من مسلسل قضايا ازدراء الأديان وحصار التفكير
السبت 02/يناير/2016 - 04:07 م
طباعة
اسم الكتاب: حصار التفكير
المؤلف: إسحق ابراهيم
الناشر: المبادرة المصرية للحقوق الشخصية 2013
رغم أن هذا التقرير يقوم بكشف قضايا ازدراء الأديان فيما بين عامي 2011، 2012، إلا أنه يعد بدرجة من الأهمية لعرضه في بداية العام 2016، فما حذر منه التقرير الذي بين أيدينا ما زال مطروحًا على الساحة وما زالت قضايا ازدراء الأديان تقف عثرة أمام الباحثين والمفكرين في محاولتهم إنتاج فقه جديد يتناسب مع الواقع المعيش، ويرصد هذا التقرير قضايا الازدراء التي أتيحت للباحث فرصة المعرفة بها أو معاينتها، من خلال اتصالات ومقابلات أجراها، وعبر متابعة دائمة لمسار التقاضي فيها. وكما يقول الباحث في مقدمته إنه حرص على الحصول على نسخ كاملة من وثائق هذه القضايا والتحقيقات. هذا إلى جانب أعمال التوثيق الميداني للعديد من حالات التوتر والعنف التي ارتبطت بقضايا ازدراء الأديان. وقد استبعد التقرير تلك الحالات التي قُدمت فيها بلاغات إلى النائب العام، ولم يَصدر قرار بشأن المتهمين فيها.
ويعد هذا التقرير بمثابة جرس إنذار لينبه أصحاب المصلحة في مؤسسات الدولة والمجتمع والمصريين جميعًا. وفيه يحذر الباحث - إسحق إبراهيم مسئول ملف حرية الدين المعتقد بالمبادرة المصرية للحقوق الشخصية - من خطر القيود التي تُفرض على المواطنين باسم "حماية الدين"، وتُحد من الحرية الأم، وأساس كل الحريات، حرية التعبير والاعتقاد والبحث، استنادًا إلى مزاعم فضفاضة تتذرع بقدسية الأديان ووجوب عدم المساس بها. وفي هذا السياق يشير الباحث إلى خطورة هيمنة نزعات محافظة على الثقافة الوطنية، فصار المتهمون في هذه القضايا مفتقدين أبسط أشكال الدعم الشعبي لحقوقهم الأساسية، حتى القوى السياسية التي تتخذ من حرية التعبير أولويتها، تتقاعس عن التضامن مع ضحايا هذه الاتهامات؛ نظرًا إلى حساسية الموضوع والخوف من توجيه نفس الاتهام إليها.
ويبدأ التقرير بإلقاء الضوء على واقع قضايا الازدراء والقضايا الشبيهة خلال السنوات السابقة للثورة، وهي السنوات التي اتسمت بمصادرة مؤلفات وأعمال إبداعية بغية التضييق على حرية التعبير. ويبين كيفية تعرض كتاب ومفكرين لمحاكمات قضائية، وقيام بعض الرموز الدينية بإصدار فتاوى تكفير بحق مَن يعتقدون خروجه عن المألوف والمقبول لديهم، الأمر الذي كان يعني عمليًّا تعريض حياة العديد من هؤلاء المتمسكين بحقهم في التعبير للخطر. كما يصف الملاحقات الأمنية والمضايقات التي عانى منها المواطنون المصريون من الشيعة والقرآنيون والأحمديون وغيرهم، والتي أخذت أشكالًا متعددة، منها الاعتقال والاحتجاز غير القانوني، والمنع من السفر، لمجرد أن معتقداتهم تخالف مذهب أهل السنة والجماعة، مذهب الأغلبية المسلمة في مصر.
ثم يقدم التقرير وصفًا لواقع الحال خلال العامين الأولين منذ قيام ثورة يناير، في صورة إحصائية لحالات ازدراء الأديان التي رصدتها المبادرة المصرية، ويقارن بين نمط الملاحقات الأمنية والقانونية السابق على الثورة وبين الأنماط التي تلتها ليقف على أهم السمات المستجدة في هذا الصدد يرصد التقرير أربع سمات جديدة تميز واقع اتهامات وقضايا ازدراء الأديان في ما بعد قيام ثورة يناير عمّا سبقها.
السمة الأولى هي تصاعد الملاحقات الهادفة إلى التضييق على حريات الرأي والاعتقاد والتعبير من قبل فاعلين اجتماعيين غير ذوي صفة رسمية، وهي الملاحقات التي كان ضحاياها في الأغلب مواطنين عاديين ليسوا بالضرورة من أصحاب الرأي المعروفين أو الشخصيات العامة، كما كان الحال في العقدين الماضيين. كما لم تقتصر تلك الملاحقات على أتباع الأقليات أو المذاهب الدينية المخالفة لعقيدة أغلبية المصريين. ففي الكثير من الأحيان، كان ضحايا هذه الاتهامات من أتباع الإسلام السني، المذهب المعتمد لدى المؤسسات الدينية الإسلامية المصرية. وأتت أغلب هذه المضايقات على خلفية شجارات عابرة أو مساجلات كلامية تطرقت إلى أمور عقائدية أو آراء منشورة على الصفحات الخاصة لبعض المواطنين على مواقع التواصل الاجتماعي. وفي أغلب الحالات اتخذت هذه الملاحقات مسارين رئيسين:
1- نمط الاستضعاف والاعتداء، المنتشر في محافظات الصعيد: وفيه يقع الاعتداء على ممتلكات المتهم بالازدراء ويفرض عليه وعلى ذويه التهجير القسري، ويعاق حصوله على محاكمة عادلة مع محاصرة المحاكم ومقار النيابة في أثناء التحقيق مع المتهم ومحاكمته، لينتهي الأمر بإدانة المتهم.
2- نمط الملاحقة القضائية: يتولى فيه محامون ينتمون في غالبيتهم إلى التيارات الإسلامية توجيه بلاغات إلى النائب العام ورفع دعاوى بطريق الادعاء المباشر ضد الشخصيات العامة والكتاب المبدعين، ويسرت صياغة القانون المبهمة لهم التوسع في تحرير البلاغات، ومع التحريض الحزبي والطائفي الذي عادةً ما يصاحب هذا البلاغات يسارع النائب العام إلى التحقيق فيها واستدعاء محرري البلاغات وسؤالهم وفتح التحقيق مع المتهمين.
السمة الثانية التي وسمت مساعي التضييق على حرية الاعتقاد والتعبير فيما بعد الثورة هي الفشل شبة التام لأجهزة الدولة في تقديم الحماية المناسبة لضحايا هذه الاتهامات، وهو الفشل الذي يصفه التقرير بأنه "فشل بلون التعصب"، إذ عجزت الشرطة عن حماية المواطنين المتهمين ومنع الاعتداءات على ممتلكاتهم، بينما كانت التدخلات الإدارية والتنفيذية نموذجًا فاضحا لتطبيق العقوبة المنحازة والجزاءات الجزافية قبل التحقيقات، بغض النظر عن نتائجها.
أما السمة الثالثة التي هيمنت على هذا المشهد فتتعلق بأدوار المؤسسات الدينية وتيارات الإسلام السياسي، والتي كانت ممارساتها في أغلبية الحالات جزءًا من المشكلة ولم تكن بحال جزءًا من الحل، فتراوحت بين المطالبات بفرض الرقابة على وسائط التعبير ومواقع التواصل الاجتماعي ككل، ومصادرة أعمال إبداعية بعينها إلى تحرير البلاغات ذد أصحاب الرأي والمواطنين العاديين، انتهاءً بشحن الأنصار لحصار قاعات المحاكم؛ حيث يحاكم المتهمون بازدراء الأديان بهدف التأثير على مشاعر وقرارات القضاة.
أما السمة الرابعة فتتعلق بدور القضاء، والذي يتبنى تفسيرات محافظة لنصوص المواد القانونية التي تنظم هذه الحالات وتنحو إلى التضييق على حريات الاعتقاد والتعبير- وهي النصوص التي جاءت على قدر عالٍ من الغموض وعدم التحديد.
ويحدد التقرير الحقوق التي تعرضت للانتهاك، وفي المقدمة منها حقوق حرية الدين والمعتقد والرأي والتعبير والإبداع، والحق في المحاكمة العادلة وينتهي إلى عدد من التوصيات العاجلة التي يتوجه بها إلى المؤسسات الحكومية والمجتمعية المعنية. ثم يلي الجزء التحليلي ثبت توثيقي لحالات ازدراء الأديان، وبيان لأحداثها وتداعياتها، نُتيحها ليعلم الجميع الحجم المقلق للظاهرة. وفي هذا الثبت الموثق عون لغيرنا من الباحثين والمعنيين بقضايا الحريات لمعرفة تفاصيل هذه الحالات واستكمال البحث فيها.
إن قراءة متأنية للقضايا التي شهدتها مصر في خلال العامين 2011،2012 والاعوام التالية لهما، تظهر مقدار التربص بحرية الرأي والتعبير من قبل أفراد ومؤسسات تريد فرض وصايتها على المواطنين؛ تارة بأن تحدد لهم ما يكتبون وما يقرءون، وتارة بملاحقتهم قضائيًّا ومحاولة الزج بهم في السجون، وهو ما يبرز عدد القضايا المرفوعة ضد كتاب ومفكرين ومدونين، إضافة إلى شباب يقضون حاليا عقوبات بالسجن لمجرد أنهم تلقوا رسائل اعتبرها البعض مسيئة على صفحاتهم الشخصية على مواقع التواصل الاجتماعي بدون أي ذنب اقترفوه، وبدون وجود ظهير نقابي أو مؤسسي يحميهم. كذلك فقد اتسم سلوك جهات الإدارة الحكومية بالمحافظة المفرطة إلى حد التشدد التي تنتج إخضاعًا يقلص حرية التعبير ويعرض ممارستها للتجريم وفرض مزيد من القيود على الرأي، كما رأينا في استجابة مسئولي الجامعات والإدارات التعليمية لعقاب أعضائها لمجرد اعتراض طلاب أو ذويهم على المحتوى التعليمي، بما يفتح الباب لأي جماعة أو تيار أو شخص متشدد للاحتجاج لرفض الأفكار التي لا تتفق مع رأيه.