. اللاهوت السياسي المدني هو الكنيسة في صيرورتها مشروع حضاري وانفتاحها في رؤية لاهوتية كشعب العهد الجديد والمشارك أبدًا في صنع الحضارة وإنتاج الثقافة. اللاهوت السياسي هو مسيرة وجود وفكر لا يطلب تفصيل المجتمع على مقاساته، بل يقبل الجميع كما هم وحيث هم؛ لكي يصل الجميع إلى كمال الإنسان، ويتفنن ويبدع في إيجاد قنوات تواصل مع الجميع ليسمع أنين كل واحد وكل شعب "بلغته". اللاهوت السياسي هو لاهوت " بيندكوستى خمسيني" بالمعنى الثقافي واللاهوتي للكلمة، لهذا فاللاهوتي السياسي لا يتوقف في الطريق؛ لأنه يؤمن بأن "لسه مشوار الحياة شايل لنا وقفات"، كما يقول الشاعر، وأي توقف في الطريق هو لون من ألوان الصنمية الجديدة، وارتداد إلى عبادة الأوثان. هنا يأتي معنى الشهادة والاستشهاد، فالشهيد ليس هو القتيل الذي يموت وهو يقتل الأبرياء متنكرًا؛ حتى لقول كتابه {لئن بسطت يدك لتقتلني ما أنا بباسط يدي إليك لأقتلك إنى أخاف الله رب العالمين"! والشهادة ليست هي إلغاء الآخرين وتيتيم التاريخ وإجهاض الثقافة وضرب كرسي مفخخ في الكلوب، وتقفيل العرس الثقافي الكوني.. الشهادة هي تقدمة صدق وعلم وحب ومسئولية، وهنا يأتي دور العبادات والمناسبات في إضرام شعلة الثقافة المدنية والنقد الذاتي، مثل أن نقول في صلاة الباركليسي، ونحن نخاطب العذراء مريم كبطلة قومية. "يا والدة الإله لسنا نصمت عن التكلم بعظائمك نحن غير المستحقين؛ لأنك لو لم تنصتي متشفعة بنا فمن كان ينقذنا من مثل هذه الشدائد والضيقات؟ أو من كان يحفظنا أحرارًا إلى الآن..؟". هنا العبادة لها بعد سياسي؛ لأنها تشكل مداخلات إلهية في الواقع المدني والسياسي، هي رسائل على الكنيسة تأويلها وتأوينها من أجل خير البلاد وتطور العباد. الحرية التي يقصدها هنا هي الحرية المدنية والثقافية والسياسية وليست فقط الحرية الباطنية- الروحية- الغنوسية والتمغربة عن الواقع. حينما يرتل اليوناني والروسي والرومي في كل مكان هذه الترنيمة يفهم أن النص يقصد حريته السياسة وتمدينه وسقوط الإرهاب والفساد والاستبداد، سواء كان عثمانيًّا أو شيوعيًّا أو داعشيًّا.. العبادة هي حركة نحو المجتمع وليست هروبًا إلى الداخل..لأنه من فيض قلب الكنيسة يتكلم لسان. المتألهون العقول.. هنا لا بد للاهوت المدني والسياسي من التسلح بالحب الكبير وتواضع العلماء وروح المسئولية والحب في اللاهوت ليس هو هذا الإحساس النرجسي بالرضى عن النفس التي تقوم ببعض الأعمال الصالحة، بل هو الاقتحام الخلاق للواقع بكل معطياته وبحلاواته ومراراته وبانتصاراته وإخفاقاته، والمسئولية هي مسئولية تاريخية، أي لاهوت المواجهة بلا تبريرات أو دفاعيات ميتافيزيقية لا واقع لها أو لي لعنق الآيات لتناسب شهوات النفس الأمارة بالسوء! ولقد شهد التاريخ محاولات قام بها البعض من المسيحيين المتضررين "في ظل ظروف سياسية واجتماعية صعبة" لتفسير مقاطع من الكتاب المقدس بشكل يبرر التمرد على الحاكم الظالم والانقلاب على الأوضاع السيئة وإرباك سلام المدينة باسم الدين. وهذه المحاولة قام بها القديس اريسيوس الذي عاش في بلاد شمال بلاد العرب بين عامي 518 و524 ميلادية، وغني عن البيان مدى صعوبة تلك الأيام، والتي عان منها المسيحيون بعد الانشقاق الكبير بين الإخوة في 451 واتباع العرب لسياسة "فرق تسد "، وتم عقد اجتماع لأهل المدينة في حوار ديمقراطي وموضوعي، وتم الرفض الجماعي لهذا التشويه لمسيرة اللاهوت السياسي، والذي يعتمد على التفاعل والاندماج والمشاركة، وقبول الآخر، كما يريد هو وكما يريده تراثه وثقافته، وليس الآخر الذي "نفصله" على مقاساتنا سواء أكانت مقاسات عملاقة أو مقاسات متقزمة! وهنا لا بد من وقفة طالما شغلتنا وهي ضرورة التوضيح للتاريخ وللصادقين من كل حدب أن السياسة لم تلعب دورًا في المجمع المسكوني الرابع؛ للسبب البسيط وهو أنه ومنذ مجمع نيقية صار هناك تقليد أن يرعى الامبراطور سلامة الإيمان من ناحية ووحدة الدولة من الناحية الأخرى. كتب أحد الآباء اليونانيون مؤخرًا مقالًا مهمًّا يقول فيه إنه كان هناك أخطاء سياسية للحكام في بيزنطية، وهي التي أدت إلى السقوط المريع للدولة في يد الفرس والعرب، لكن الآباء في المجمع الرابع لم يرتكبوا خطأ لاهوتيا؛ لأنهم لم يسمحوا بخلط السياسة باللاهوت، بل حافظوا على العقيدة الخرستولوجية المستقيمة. ونحن نرى وبتواضع أن عدم بذل جهد صادق لتفهم هذه الموقف، والذي يحتاج إلى دراسة معمقة، يشكل دليلًا على خلط اللاهوت بالسياسة والسياسة باللاهوت في أذهان الكثيرين حتى اليوم.
المسيح هو أول لاهوتي مدني وسياسي متمدين، ولقد اعتبرته السطات العسكرية والدينية وقتها أنه "يهيج الشعب"، وتهييج الشعب في نظر تلك القيادات وقتها هو "أنه يعلم الشعب" لوقا 23: 5 . نظرت السلطات في أيام المسيح إلى التعليم والتنوير على أنه تهييج وإثارة! ولقد أراد القادة الدينيون وقتها أن يقتلوا المسيح ولكنهم "خافوا من الشعب" (لوقا 22:1)؛ لأن (الشعب يبح اللي بيعلمه والشعب بيفهم مين بيعلمه الحقيقة ومين بيضحك عليه). لعل أخطر الاتهامات التي اتهم بها القادة الدينيون هو أنه يفسد الأمة، وهذا اتهام سياسي خطير، وأنه يمنع الناس من أن تعطى الضريبة لقيصر، وهذا اتهام بتخريب الاقتصاد، وأنه يقول إنه ملك، وهذا اتهام باغتصاب سلطة الملك الشرعي بل والشروع في انقلاب على السلطة الرومانية القائمة (لوقا 23:1-3 )، هذه الاتهامات تدل على أن الذي يخلط الدين بالسياسة ليس هو المسيح بل آخرون. في هذا كله كان المسيح مصلحًا مدنيًّا وصاحب مشروع سياسي- مدني- ثقافي بالمعنى الشامل للتعبير، مشروع الأرض الجديدة والسماء الجديدة والمجتمع الجديد والقائم على أساس الإنسان الجديد والمتجدد. ولقد قلب "من ضمن المفاهيم السائدة في الثقافة اليومية" التي قلبها أو على الأصح عدلها، مفهوم القريب والغريب واعتبر القريب الخائن هو الغريب والغريب الصادق هو القريب، هنا المسيح يقدم لنا رؤية جديدة للعلاقة مع النصوص، فمشكلة المسيح ليست مع الوحي والنصوص بل مع مفسري الوحي من قادة الدين الذين يحاولون تغطية سلوكيات إنسانية عادية بالكلام المنزل في حين أنها- أي السلوكيات والأحداث- تخضع لمنطق الحب والعطاء والتضحية والقوة والمصالح وتباينها. ومعيار كل فكر ومنطلق كل سياسة وأساس كل لاهوت، ومطرح كل سجود وحب هو "أحد هؤلاء الصغار" "لوقا 10: 29-37- متى 10: 10 35-42". هذا الصغير "فردًا كان أو شعبًا" الآتي من الوداعة أو من المذلة، والذي يدين بدين الحب أيًّا كانت ركائبه هو قضية السياسيين ومطرح سجود اللاهوتيين.