عن علاقة الدين والحضارة.. رسالة قس إنجيلي إلى شيخ الأزهر
الإثنين 07/مارس/2016 - 10:31 ص
طباعة

اسم الكتاب: علاقة الدين والحضارة رسالة قس إنجيلي إلى شيخ الأزهر
الكاتب: القس رفعت فكري
لم تكن المسيحية هي سبب تخلف أوروبا الحضاري بل سلطة رجال الدين والمؤسسة الدينية، والقس رفعت فكري رئيس تحرير مجلة الهدي الإنجيلية أصدر دراسة بعنوان رسالة قس إنجيلي إلى شيخ الأزهر العلاقة بين الدين والحضارة، والتي انطلقت من الرد على ما قاله الإمام الأكبر في مؤتمر الأوقاف الدولي "رؤية الدعاة حول تجديد الخطاب الديني، وآليات تفكيك الفكر المتطرف"، والذي عُقد بالأقصر في 14 نوفمبر 2015م، والذي حضره وفود من 70 دولة ومنظمة إسلامية وعالمية؛ حيث جاء على لسانه ما نصه:
"وقد ثبت تاريخياً أن المسلمين حين أبدعوا وتحضروا وصدروا ذلك للعالم كله، كانوا يسندون ظهورهم إلى نصوص القرآن والسنة وتوجيهات الإسلام، وأنهم تراجعوا حين حيل بينهم أو حالوا هم أنفسهم بينهم وبين مصادر القوة في هذا الدين، بعكس حضارة الغرب التي أصابها الضعف والتفكك حين كانت ترفع لافته الدين في القرون الوسطى، فلما تمردت على الدين وأدارت له ظهرها، نمت وترعرعت فيما يٌعرف بعصر النهضة أو عصر التنوير، وهذه مفارقة أو مقارنة لا ينبغي إغفالها في تميز الإسلام وقدرته الخارقة على صنع مجتمعات غاية في الحضارة العلمية والثقافية والفنية، وأن حضارة المسلمين مرتبطة بالإسلام ارتباط معلول بعلته توجد حين يوجد الإسلام، وتتلاشى حين ينحسر أو يغيب".
ويقول القس فكري حول هذه الفقرة من حديثكم لي بعض الملحوظات التي أرجو أن يتسع صدر فضيلتكم لها:
أولاً: من الناحية الموضوعية
من حقك كمسلم وكشيخ للأزهر أن تتحدث عن الحضارة الإسلامية كيفما تشاء، وكيفما يروق ويحلو لك الحديث، وبالطريقة التي تراها مناسبة فهذا حقك الذي لا ينكره عليك أحد.
ثانياً: القراءة المتأنية للتاريخ
عندما نقرأ التاريخ بتأن نكتشف أن العصور الوسطى في أوروبا لم تكن شديدة التخلف كما يظن البعض، فكانت هناك الفنون والآداب، هذا فضلاً عن أن أول جامعة في أوروبا تأسست في فرنسا في القرن الخامس عشر، فالحقبة المسيحية التي سيطرت على أوروبا قبل الإصلاح الديني كانت حقبة مليئة بالثراء الفكري وبالغنى المعرفي والحضاري والثقافي.
ثالثاً: عصر النهضة يختلف عن عصر التنوير
بدا من كلام فضيلتكم أن هناك خلطاً واضحاً، وعدم تفريق بين عصر النهضة وعصر التنوير، حيث ذكرت فضيلتكم ما نصه "فيما يعرف بعصر النهضة أو عصر التنوير"، على اعتبار أنهما عصر واحد، بينما القارئ بعناية للتاريخ يدرك بسهولة أن عصر النهضة يسبق عصر التنوير، فعصر النهضة بدأ في القرن الرابع عشر واستمر حتى القرن السابع عشر، بينما عصر التنوير بدأ في القرن الثامن عشر، وليس من الصواب الخلط بينهما واعتبار أنهما شيء واحد، أو عصر واحد.
رابعاً: المسيحية ترفض الرجعية والماضوية
تضمن حديث فضيلتكم عقد مقارنة غير دقيقة بين الحضارة الإسلامية والحضارة الغربية، فعند ذكرك للحضارة الغربية، قلت: "إن حضارة الغرب أصابها الضعف والتفكك حين كانت ترفع لافتة الدين في القرون الوسطى"، وبالطبع الدين المقصود هنا في كلام فضيلتكم هو "المسيحية"، وما يفهم من كلام فضيلتكم في هذا السياق أن الغرب إنما تقدم بعدما أعرض عن المسيحية، وهنا تبدو المسيحية وكأنها ديانة تجلب التخلف على الإنسانية، وأنها هي السبب في تفكيك الحضارة الغربية، وهذا ليس صحيحاً على الإطلاق يا شيخنا الجليل، فالمسيحية تهدف أساسًا إلى نشر المبادئ والتبشير بالقيم الروحية من تسامح ومحبة وإخاء بين بني البشر، والمسيحية هي أساس حضارة المحبة والتسامح والغفران وقبول الآخر المغاير أياً كان لونه أو دينه أو جنسه أو جنسيته، فالمسيحية تحترم الاختلاف، وتؤمن بالتنوع، وتحمي الحرية، وتدعو لحرية الاعتقاد والعبادة وحرية تغيير الدين والمذهب، وليس من المسيحية الدعوة إلى إهلاك الآخرين المغايرين دينياً وثقافياً وحضارياً، وهذه القيم هي أساس الحضارة؛ لذا كان يجب على فضيلتك وأنت العالم الجليل، وأنت تتحدث عن الحضارة الغربية أن تفرق بين المسيحية في مبادئها السامية الراقية، وبين تصرفات رجال الدين في القرون الوسطى، فرجال الدين آنذاك ابتعدوا عن المسيحية ورقيها وسموها، وحادوا عن تعاليم السيد المسيح الراقية، وقد سبق وأن أشدت فضيلتك في أحد البرامج التليفزيونية بموعظة السيد المسيح وقلت: "إني أتغنى بموعظة المسيح على الجبل وتدمع عيني وأنا أقرأها"؛ لذا كان يجب التفرقة بين المسيحية ومبادئها السامية، وبين تصرفات بعض المنتمين إليها آنذاك.
يا عالمنا الجليل، إن حضارة الغرب لم يصبها الضعف والتفكك حين كانت ترفع لافتة الدين كما ذكرت فضيلتك، ولم تزدهر وتترعرع عندما أدارت له ظهرها كما قلت، ولكن حضارة الغرب في القرون الوسطى تحديداً تفككت حين كان الناس منقادين دون تفكير للمؤسسة الدينية ولرجال الدين، وازدهرت حضارة الغرب ونمت وترعرعت؛ لأنها فصلت الدين عن السياسة، ولأنها عزلت الدين عن أنظمة الحكم، ونهضت الحضارة الغربية عندما تُرك المجال لإبداع العلماء دون وصاية عليهم من رجال الدين، إن المسيحية في جوهرها يا فضيلة الإمام تحترم العلم والعلماء، وتدعو لفصل الدين عن السياسة، فلقد علم السيد المسيح قائلاً: أعطوا ما لقيصر لقيصر وما لله لله، لذلك فإن المسيح في تعاليمه الراقية لم يضع تشريعاً معيناً، ولكنه وضع مجموعة من القيم والمبادئ التي تصلح لكل عصر ولكل زمان ومكان، فذات مرة طلب شخص منه أن يحصل على ميراثه قائلاً: "يا معلم قل لأخي أن يقاسمني الميراث"، فأجابه السيد المسيح: "من أقامني عليكما قاضياً أو مقسماً؟! ثم قال للكل: "انظروا تحفظوا من الطمع"، لقد وضع المسيح قانون ميراث المحبة والقناعة والتحفظ من الطمع قبل أي قانون آخر، ولكن بعد انتشار المسيحية، وبعد أن أصبحت هي الدين الرسمي للدولة، أضحت الكنيسة هي أكبر مالك للأرض، وأصبحت قوة روحية وسياسية هائلة، ومن ثم استطاع بابوات الكنيسة أن يفرضوا سلطانهم على الدولة؛ حيث إن الحكام كانوا يكتسبون شرعيتهم من الكنيسة، وكان البابوات هم الذين ينصبون الأباطرة، وكانت الكنيسة إذا سحبت من الملوك هذه الشرعية، فإن الرعايا كان يجب عليهم السمع والطاعة دون نقاش أو جدال، وفي هذه الفترة المظلمة نستطيع أن نقول: إن أوروبا أصابها الضعف والتفكك، وجاء الإصلاح الديني نتيجة ما ساد كنيسة العصور الوسطى من فساد، ونتيجة ما انتشر فيها من شر، شمل رجال الدين وعامة الشعب، وهنا يا فضيلة الإمام أعطى الناس ظهورهم لا للمسيحية الراقية السامية، ولكن للمؤسسة الدينية، ولرجال الدين، وللسلطة الدينية الفاسدة، ومن ثم أشرق عصر الإصلاح أو عصر الإحياء، ففي ذلك العصر، غزا العقل البشري مختلف الميادين، وأصبح لا سلطان على العقل إلا العقل نفسه.