البخاري .. معركة فكرية قديمة في ثوب جديد "الجزء الثاني"
الإثنين 22/أكتوبر/2018 - 07:19 م
طباعة
حسام الحداد
تناولنا في الجزء الأول:
• البخاري وعصره.. حرب الحنابلة والاحناف
• منهجه في جمع الحديث .. الجرح والتعديل.
• بدايات تقديس ونقد البخاري قديماً
سوف نتناول في هذا الجزء:
• المعركة حول البخاري حديثاً.
• الأزهر يشارك في "هالة تقديس" البخاري.
• أهم الانتقادات الموجهة للبخاري.
المعركة حديثًا.. تقديس البخاري حديثًا
إن المؤسسة الدينية الرسمية، والممثلة في الأزهر ووزارة الأوقاف، من أبرز الجهات التي تنادي بقدسية البخاري، وأن أي نقد وهجوم عليه وكتابه، يعد هجومًا على الإسلام، متفقين في ذلك مع أكبر تنظيمين إسلاميين على الأراضي المصرية "الإخوان المسلمين والدعوة السلفية "، رغم الحرب الدائرة بين هذه الأطراف في الميدان السياسي وسوف نعرض هنا لبعض الآراء التي تمثل هذا الفريق.
1- وزارة الأوقاف
قررت وزارة الأوقاف اتخاذ إجراءات قانونية عاجلة، ضد الشيخ محمد عبدالله نصر، المعروف بـ«خطيب التحرير ومنسق حركة أزهريون مع الدولة المدنية»، لتطاوله على كتاب صحيح البخاري ووصفه بـ«المسخرة»، كما أكدت الوزارة في بيان لها، 8/8/2014، إن «نصر، الشهير بـ(ميزو) لا علاقة له بالأوقاف من قريب أو بعيد، وحديث أمثاله من الجهلاء باسم الدين عار على الثقافة الإسلامية»، مناشدة وسائل الإعلام مراعاة الظروف الصعبة التي تمر بها بلدنا وأمتنا العربية كلها، والتي لا تحتمل استضافة أمثال هؤلاء الجهلة الذين لا صفة لهم سوى محاولة المتاجرة بالدين أو بالزي الأزهري. وأضاف البيان: «ميزو» تطاول على ثوابت الإسلام، وأنه بمثابة معول هدم كبير لأمنه واستقراره، وشددت أنها لن تستطيع مواجهة التشدد والتطرف بقوة وصلابة وإقناع، في ظل إفساح الإعلام المجال أمام الجهلة والمأجورين والمنتفعين، للتطاول على ثوابت العقيدة، وما استقر في وجدان الأمة، وصار معلومًا من الدين بالضرورة.
يتضح من البيان خطاب التعالي والتجهيل للآخر، رغم أننا لسنا هنا في مجال تحليل للخطاب، لكن اللافت للنظر تلك اللغة الهجومية المستفزة التي تعاملت بها الوزارة مع من أبدى رأيه في البخاري، دون المناقشة الموضوعية والعلمية التي يتطلبها الموقف
وتضامن مع وزارة الأوقاف نقابة الأئمة والتي وصفت تصريحات "محمد عبد الله نصر" بأنها من الحيل الرخيصة للأقزام وطالبي الشهرة والصيت وأصحاب الرأي الشاذ.
2- مجمع البحوث الإسلامية
الدكتور محمد الشحات الجندي
رأي مجمع البحوث الإسلامية ممثلا في الدكتور محمد الشحات الجندي الذي قال "إن كتاب صحيح البخاري هو أصح كتب الحديث، ويعد أصدق الكتب عقب كتاب الله، وإذا كان هناك بعض الأحاديث الضعيفة فهي قليلة، وبموجب ذلك لا ينبغي أن نصف هذا الكتاب العظيم بوصف لا يليق به".
3- مفتي الجمهورية
الدكتور شوقي علام
حول أزمة التشكيك في صحيح البخاري قال الدكتور شوقي علام " مفتي الجمهورية" إن الإمام البخاري عالم كبير جمع سنة النبي صلى الله عليه وسلم على منهاج دقيق، ولن يأتي من البشر مهما أوتي من علم بمثل منهجية الغمام البخاري في جمعه للأحاديث النبوية، وأشار إلى أن التشكيك في السنة – على اعتبار أن السنة ممثلة في البخاري– سيتبعه تشكيك في القرآن ومن ثم التشكيك في الإسلام ذاته، لأن السنة موضحة للقرآن فإذا نزعنا الثقة عن السنة سيتبع ذلك القرآن.
4- هيئة كبار العلماء
احمد-عمر-هاشم
الدكتور أحمد عمر هاشم عضو هيئة كبار العلماء وأستاذ الحديث بجامعة الأزهر حذر ممن يتقولون على رسول الله صلى الله عليه وسلم، ونظموا حملات شرسة على سنة الرسول، ومصادرها المعتمدة كالإمام البخاري، وأكد أن التشكيك في كتاب الإمام البخاري جزء من حملة يقوم بها أعداء الإسلام للنيل من السنة وإنكارها، واستطرد: إن لدينا يقينًا مطلقًا بحفظ القرآن، كما لدينا يقين بحفظ كل امر حقيقي وصادق من سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، حيث يتكفل الله بحفظ بيان القرآن وهي السنة التي هي مبينة للقرآن، وأعداء الإسلام يريدون أن ينالوا من السنة ويحاولون إنكارها بإنكار كتاب من أهم كتب السنة، وهو كتاب الإمام البخاري الذي يعد أصح كتاب بعد كتاب الله تعالى "القرآن الكريم"، وشدد على أن صحيح البخاري يحاول البعض بهجمات شرسة النيل منه، بعد أن حاولوا أن ينالوا من الرسول نفسه، مؤكدًا أن هؤلاء مفسدون ومارقون، وأنهم شرذمة تحاول أن تصب كيدها عبر بعض وسائل الإعلام .
5- الشيخ عبد الحميد الأطرش رئيس لجنة الفتوى سابقًا
الشيخ عبد الحميد الأطرش
أكد أن انتشار ظاهرة التشكيك في ثوابت العقيدة هو ما حذر منه رسول الله في حديثه (إن الله لا ينزع العلم انتزاعًا من صدور الرجال، ولكن يقبض العلم بقبض العلماء، فإذا لم يبق عالم اتخذ الناس رؤساء جهالا، فسُئلوا فأفتوا بغير علم، فضلوا وأضلوا)
وهذا هو ما نعيشه الآن فمنهم من أنكر عذاب القبر وأخيرا من يشكك في صحيح البخاري، مشيرًا إلى أنه ومنذ نعومة أظافرنا تعلمنا على يد علمائنا وأساتذتنا أن أصح الكتب بعد كتاب الله تعالى هو البخاري ومسلم، وإذا كنا نسمع الآن ممن يشكك في البخاري ومسلم فقريبا سنسمع من يشكك في القرآن الكريم، وحذر الأطرش من هذه الهجمة الشرسة على ثوابت العقيدة، مؤكدًا ستكون شرارة انطلاق الفتن في الأمة الإسلامية، فينبغي أن نتصدى لأمثال هؤلاء ونضرب بيد من حديد وليتحرك مجمع البحوث الإسلامية باعتباره المرجعية للعالم أجمع، وأن يرد على هؤلاء السفهاء لدحض حججهم الواهي، .كما يجب على الحكومة أن تتصدى هي الأخرى ولا تسمح لهؤلاء السفهاء أن يدلوا بدلوهم، دون الرجوع إلى مجمع البحوث الإسلامي،. وأضاف الأطرش أنه ليس معنى أن هناك بعض الأحاديث الضعيفة في صحيحي البخاري ومسلم، أن هذا يفتح المجال للتشكيك في مجمل البخاري ومسلم الذي يعد من أصح الكتب.
6- الدكتور أحمد كريمة أستاذ الشريعة الإسلامية بجامعة الأزهر، يقول
الدكتور أحمد كريمة
إن الآراء الشاذة التي نطالعها هذه الأيام من بعض المارقين والسفهاء عن المعتقدات الدينية الصحيحة، يجب أن تواجه بالعلم والأفضل أن تواجه بعد الالتفات إليها في وسائل الإعلام، أو تناولها بالشرح والتحليل، وأشار الى أن تناول هذه الأمور ضررها أكثر من نفعها لأننا بذلك نروج لها دون قصد.
وأضاف كريمة أن تجاهل هذه التفاهات يجعلها تموت في المهد ولا تجد الفرصة للانتشار في المجتمع وقد ظهر الكثير من المواقف المشابهة في فترة ماضية وانتهت إلى لا شيء.
كما طالب بضرورة خروج علماء جامعة الأزهر الشريف ومجمع البحوث الإسلامية بردود مجحفة تغلق الباب أمام مثل هذه التصريحات المارقة.
7- الدعوة السلفية..
الشيخ عادل نصر
قال الشيخ عادل نصر، عضو مجلس إدارة الدعوة السلفية، مسئول الدعوة بالصعيد، إن وصف صحيح البخاري بالمسخرة كلام باطل، وطعن في سنن رسول الله، ويؤكد مدى الانحراف لهدم رموز الأمة، مشيرا إلى أن الإمام البخاري أحد علماء الإسلام، وكتابه أصح الكتب بعد كتاب الله، مشددا على أن الطعن فيه هو طعن في أحاديث النبي، وفى القرآن أيضا. وأضاف "نصر"، أن الله تعالى قال في كتابه الكريم: "إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ"، لافتا إلى أنه لولا السنة ما كنا لنعرف أن الصلوات خمس، ومناسك الحج وغيرها من شعائر الإسلام، مطالبا الأزهر وعلماء الأمة بالتصدي لمثل هذه الانحرافات.
الخطاب التكفيري
هذا الخطاب الذي راهن على الوجدان أكثر مما راهن على العقل، وقد كانت مراهنته على الوجدان تتم في مستويين:
الأول: مستوى استعادة الموروث، الذي هو استعادة للمعروف المألوف، خاصة أن هذه الاستعادة تشتغل على وعي يهيم على أكثر من مستوى بعبادة الأسلاف، ويقدس الماضي بمحض ماضويته، ومن جهة أخرى فإن هذا الوعي وعي يرتاب بالغريب والطارئ والأجنبي وكل ما ارتبط بها من علائق، ويطمئن إلى القريب والنسيب والمستقر والمألوف، وكل هذا يتوفر في التراث، بقدر ما يتوفر الضد منه في تجليات المعاصرة: التجليات الفكرية، والتجليات الواقعية المتمثلة في التقدم المادي، والتي بدت كأنها تنكأ الجراح النرجسية الغائرة في الأعماق.
الثاني: مستوى التضحية في الواقع المتعين، فالواقعة الإرهابية تنطوي - في تمظهرها العيني البسيط - على تضحية بطولية، أو هكذا تبدو في نظر المجتمع الساذج الذي لا يزال مأخوذا بأساطير البطولات الوهمية التي تصبح في نظره مُبجّلة، بل وربما مقدسة، حتى ولو كانت تصدر عن حماقات باذخة تقترب بأصحابها من دائرة الجنون، المهم أن الوعي العام تلقّاها بوصفها (تضحية بطولية) توحي ب (نزاهة الفكرة) ومن ثم بـ(بصوابيتها) في مجتمع شبه بدائي يخلط بين هذه (النزاهة) وتلك (الصوابية)، فكانت النتيجة أن هذه الإيحاءات بدت وكأنها تمنح الخطاب التكفيري توهّجا دعائيا قلّما حظيت به الخطابات الأخرى التي كان (تعقّلها) مصدر تبخيسٍ لها في الوعي العام.
لم تكن مفردات الخطاب التكفيري التي انطلق منها، والتي برّر بها مشروعه الإجرامي مجرد هفوات عابرة، تتأسس عليها أفعال ناشزة عن السياق العام، وإنما كانت مفردات عقائدية تأسيسية، تتمحور حولها أطروحة التدين المتطرف منذ أيام الخوارج، وإلى الآن.
أنه خطاب يعي نفسه من خلال الواقع الذي يتفاعل معه، مثلما يعي نفسه من خلال التاريخ الذي يتشر عن به، ومن خلاله (التاريخ) يحاول مواصلة ما يظنه مسيرة الحق في التاريخ، تلك المسيرة التي تتراءى له مُهدّدة بالانفصال عن الواقع، ومن ثم مُهددة بخسارة هذا الواقع الذي لم تتبلور المفردات التكفيرية في غابر الأيام إلا بوصفها وسائل للهيمنة عليه، إذ إن التحكّم في الواقع هو الغاية في نهاية المطاف.
ويمثل دفاع أعضاء المؤسسة الدينية، وغيرهم عن البخاري من هذا المنظور خطابًا تكفيريا بالدرجة فهو نفس الخطاب الذي أدى إلى طعن نجيب محفوظ واغتيال فرج فودة وتكفير نصر حامد أبو زيد ..........الخ فالمفردات المستخدمة في معركة البخاري من قبل "هؤلاء" هي نفس المفردات التي تم تفعيلها في الأحداث المشار إليها ولنأخذ أمثلة :
حينما تناشد وزارة الأوقاف وسائل الإعلام عدم استضافة شاب وجه انتقادات لكتاب البخاري وتصف من يوجه نقدا للبخاري بـ"هؤلاء الجهلة الذين لا صفة لهم سوى محاولة المتاجرة بالدين أو الزي الأزهري" وتضيف في بيان رسمي لها واصفة هذا الشاب بانه " تطاول على ثوابت الإسلام، وأنه بمثابة معول هدم كبير لأمنه واستقراره"ثم تضيف في نفس البيان" انها لا تستطيع مواجهة التشدد والتطرف بقوة وصلابة وإقناع في ظل إفساح الإعلام المجال أمام الجهلة المأجورين والمنتفعين للتطاول على ثوابت العقيدة، وما استقر في وجدان الامة، وصار معلوما من الدين بالضرورة" . أليس هذا خطابا تكفيريا يدعوا إلى العنف والتطرف، فماذا يفعل الشباب المتحمس الغيور على دينه، حينما يرى بيانًا من وزارة الأوقاف يتهم رجلًا بأنه يعادي الإسلام، وأنه يتطاول على ثوابت الإسلام والعقيدة، لا لشيء سوى انه وجه نقدا لكتاب "صحيح البخاري".
مثال آخر من أعلى سلطة دينية وهو مفتي الجمهورية حينما يقول "إن التشكيك في السنة سيتبعه تشكيك في القرآن، ومن ثم التشكيك في الإسلام ذاته، لأن السنة موضحة للقرآن، فاذا نزعنا الثقة عن السنة سيتبع ذلك القرآن".
وكأن سنة الرسول صلى الله عليه وسلم تم اختزالها في كتاب "صحيح البخاري"، وكأن وزارة الأوقاف ومفتي الجمهورية لم يعرفوا بعد أنه وجهت انتقادات للبخاري وكتابه من أئمة يجلونهم ويقدرونهم مثل الإمام أحمد بن حنبل وغيره مما ذكرنا، وكأنهم أيضًا لا يعلمون قولة الإمام مالك "كل يؤخذ منه ويرد إلا صاحب هذا القبر" ومثال ثالث وهو قول الدكتور أحمد عمر هاشم " إن التشكيك في كتاب الإمام البخاري هو جزء من حملة يقوم بها أعداء الإسلام للنيل من السنة وإنكارها" ويضيف في نفس السياق "إن هؤلاء مفسدون ومارقون، وأنهم شرزمة تحاول أن تصب كيدها عبر بعض وسائل الإعلام" فحين نصف شخصًا ما أو جماعة بأعداء الإسلام وندعي أننا لسنا إرهابيين فمن يكون هو الإرهابي أم يريد الدكتور احمد عمر هاشم تطبيق الآية " وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَمِنْ رِبَاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللَّهِ وَعَدُوَّكُمْ " الأنفال 60، وتصبح كلمته هذه دعوة صريحة لقتل شاب مشكلته الوحيدة أنه يفكر ويجتهد وقدم نقدًا لكتاب البخاري، أم يريد السيد الدكتور عمر هاشم تطبيق آية المفسدون في الأرض على من يجتهد في دينه وينتج رأي مخالفا لرأيه؟ أليست الأمثلة تؤكد وجود خطاب تكفيري في مؤسسة الدين الرسمية؟ ناهيك عن توافر مثل هذا الخطاب بكثافة أكبر خارج المؤسسة.
إن الايمان العميق بصلابة الإسلام وقوته في نفوس الناس كلما تأسس على " العقل " وقوة الحجة، وضعفه في المقابل وتهافته كلما اعتمد على مجرد التسليم والإذعان، إن الإسلام هو الدين الوحيد من بين الأديان المُنزلة الذي يعطى لإيمان العقل أولوية قصوى، وينحاز له ضد " التقليد " والتمسك بأهداب الماضي وعبادة ما كان عليه الآباء والأجداد، فالعقل هو السبيل الوحيد لـ"العلم" الذي هو بدوره الأساس المتين الذى تتأسس عليه "الهداية " و لأهمية وأصالة دور العقل في تأسيس الإيمان والهداية ربط الإسلام ربطًا محكما بينه وبين "الاجتهاد " ولم يجعل الوصول إلى "الصواب"ـ ناهيك عن الوصول إلى "الحقيقة" التي هي ضالة المؤمن ـ شرطًا لإجازة الاجتهاد ومكافأته، لقد أجاز الإسلام الاجتهاد " الخطأ " وكافأه "من اجتهد فأخطأ فله أجر"، ذلك أن الخطأ هو السبيل لبلوغ الصواب في مجال التفكير الحر، بلا خوف، ولا عوائق، ولا مناطق آمنة كما يريد البعض.
إن " دينا يحرص على التفكير الحر بمكافأة الاجتهاد "الخطأ" لهو دين واثق من نفسه، وهو دين يمنح المؤمن به ثقة وجسارة في الاجتهاد وجرأة في البحث والتفكير لا تبالي بغضب الغاضبين ولا تعصب المتعصبين "
نقد البخاري حديثا
في العصر الحديث ارتفعت الدعوة لتنقية التفاسير القرآنية مما حفلت به من إسرائيليات وأساطير وخرافات، فطالب الشيخ عبد المنعم النمر، وزير الأوقاف الأسبق، في بحث له في مجلة العربي (التفسير والمفسرون – عبد المنعم النمر- مجلة العربي – 10/ 1969 ص 20:24) بتنقية التفاسير وطبع النسخة المنقحة، وعدم طبع النسخة القديمة وإيداع نسخها دور الكتب والجامعات بحيث لا يطالعها إلا البُحَّاث أو طلبة الدكتوراه.
كما تنبه الشيخ محمد الغزالي السقا فى أواخر حياته إلى التأثير الضار لكثير من الأحاديث، وأنه يجب تنقية المراجع الإسلامية منها وجر ذلك عليه عداوة التقليديين ونشر عدد كبير من الكتب ضده.
1- جمال البنا
جمال البنا
قام المفكر الإسلامي جمال البنا بنشر كتاب عن نقد البخاري ومسلم معا عنوانه "تجريد البخاري ومسلم من الأحاديث التي لا تلزم" ويقول جمال البنا حول هذا الكتاب "ولكي لا يكون كلامنا عامًا يفقد فاعليته وضعنا اثني عشر معيارًا يمثل كل منها معلمًا مشهورًا من معالم القرآن ويُعد أي حديث يخالف معلمًا منها "لا يُلزم"، وهو اصطلاح اصطنعناه لنخرج من متاهات "التخريج"، والتي لا تعنينا لأننا جعلنا نقطة الالتزام أو عدم الالتزام هي اتفاق متن الحديث مع المعايير القرآنية، واتباع هذا المنهج وتطبيقه على كل أحاديث البخاري حديثاً حديثاً مكنا من استبعاد 635 حديثاً لا تـُلزم، علمًا بأننا لم نتعسف، بل آثرنا ترك أحاديث كان يمكن إدراجها فيما لم يُلزم حتى لا ندع تعلة لمن يقولون إننا نتحيف على السُـنة " ومن المعايير التي وضعها جمال البنا في هذا الكتاب هو الغيب على أساس أن الغيب هو ما استأثر الله بعلمه، وأن الرسول صلى الله عليه وسلم أكد أنه لا يعرف الغيب ووجود أحاديث عن الغيب غير ما جاء في القرآن يُعد مخالفة، فضلاً عن أنه يدعم في تكوين عقلية تختلط فيها الخرافة بالحقيق،. مثل أحاديث عذاب القبر والتي قامت عليها ضجة مؤخرًا، والجدير بالذكر في هذا المقام أن الشيخ الشعراوي قد أكد أن عذاب القبر يقتصر على العرض دون توقيع أي عذاب، ويستطرد جمال البنا حول موضوع البخاري فيقول وبالنسبة للقرآن فإن البخاري تضمن أحاديث عديدة بعضها عن تفسير القرآن، وبعضها عن أسباب النزول وبعضها عن النسخ.. إلخ".
ولعل أبرز ظاهرة فيها أنها تخصيص لعموم ما جاء به القرآن، ومثل هذا التخصيص مرفوض، فلو أراد القرآن تخصيصًا لخصص، وهذا التخصيص يُعد حجرًا على القرآن وتضييقاً من سعته، ثم هو مرفوض لأن دور الرسول ــ صلى الله عليه وسلم ــ هو "البيان"، والتخصيص غير البيان، وكذلك تحديد أسباب نزول آيات، ودعوى النسخ، فهذه كلها لا تدخل في باب البيان الذي هو الشرح لإيضاح معاني الآيات، ولا يدخل في هذا إضافة أي جديد أو انتقاص المعاني، والحق أن الذي يفسر مقصود القرآن هو السياق القرآني نفسه دون أي إضافة عليه أو انتقاص منه. كذلك جاءت أحاديث تناقض ما جاء فى القرآن الكريم عن حرية الفكر والاعتقاد، وتناقض كذلك عمل الرسول الذي ارتد على عهده عدد كبير فما تعقبهم بعقوبة أو أمرهم باستتابة، ومن هنا استبعدنا حديث عكرمة "من بدل دينه"، وهذا الحديث لم يأت في مسلم وانفرد به البخاري لأن مسلم لم يدخل حديث عكرمة في صحيحه، أما أحاديث "أُمرت أن أقاتل الناس" .. إلخ، فإنها تتناقض مع ما أمر الله به الرسول من أن يبلغ "فَمَنْ شَاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شَاءَ فَلْيَكْفُرْ"، والآيات العديدة التي تحصر مسئوليته في البلاغ، وليس في الإيمان، بل لقد قال الله "إِنَّكَ لا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ"، كما أن تحقيقاً لرواة هذا الحديث جاء به أحد المتخصصين في هذا الفن وتقدم في المقدمة الثانية لهذا الكتاب أظهر أن في رواته جميعًا كلامًا.
2- سامح عسكر
سامح عسكر
في دراسة له حول البخاري وصحيحه والمعنونة بـ"صحيح البخاري كان ردًا على الأحناف" يستعرض فيها طبيعة المعركة بين مدرسة الرأي بقيادة أبي حنيفة ومدرسة النقل بقيادة ابن حنبل والتي كانت السبب المباشر في اخراج صحيحي البخاري ومسلم، واقتصرت الدراسة على عرض لأهم 10 رجال رواة للحديث عند البخاري وفي عصره وتوضيح طبيعة عدائهم لأبي حنيفة والأحناف، وأن البخاري كان فارسًا في هذه المعركة وقد استخدم فيها لنصرة فريق النقل على فريق الرأي فالأئمة الشافعي ومالك وابن حنبل كانوا أيضاً ممن يطعنون في أبي حنيفة، وقد شاعت مواقفهم في كتب التاريخ والطبقات حتى وصلت بعض الأخبار عنهم بتكفير أبي حنيفة وخروجه من الملة، وهذا يعني في مضمونه صراعاً بين تيار الحديث الذي بدأه مالك وأسسه الشافعي ثم ختمه ابن حنبل بمذهب حديثي وفقهي متكامل...وبين تيار الرأي الذي كان يمثله العقلاء والمفكرون وفقهاء الأحناف، هذا الصراع هو الذي جعل أهل الحديث يضعون الأحناف بجوار الجهمية والفلاسفة والمرجئة بل وصل لاتهام الأحناف بالزندقة..
والسبب أن فقه أبي حنيفة كان قائماً على الفكر والنظر دون التقيد بنصوص الرواية، ولهم أدلتهم في ذلك منصوص عليها في القرآن، ولكن لم يُعجِب ذلك أهل الحديث فردوا على أهل الرأي بتأليف كُتب الحديث كان فيها صحيح البخاري جزء من الحملة الموجهة ضد الأحناف،ويمكن تلمس ذلك في أبواب ومتون البخاري التي جاءت في سياق الرد الفقهي على أهل الرأي، وكذا أن البخاري كان يرد بقوله.."قال الناس أو قال هؤلاء".. بمعنى أنه دَوّن كتابه للرد الفقهي والعقدي على من أشار إليهم.
ختام ابن حنبل لهذه المرحلة كان إيذاناً بسطوع المذهب الحنبلي في الشرق، وهو ما تحقق بالفعل ومعه ظهرت مصطلحات البدعة والابتداع والفرق الضالة وحاربوا بها كل مفكر، وأصبح كل من يخرج عن الحديث بالعموم وابن حنبل بالخصوص هو مبتدع مشكوك في دينه، وقد حدثت إرهاصات ذلك في قتل المفسر والمؤرخ الكبير الإمام الطبري بمجرد خلافه مع الحنابلة، حدث ذلك في أوائل القرن الرابع الهجري وهو العصر الذهبي لغُلاة الحنابلة في الشرق، أي أن تأليف كتب الحديث جاء في المجمل لصالح الحنابلة والمقلدين، وصبت في اتجاه آخر مخالف لتعاليم وقيم الإسلام، فكل من أراد القتل والذبح فالحديث يكفيه، ومن أراد أن يأكل أموال الناس بالباطل فالحديث يكفيه..!
في المقابل كان هناك من يترصد للحنابلة في الغرب، وبالتحديد كان المالكية والأحناف والشيعة الإسماعيلية يتأهبون للانقضاض على من سرق دينهم في العصر العباسي، وظهر للمالكية من يُفتي بكُفر الحنابلة كالقاضي أبو بكر بن العربي في كتابه.. "العواصم من القواصم" وبذلك تحول الصراع ما بين مدرسة الرأي والحديث إلى صراع من لون آخر وهو الصراع المذهبي بين أهل الحديث أنفسهم...فمادة الصراع موجودة في كل فكر وفي كل مكان، ومن يجنح للصراع في العادة لا يستطيع السيطرة عليه.
3- محمد خليفة
يقدم سامح خليفة دراسة ربما يكون عنوانها صادمًا بعض الشيء ولكنها تتميز بالعلمية والموضوعية "صحيح البخاري .. ليس بصحيح" ويقدم لنا في هذه الدراسة تحليلًا موضوعيا لإمكانية الزيادة والنقصان على صحيح البخاري، وهذا ما يثبته اختلاف النسخ المطبوعة عن بعضها البعض "لم تبدأ المنظومة المعرفية العربية في الكتابة، ولم يتم الهم بها ، وعلى استحياء ، إلا في القرن الثالث الهجري، حيث بدأ العصر الحقيقي للتدوين، والمراقب المتفحص لمخطوطات ذلك العصر لن يجد في خزائن العالم المتخصصة في حفظ المخطوطات القديمة سوى عدد محدود من المخطوطات لا يتجاوز الأربعين مخطوطة إلا بالقليل، وليس من بينها أي مخطوطة تشير إلى أنها من نظم الإمام البخاري - ت 256 هـ - والمفروض منطقياً في هذه الفترة توافر مخطوطة - أو عدة مخطوطات - بخط الإمام البخاري لتدوين الروايات التي تناقلتها الأجيال والتي أطلق عليها الجامع الصحيح والذي اشتهر بعدها باسم صحيح البخاري، والذي زعموا - زوراً وبهتاناً - بأنه أصح كتاب بعد كتاب الله، فإنه لا يصح أبدا أن نقرن النـَظم البشري التاريخي النسبي، بقول الله سبحانه وتعالى مطلق الكمال والاستدلال".
ليس هذا قدحاً أو تقليلاً من شأن الجهد الذي قام به الإمام البخاري، فهو إمام جليل مجتهد، وكانت له الريادة في جمع وتحقيق وتمحيص الأقوال المنقولة شفاهة عبر الأجيال، ونسبت إلى أن قائلها هو الرسول عليه صلوات الله وسلامه، وليت زعمهم هذا كان على الأصل الأصيل لما كتب الإمام البخاري بيده، لكن هذا الأصل لم يعد له وجود، وإنما وللأسف الشديد كانت مرجعيتهم لمخطوطات كتبت بعد رحيل الإمام البخاري بمدد أقلها مائة وخمسون عاما، والمثير للانتباه أنه لم يذكر اسم نـُسـَّاخ هذه المخطوطات المنسوبة للأئمة الأعاظم وهذا وحده كفيل بإلقاء ظلال من الشك حول مصداقيتها أو صدق ما جاء فيها، لأنها دونت بعد موتهم جميعا، أيضا لم يذكر فيها أنها منسوخة عن الأصل المكتوب بيد الإمام البخاري أو غيره - إن كان هناك أصلاً ، أصلُ مكتوب بيد البخاري - فالطبيعي والحال كذلك أن يدس على هذا الكتاب - الجامع الصحيح - ويرفع منه ويزاد علية الكثير من الإسرائيليات ومما يدعم أهواء الساسة ويكرس لظلم الحكام للرعية.
4- إسلام بحيري
اسلام بحيري
دوما ما يقدم إسلام بحيري دراساته ومقالاته حول الموضوع الذي نحن بصدده بهذه الجمل "عمدت في ثنايا مقالاتي إلى ذكر الكثير من الاستدلالات التي تؤكد أن تضعيف حديث في كتابي البخاري ومسلم أمر جائز وطبيعي يخضع لأساليب النقد العلمي ولا يؤدي لكفر ولا فسوق ولا عصيان" حيث أنه يعد من أبرز الباحثين الذين يعملون على ذلك، مع تميز مقالاته ودراساته بالحيدة والموضوعية، وله دراستان بارزتان في هذا الخصوص "البخاري ومسلم من أعظم العلماء في إخراج الأحاديث لكنهما بشر يصيب ويخطئ" والدراسة الثانية " نصوص خرافية عند الإمام البخاري في صورة حديث نبوي"، هذا غير الكثير من الدراسات التي تتبنى وجهة نظره التي تتضح من العناوين السابقة، وكذلك اللقاءات التليفزيونية والمقالات، وتلك هي الحقائق التي يؤكد عليها إسلام بحيري في معظم دراساته حول الأحاديث بشكل عام والبخاري بشكل خاص:
1- لا يجب تصديق القائلين بأن من يُضعِّف ولو حديثا واحدا في كتابي البخاري أو مسلم إنما يسعى لهدم السُنَّة، لأن ذلك القول هو أكذب الكذب، فإن السنة الفعلية والقولية بكل أنواعها ثابتة كالجبل الراسخ لا يمكن لأحد أن يهدمها أو يشكك فيها، وثباتها الذى نقصده يتخطى بمراحل كتاب البخاري أو غيره، لأن البخاري ولد عام 194 من الهجرة فهل ضاعت السُنَّة وضاع الإسلام قرنين من الزمان من قبل ولادته؟ لا بل كان الإسلام قرآنا ثابتا وسنة صحيحة منقولة قبل البخاري وبعده، فلا يخلطن الكذابون بين تضعيف حديث في البخاري وبين هدم السُنَّة النبوية، فمال هذا وتلك؟ وكيف للسُنَّة المحمدية بعلو شأنها أن يهدمها تضعيف حديث في كتاب من صنع البشر! ولو أن ذلك يهدم السُنَّة فهم إذن يتحدثون عن دين هش أوهى من بيت العنكبوت، وما الإسلام العظيم كذلك أبدا، لذا فلا يجب على العقلاء الخلط بين السُنَّة بكامل مفهومها وبين كتابي البخاري ومسلم.
2- يجب على العقلاء التخلص من آفة فكرية هامة عند الكلام عن هذين الكتابين على عظيم قدرهما، وهى آفة التعامل معهما كالقرآن العظيم من حيث الرفض والقبول، فلا يجب أن نعتقد بأي حال وتحت أي ظرف أن كتابي البخاري ومسلم هما باقة كاملة مثل القرآن فإما قبولهما جميعا أو ردهما جميعا وأنه لا خيار ثالث أمامنا، فذلك فهم عليل وقول مردود، لأن القرآن الكريم وحده هو الذى إذا ما رُدَّ منه ولو آية واحدة فكأنه رُدَّ جميعا وكُفِرَ به، ولكن كتابي البخاري ومسلم ليسا كذلك، فيجوز عقلا وشرعا رد بعض ما أخرجاه بالدليل وقبول البعض الغالب، وذلك لأن ما تضمناه بين دفتيهما إنما هو ما اجتهدوا وظنوا قدر جهدهم أنه من كلام وأفعال وأيام رسول الله، وذلك لا يعنى بالضرورة أن كله على إطلاقه صحيح لأنهم بشر يمر بهم الخطأ العارض كالسهو، ويعتريهم كذلك الخطأ المنهجي.
3- لا يعتقدن أحد بأن تضعيف أو المنازعة بتضعيف حديث في كتابي البخاري ومسلم إنما يعد كما يروج الجهلاء تكذيبا لرسول الله، فهذا محال من كل وجه، فنحن لو رأينا وسمعنا رسول الله يأمرنا لسجدنا تحت أقدامه مذعنين لأمره، ولكن الحال مع ما جُمع في الكتب يختلف عن ذلك، لأن الكلام تناقلته أجيال متطاولة لم يكونوا بالصدق ولا النزاهة والكفاءة ولا حتى الذاكرة التي تجعلنا نتيقن أن هذا الكلام أو الفعل صدر عن رسول الله إلا بالدليل، لذا فإننا حين نُضعِّف حديثا عند البخاري أو مسلم، إنما نحن نُكذِّب من نقل عن رسول الله أو حكى عنه أو عليه، ولسنا نُكذِّب المصطفى ولا نستطيع وحاشانا أن نفعل.
4- كما يجب التوضيح أنه ليس كل ما بين دفتي البخاري ومسلم كلاما قاله الرسول أو فعله أو ما يعرف في علم مصطلح الحديث أنه حديث «مرفوع لرسول الله» بمعنى أنه هو الذى قاله أو فعله، بل البخاري ومسلم وكافة المسانيد والسنن، تمتلئ بالأحاديث الموقوفة- التي تنتهى إلى صحابي -وحتى لو كان الحديث مرفوعا للرسول جاز للباحثين من خلال التقيد بقواعد القبول والرد أن يتعقبوا المتون -النصوص- والأسانيد ولا ملامة في ذلك ولا معيب.
5- - يجب إعادة تدوير وفهم الألفاظ المشهورة التي اخترعها شيوخ الضلال وأشهرها كلمات «الطعن والتشكيك»، لأن هذه الألفاظ ألصقت زورا وجهلا بمن يُضعِّف حديثا في البخاري أو مسلم رغم أن ذلك ليس طعنًا ولا تشكيكًا، فأما الطعن فهو أن يطعن أحدهم مثلا في شرف أو نسب أو عقيدة البخاري فهذا هو الطعن الذى نعلمه، ومثل ذلك ما وقع بين الإمام الذهلي وبين البخاري وكان بينهما ما كان، أما كلمة «التشكيك» فالتشكيك الذى نعلمه أن يخرج باحث ليشكك في الأصول التي استقراها العلماء حول الشروط التي وضعها لنفسه البخاري أو التي كتبها مسلم في مقدمة كتابه لقبول الرواية، وذلك للتشكيك في أصل جمع البخاري أو مسلم للأحاديث، فذلك هو التشكيك الحق، أما رد أحاديث بعينها عندهما فليس بطعن ولا تشكيك كما أشاع الجهلة هذه المصطلحات المكذوبة حتى باتت وكأنها الحقيقة.
6- والحقيقة تقول إن البخاري ومسلم من أجَلِّ علماء هذا العلم، وكانا أكثر المتقدمين والمتأخرين من العلماء عناية وحرصا في إخراج الحديث الصحيح وهذا ما يشهد به كل العقلاء، ولكن ذلك أيضا لا يخرجهما عن كونهما بشرا ممن خلق يأكلان الطعام ويمشيان في الأسواق، فلا يصح أن يكون كتاباهما قرآنا منزلا من فوق سبع سماوات، بل الحق أن أكثر ما أخرجاه من الصحيح وأقله من الضعيف المردود لمخالفته القرآن والسنة والعقل، لذا فإننا نعتقد أنه قد آن أوان تفعيل المقولة الخالدة لإمام دار الهجرة الإمام مالك: «كل يؤخذ منه ويرد إلا صاحب هذا القبر» ولا شك أن البخاري ومسلم داخلان تحت لواء هذا الكل الذى قصده الإمام مالك.
يتضح لنا مما تم تقديمه في هذه الورقة ان كل الخلافات الاجتماعية ( الاقتصادية، السياسية، الفكرية ) بين الجماعات المختلفة في تاريخ الدولة الاسلامية كان يتم التعبير عنها من خلال اللغة الدينية في شكلها الايديولوجي فلم يكن ممكنا ممارسة اي صراع على حلبة الخلاف حول قضايا التفسير والتأويل، أي النزاع على ملكية النصوص، والحرص على استنطاقها بما يؤيد التوجهات والمصالح التي تعبر عنها الجماعات المتصارعة . وكذلك ان تناول تاريخ الفكر الاسلامي بوصفة نزاعا حول " الحقيقة " يمكن حسمه، هو في الحقيقة نوع من التزييف الايديولوجي للتاريخ والفكر معا، فتاريخ الفكر ليس الا تعبيرا متميزا عن التاريخ الاجتماعي بمعناه العميق، وسيطرة اتجاه فكرى بعينه على باقي التيارات الفكرية الاخرى لا يعنى ان هذا التيار قد امتلك " الحقيقة " وسيطر بها .
فعلى سبيل المثال لا الحصر قد سيطر " المعتزلة " فترة من الزمن على حركة الفكر بمساعدة السلطة السياسية، والخليفة المأمون على قمتها، ثم حدث انقلاب فكرى في عصر المتوكل جعل السيطرة " للحنابلة " التي تم اطلاق اسم " اهل السنة والجماعة " عليها وهو اسم ذو طابع ايديولوجي واضح لأنه يعنى بدلالة المخالفة – نزع الصفة عن التيارات الاخرى المخالفة – وهذا ما يظهر الان على السطح من خلال تلك الفرق المتأسلمة ( الاخوان المسلمين، والسلفيين، والجماعة الاسلامية ....الخ ) التي تقوم بنفي الآخر المسلم وإقصائه .
كذلك فإن سيطرة اتجاه فكري بعينه لفترة طويلة من الزمن لا يعنى ان الاتجاهات الاخرى اتجاهات ضالة أو كافرة، لأن هذه الصفات الاخيرة تعد جزء من أليات الاتجاه المسيطر لنفى الاتجاهات المخالفة . وهذا ايضا ما يتم تفعيله الان من فصائل التيار المتأسلم تجاه مخالفيهم في الرأي .
إن "المستقر" و"الثابت" في الفكر الديني الراهن ينتمى في أحيان كثيرة إلى جذور تراثية هنا وهناك، قد تكون الصلة واضحة بين الآنى الراهن وبين التراث القديم (كالدعوة السلفية مثلا وارتباطها بفقه ابن تيمية ومحمد بن عبد الوهاب)، وقد لا تكون كذلك فنحتاج إلى آليات تحليل ذات طبيعة خاصة قادرة على "الحفر"، من أجل رد الأفكار إلى أصولها وبيان منشئها الأيديولوجي، وحين ينكشف الأساس الايديولوجي لبعض ذلك "المستقر " و"الثابت " تنتفى عنه أوصاف "الحقائق الثابتة" أو ما هو معروف من الدين بالضرورة".