الوزارة فى التراث المصرى
الأحد 22/سبتمبر/2019 - 09:56 ص
طباعة
فى التراث المصرى كتاب قيِّم لأديب مصرى اسمه على بن خلف من كُتَّاب العصر الفاطمى، عنوانه: "مواد البيان" عقد فيه فصلا نادرا عن الوزارة ومفهومها وشروطها يمكن أن يكون هاديا لاختيار الوزراء، مفيدا لهم فى القيام بمهامهم.
والكتاب أصلا فى عناصر البلاغة التى يجب أن تتوافر فيمن يضطلع بالكتابة الرسمية للدولة، وكان لها ديوان يُسمى ديوان الإنشاء، يتولاه كبار الأدباء البلغاء، ويعد من أركان الدولة.
كما تعد الثقافة الواسعة للأديب من الشروط المهمة للكتابة الرسمية التى كانت تصاغ صياغة أدبية.
واتسم كتاب "مواد البيان" بالطابع الموسوعى الذى أدى بمفهوم الأدب إلى الاشتمال على فنون المعرفة المختلفة، ومنها هنا تناوله لموضوع الوزارة وتقترن الوزارة فى هذا الكتاب بالرياسة، ومن أول آلياتها المهارة فى فنون الكتابة، فقد كان رئيس ديوان الإنشاء على درجة الوزير فى بعض الأحيان. ومن هنا نظر مؤلف هذا الكتاب إلى فن الكتابة الديوانية على أنه أرفع ألوان الأدب، وفضّله على الخطابة والشعر([1]).
يقول على بن خلف: "الوزارة هى الرياسة، وصاحبها يجب أن يكون قيما بجميع أنواع الكتابة وأقسامها، عالما بشروطها وأحكامها، لأن كل ناظر فى فن من فنونها إليه يُرفع ما ينتظر فيه، فلا يجوز أن يكون جاهلا بشئ منه".([2])
والوضع القديم مختلف عن الوضع المعاصر، إذ الأخير يعتنى فى اختيار الوزير بالتخصص، وإن كان يُفَضَّل أن يكون مثقفا بالمعنى العام، وأن يأخذ من موسوعية المفهوم التراثى للأدب ما يحقق هذه الثقافة العامة إلى جانب التخصص.
ولأن الدين أساس الملك فإن مؤلف هذا الكتاب يرى معرفة أمور الدين واجبا على الوزير فيكون "نافذا فى علوم الدين، لأن الدين أساس الملك الذى يبنى عليه أمره"([3]). ولا يغنى هذا أن يكون الوزير فقيها دينيا، ولكن معناه أن يتحرى الصدق والحق، وإقامة العدل، واتباع المعروف، والإخلاص فى العمل، وإتقانه، إلى غير ذلك من الصفات الجميلة التى يوجبها الدين، وتعين صاحبها على التوفيق فى عمله لإصلاح شأن العباد والبلاد.
وقد حدد "على بن خلف" معالم الوزارة أخلاقيا وإنسانيا ومهنيا مما يجب أن يكون صاحبها "فاضل العقل، أصيل الرأى، جيد الرويَّة، ثاقب البديهة، جميل الصفح، مترفعا عن المباهاة برياسته، والمطاولة بمنزلته"([4]).
وتلك سمات رائعة جامدة بين الجانبين الخلقى والعملى من رجاحة عقل، وأصالة رأى توجبه حكمة العمل بهذا المنصب الرفيع، والتأنى والتفكر فى الأمور، وسرعة البديهة، والعفو عند المقدرة، والتواضع من السمات الشخصية التى تعلى من شأن الإنسان، وما أحسنها عند الوزير.
والصورة التى يرسمها "على بن خلف" فى كتاب "مواد البيان" تجعل الوزير الذى يتحلى بفضائها محبوبا ناجحا موفقا فى دينه ودنياه.
ومنها، أيضا، أن يكون عفيف الطعمة، شريف النفس، وقورا، صموتا عن الخوص فيما لا يعنيه، كثير الأناة، منتهزا للفرصة، متصرفا لبلاغتى المنطق واليد، فاضل الطبع، مجبولا على العدل"([5]).
فالوزير المثالى – هنا- هو من يعف فى طعامه بأن يكون حلالا طيبا، وأن يكون شريف النفس، ذا مهابة ووقار، وصمت وتجنب لما لا يعنيه، كما هو من حكمة الرسول محمد صلى الله عليه وسلم. كما أن الصبر والتأنى من الصفات الإنسانية المحمودة للوزير. أما قول "على بن خلف" أن يكون الوزير "منتهزا للفرصة" فليس معناه ما يتبادر إلى الذهن – الآن – من معنى سلبى نفعى، ولكن معناه أن يحسن توقيت القرار ليكون صائبا، فلا تفوته فرصة النجاح فيه، ولا يضيع عليه الوقت اللازم لاتخاذه فى حينه. والحق أن ما ذكره مؤلف هذا الكتاب فى الوزارة يمكن أن يعد دستورا لها.
مثل ما أشار إليه من أفضلية الوزير إذا كان فصيحا قولا وكتابة "متصرفا لبلاغتى المنطق واليد"، وأن يكون فاضل الخلق، عادلا "عالى الهمة، صادق اللهجة، متأنيا فى وعيده، يلامين أهل الطاعة والانقياد، ويغلظ على ذوى المعصية والعناد... آخذا بالتقوى، عادلا عن الهوى، لا يشقى به المُحِقُّ وإن كان عدوا، ولا يسعد به المُبطل وإن كان وليا"([6]). وأسلوب "على بن خلف" بليغ فى تصوير رؤاه الثاقبة، وحكمته النافذة إلى حقائق الأمور، ومثاليات العلم والعمل، وأصول الكياسة فى أمور الرياسة.
وهو متأثر بأسلوب الجاحظ إماما للنثر الفنى العربى من سجع وتقسيم وازدواج وطباق وجناس وبديع مؤثر إبداعا فى الأسلوب والصور الأدبية، وإقناعا فى الأفكار والرؤى.
وعلو الهمة وسداد القول وصدقه من أدبيات الوزارة، والكياسة فى التعامل مع الناس من فن السياسة، حيث استمالة المطيعين وعقاب العاصين مما تستقر به أمور الدولة، ويحقق عدالة القائمين عليها من الإحسان إلى المحسن والإساءة إلى المسيئ، ومعاملة كلٍ بما يستحق، إن خير فخير، وإن شرا فشر.
وقديما سخر الشاعر العربى من حمق قومه لغفلتهم عن هذا الميزان، إذ يعكسون الآية، فيحسنون إلى مَن أساء إليهم، ويسيئون إلى من أحسن إليهم، خلافا للعرف العربى، وتخاذلا عن الحماسة العربية:
يجزون من ظلم أهل الظلم مغفرة
ومن إساءة أهل السوء إحسانا
وما أجمل أن يأخذ الوزير بالتقوى، وأن يعدل عن الهوى، وأن ينصر الحق ويدحض الباطل فينصر صاحب الحق وإن كان عدوه، ويمنع صاحب الباطل وإن كان نصيره، تحريا للعدل.
ومما يستحب فى الوزارة أن يكون صاحبها "سهل الحجاب، مفتوح الباب، لطيفا باللهيف المظلوم، عسوفا على الغشوم الظلوم"([7]).
فيجعل بابه مفتوحا يلجأ إليه المظلوم، فينصفه، ويروع الظالم بحزم وشدة، مع التأنى فى العقاب حتى يتبين وجوبه على من يستحقه. والعطف على المظلوم الملهوف، والعسف بالظالم المعتدى من حسن استخدام اللين فى موضعه، والقوة فى موضعها، وإحكاما للعدل، وكأنه تناص بالقول الشهير لأبى بكر الصديق رضى الله عنه، وقد أشار إلى أن القوى – عنده- ضعيف حتى يأخذ الحق منه، وأن الضعيف قوى حتى يأخذ الحق له. وصيغ المبالغة بالغة الأثر فى تصوير هذا المعنى، فالمظلوم لهيف، والظالم ظلوم غشوم، وصاحب السلطة عسوف على الظالم ليقتص منه للمظلوم، ويطرد مفهوم الوزارة الذى يجعل الوزير "محبا للخير، مستكملا شرائط المروءة وأقسامها، فى سعة المنزل والطعام، وجودة الفرش والثياب، وعطر الرائحة، وفراهة الدواب، وكثرة الأصحاب من غير مبالغة تُطغى وتزدهى، ولا تقصير يغض ويغمض"([8]).
وهذه المثاليات الرفيعة فى الوزير مما سبق، ومن كونه محبا للخير، محققا لأركان المروءة، وهى الجامعة لكل جميل من الصفات الإنسانية، لا تعنى حرمانه – باعتدال- من متاع الدنيا، وأبهة الرياسة.
فله الحق أن يكون صاحب منزل واسع، وأن يطيب مأكله، ويجيد ملبسه، ويعطر رائحته، ويملك جيد ما يركبه، ويكون له كثير من الصحاب لتتوافر له الحاجات التى تحقق له الكفاية مما يغنيه عن البحث عنها إذا كرِم منها، ليقوم بمهامه فى شرف، وعزوف عن النظر إلى ما لا يحل له من المال العام، ونزوع إلى التجرد والنزاهة والانصراف عما يشين.
وتوافر النعم لأصحاب الوزارة – فى توسط- من رغد العيش، ووجاهة السلطة حَرِيّة ألا تؤدى بهم إلى الغرور والبطش بالناس، لكنها داء.. إلى الموازنة بين الاعتداد بالذات فى غير مبالغة إنسانيا، ولا تقصير عمليا.
ويجب على الوزير – أيضا- أن يكون "متجنبا للغضب، قليل اللهو والطرب، مداوسا للتجارب، ملابسا للنوائب، عارفا بتصرف الأحوال، عالما بوجوه الأموال، ومصالح الأعمال، مستوفيا لحقوق السلطان من غير حيف على معاملته ورعيته، معتمدا للإنصاف لهم، والانتصاف منهم"([9]). فثبات النفس، وتجنب الغضب من فضائل الوزير، وجديته وقلة اكتراثه باللهو مما يعطله عن أداء عمله كما يجب من عوامل نجاحه. ولعل تحذير "على بن خلف" من الميل إلى الطرب مقترنا باللهو يوضح أنه ليس ضد الطرب فنا جميلا إيجابى الأثر، بل لعله يعنى ما يتصل بألوانه الفاسدة التى لا تعد من الفن الجميل الراقى.
ولقد ابتلى التراث العربى بربط فساد بعض الخلفاء بالغناء والطرب واللهو والمجون، وموسوعة الأغانى لأبى الفرج الأصفهانى حافلة بذلك لكن الصحيح أن الطرف فن معتبر فى التراث العربى، فاعل إيجابيا فى الحياة العربية. أما تصور أنه مفسد أو حرام فهو تصور يعمم فى غير دقة، فيجعل ما ارتبط به من مجون وخمر وتنكب عن المروءة الإنسانية، والمسئولية العملية حكما عاما لا يصح على الصالح منه فنا جميلا متسقا مع الفطرة الإنسانية الجميلة.
أما تعبير أن يكون الوزير "مداوسا للتجارب" فبالغ الدلالة على خبرة مباشرة الأمور، ومعرفة الأحوال، ومعانية الأمور الصعبة، كما فى قول "على بن خلف" فى صفة الوزير "ملابسا للنوائب"، "عارفا بتصرف الأحوال"، كما أن الوزير الصالح هو الذى يستطيع معرفة أحوال الدولة الاقتصادية، واتباع الحكمة فى تصريف أمورها المالية، وتوجيهها التوجه الرشيد السليم. وهو الذى يعين الدولة من غير ظلم للرعية، مقيما ميزان العدل فى إنصاف المظلوم، وعقاب الظالم.
وأن يكون "مقدما أهل الفضيلة والدين والغناء، مستكفيا للكفاءة، عارفا لذوى البيوتات والرتب وأقدارهم ومنازلهم، منزلا لهم بحيث يستحقون منها"([10]). والاهتمام باستخدام العلماء والأدباء الفضلاء من أسس تمكين الدولة، وعلى صاحب السلطة، كالوزير، أن يختارهم للمشورة، وتوجيه الأمور للصالح العام. ويجب على الوزير أن يعرف أقدار الناس، وأن ينزلهم منازلهم تحقيقا للتماسك الاجتماعى الذى يوطد أركان الدولة. ثم على الوزير أن يكون "بصيرا بمكايد الحروب، ومعاجمة الخطوب، وتدبير الدولة، وسياسة الرعية، عارفا بما يعتمد كل طبقة منها من عسف ولطف وخشونة ولين، وما يصلح عليه من السِّيَر المتضادة، لا يشغله كبير أمر عن صغيره، مقدما للحزم، عاملا بالعزم، ناظرا فى العواقب، مخلص النية، صحيح الطوية"([11]).
وهنا نصل مع مؤلِّف هذا الكتاب إلى كمال صورة الوزير المثالى الخبير بدروب الحرب، وقيادة ميادينه، ومواجهة تقلباته. وهو الوزير القادر على التعامل الجيد مع مختلف المواقف المتأزمة الشديدة، والقدرة على تصريف شئون الدولة، وتدبير مصالحها، وسياسة أهلها باللين فى موضعه، والشدة فى موضعها ليكون الثواب والعقاب ميزانا حاكما عادلا لمكافأة المحسن وعقاب المسيئ.
كما أن الوزير الكفء يهتم بصغير الأمور وكبيرها، لا يستهين بشئ حزما وعزما ونظرا لعواقب الأمور، مع نقاء السريرة وإخلاص النية.
ولعل هذه الصورة المثالية التى رسمها التراث المصرى للوزير هى الصورة التى نتمناها للفرد والجماعة، وكل مسئول فى موقعه، وفق حديث، لرسول –ص- أنَّ كل راع مسئول عن رعيته. كما أننا لا نجد – واقعيا- هذه الصورة المثالية فى وزير أو غيره لأن الكمال لله وحده، ولكنا نأمل أن يجتهد هذا الوزير، وأن يتحرى محاسبة نفسه إذا قصر، أو أخطأ، أو فكر فى طريق من طرق الفساد ليسعى فى تحقيق ما ينفع الناس ويمكث فى الأرض.
(*) الأستاذ الدكتور/ عوض الغبارى، أستاذ بقسم اللغة العربية- كلية الآداب- جامعة القاهرة.
([1]) على بن خلف، مواد البيان، تحقيق حسين عبد اللطيف، منشورات جامعة الفاتح- ليبيا، 1982، من ص 57 إلى ص68.
([2]) السابق، ص 72.
([3]) السابق، الصفحة نفسها.
([4]) السابق، الصفحة نفسها.
([5]) السابق، ص 72، 3.
([6]) السابق، ص73.
([7]) السابق، الصفحة نفسها.
([8]) السابق، الصفحة نفسها.
([9]) السابق، الصفحة نفسها.
([10]) السابق، الصفحة نفسها.
([11]) السابق، السابقة.