البخاري .. معركة فكرية قديمة في ثوب جديد
السبت 18/أكتوبر/2014 - 08:51 م
طباعة
•البخاري وعصره.. حرب الحنابلة والاحناف
•منهجه في جمع الحديث .. الجرح والتعديل.
•بدايات تقديس ونقد البخاري قديماً
مدخل
كعادة المعارك الكبرى التي لا تنتهي في الفكر الإسلامي، فما تلبث معركة أن تخرج على السطح إلا وتُغلق وتنتهي دون الوصول إلى نتائج محددة، رغم ما تأخذه من مساحة زمنية تشغل فيها الرأي العام حولها، ومن هذه المعارك ما جاء من جدلٍ فكري حول الإمام البخاري، وكتابه المسمى بـ"صحيح البخاري"، حيث يؤكد البعض أن الكتاب هو الأصح بعد كتاب الله، وذهب آخرون إلى أن الكتاب ينطوي على كثير من الأخطاء والتقوّل على رسول الله صلى الله عليه وسلم.
ولأن المعركة قديمة بين مدرستين في الفكر الإسلامي بشكل عام، مدرسة "الرأي"، والتي أسس لها الإمام أبو حنيفة النعمان، ومدرسة " النقل " التي تزعمها الإمام أحمد بن حنبل، في ظروف تاريخية سياسية واجتماعية لا يجب السهو عنها أو إغفالها، فإن هذه الدراسة تتعرض للرأيين بالعرض والتحليل، في محاولةٍ للوقوف على أبعاد هذه المعركة القديمة المتجددة.
البخاري وعصره
وُلِدَ الإمام البخاريُّ يومَ الجمعة 13 شوال سنة 194هـ بمدينة بخارى
بيئته العلمية وأثرها عليه
البخاريُّ كما قال عنه القسطلانيُّ أحدُ شُراح صحيحه: "قد ربا في حجر العلم، حتى ربا، وارتضع ثدي الفضل، فكان على هذا اللبا".
فلا شكَّ أنَّ أصل البخاريِّ وبيئته العلميَّة الخالصة كان له أثرٌ كبير وخطير في توجه البخاري في حياته، فأبوه إسماعيل بن إبراهيم كان من الثِّقات، سمع من مالك وحمَّاد بن زيد وابن المبارك، وأمُّه كانت من العابدات الصالحات.
وقد مات أبوه وهو في ريعان شبابه، فنشأ البخاريُّ يتيماً في حجر أمه، وكانت أمه عاقلة صالحة فدفعت به إلى طريق العلم والحديث منذ نعومة أظفاره، وقد لاحظت أمُّه أنه يمتلك حافظة فريدة، فدفعت به إلي حِلَق السَّماع وهو في سن السابعة، وقيل وهو في سن العاشرة، فكان يجلسُ إلى المعلم في الكُتَّاب حتى العصر، بعدها ينطلقُ إلي مجلس الإمام الداخليِّ من كبار محدثي بخارى، ليسمع منه الحديث ويكتبه.
طلبه للحديث
رحل البخاري بين عدة بلدان طلبا للحديث الشريف، ولينهل من كبار علماء وشيوخ عصره في بخارى وغيرها.
وروي عن البخاري أنه كان يقول قبل موته: كتبت عن ألف وثمانين رجلًا ليس فيهم إلا صاحب حديث كانوا يقولون الإيمان قولًا وعملًا يزيد وينقص.
في رحلته لطلب العلم بدأها البخاري من مسقط رأسه بخارى، وقد سمع بها من الجعفي المسندي ومحمد بن سلام البيكندي وجماعة ليسوا من كبار شيوخه ثم رحل إلى بلخ وسمع هناك من مكبن بن إبراهيم وهو من كبار شيوخه وسمع بمرو من عبدان بن عثمان وعلي بن الحسن بن شقيق وصدقة بن الفضل. وسمع بنيسابور من يحيى بن يحيى وجماعة من العلماء وبالري من إبراهيم بن موسى.
وفي أواخر سنة 210هـ قدم البخاري العراق، وتنقل بين مدنها ليسمع من شيوخها وعلمائها، وقال البخاري دخلت بغداد آخر ثماني مرات في كل ذلك أجالس أحمد بن حنبل فقال لي في آخر ما ودعته: يا أبا عبد الله تدع العلم والناس وتصير إلى خراسان قال فأنا الآن أذكر قوله.
ثم رحل إلى مكة وسمع هناك من أبي عبد الرحمن المقرئ وخلاد بن يحي وحسان بن حسان البصري وأبي الوليد أحمد بن محمد الأزرقي والحميدي.
وسمع بالمدينة من عبد العزيز الأويسي وأيوب بن سليمان بن بلال وإسماعيل بن أبي أويس.
وأكمل رحلته في العالم الإسلامي آنذاك، فذهب إلى مصر ثم ذهب إلى الشام وسمع من أبي اليمان وآدم بن أبي إياس وعلي بن عياش وبشر بن شعيب وقد سمع من أبي المغيرة عبد القدوس وأحمد بن خالد الوهبي ومحمد بن يوسف الفريابي وأبي مسهر وآخرين
احتياطه في نقد الرجال
نقد الرجال أو جرح الرُّواة من الأمور الصعبة في علم الحديث، إذ به ينقسم الحديث إلى صحيح وضعيف، وهو يحتاجُ إلى أقصى درجات التَّديُّن والتَّقوى والورع والتَّحرُّز والاحتياط والتَّجرُّد من الهوى، وعلم الجرح والتعديل من أهمِّ علوم الحديث وأكثرها شهرةً وإثارةً للجدل بين العلماء من السَّلف والخلف، والناس في غالب العصور لم يفهموا هذا العلم جيّداً، وعدُّوه من قبيل الاغتياب والخوض في الأعراض، قال ابنُ خلاد للإمام يحيى بن سعيد القطَّان: "أما تخشى أن يكونَ هؤلاء الَّذين تركت حديثَهم خصماءك عند الله يومَ القيامة، فقال: لئن يكونوا خصمائي، أحبُّ إلى من أن يكون خصمي رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم- يقول لي: لِمَ لَمْ تذُبَّ الكذبَ عن حديثي؟".
ولقد اتَّبع البخاريُّ منهجاً راقياً فريداً في نقد الرجال، دلَّ على منزلته العليا في الديانة والإخلاص والورع، فلقد كان ينتقي ألفاظ نقده بأدقِّ الكلمات التي تُحقق المراد، ولا تقدحُ في الهيئات، مثلُ أن يقولَ فيمن ترك الراويةَ عنه كلماتٍ من عينة: أنكره الناس، المتروك، السَّاقط، فيه نظرٌ، سكتوا عنه، تركوه، وهكذا. .. و من النادر جداً أن يثبت عن البخاريِّ أنه قال عن رجلٍ بأنَّه وضَّاع، أو كذَّاب، ومن أشدِّ كلمات الجرح عند البخاريِّ أن يقول: مُنكر الحديث.
وقد قال له محمد بن أبي حاتم الورَّاق: "إنَّ بعض الناس يَنقمون عليك في كتاب (التاريخ) ويقولون: فيه اغتيابُ الناس"، فقال: "إنَّما روينا ذلك روايةً لم نقُله من أنفسنا، ولا يكون لي خصمٌ في الآخرة، فما اغتبتُ أحداً منذ علمي أنَّ الغيبة تضرُّ أهلها".
طبيعة العصر السياسية
عاش البخاري في عصر المتوكل العباسي، الّذي استخدم طبقة من المحدّثين ومنحهم الجوائز في نقل الأحاديث الّتي تؤيد موقف المحدّثين أمام أهل التنزيه من العدلية والمعتزلة.
يقول الذهبي: إنّ المتوكّل أشخص الفقهاء والمحدّثين، وكان فيهم: مصعب الزبيري، وإسحاق بن أبي إسرائيل، وإبراهيم بن عبد الله الهروي، وعبد الله وعثمان ابني محمد بن أبي شيبة، فقسّمت بينهم الجوائز، وأُجريت عليهم الأرزاق، وأمرهم المتوكل أن يجلسوا للناس ويُحدِّثوا بالأحاديث الّتي فيها الرد على المعتزلة والجهمية، وأن يحدّثوا بالأحاديث في الرؤية.
فجلس عثمان بن محمد بن أبي شيبة في مدينة أبي جعفر المنصور، ووُضِع له منبر واجتمع عليه نحو من ثلاثين ألفًا من الناس، وجلس أبو بكر بن أبي شيبة في مسجد الرصافة، وكان أشدّ تقدّماً من أخيه عثمان، واجتمع عليه نحو من ثلاثين ألف (تاريخ الإسلام، وفيات عام 230 ـ 240 ; تاريخ بغداد: 10 / 66)
ولذلك فلا تعجب من كثرة روايات التجسيم والتشبيه في الصحيح، لأنّ بعض هؤلاء من رجال صحيح البخاري.
وفي عصر المتوكل (232 : 247 هجرية) ( 847 ـ 861 م) يبدأ العصر العباسي الثاني، ( 847 ـ 1258 م ) عصر ضعف الدولة العباسية كنظام سياسي، ولكن تبدأ قوة الخلافة العباسية الروحية، لذا احتاجت لكهنوت ديني قوى تعزّز به ضعف الخلفاء سياسيا، فكانت الحنبلية هي ذلك الكهنوت المناسب، وبه سيطر الحنابلة على الشارع العباسي، وكان المتوكل بسياسته في التعصب (الحنبلي) قائدا لهم، وقد صنع العباسيون والحنابلة لهم ضحايا في الداخل يوجهون نحوهم سخط العوام، ليتسلّى عوام الحنابلة باضطهادهم، لذا بدأ المتوكل باضطهاد المعتزلة والنصارى واليهود، بل وشيوخ التصوف في بداية ظهور التصوف.
ولأن الصراع الحربى كان مستعرًا بين العباسيين والبيزنطيين فقد تم تكثيف الصبغة الدينية على هذا الصراع "الدنيوي"، فأصبح بالحنبلية يعنى صراعا بين (أمة محمد) و(أمة المسيح)، وعكست هذا أحاديث الشفاعة وغيرها من أحاديث تنشر مصطلح "أمة محمد" التي سيشفَع فيها "محمد"، مع أحاديث أخرى تشرّع اضطهاد (أهل الكتاب)، وتركز في الفقه السّنى تقسيم العالم إلى معسكرين: معسكر الإسلام والسلام، ومعسكر الحرب، أو ( دار السلام) و(دار الحرب)، وأصبح من مصطلحات الفقه السّنى (الحربى) أي الذى ينتمى إلى المعسكر الآخر، تمييزا له عن (الذمي) أي المسيحي أو اليهودي من السكان داخل معسكر الإسلام والسلام بزعمهم، بهذا يتميز العصر العباسي الثاني عن الأول، وكان المتوكل هو رأس هذا العصر الثاني .
وقد ذاع صيت الإمام البخاري في عصر الخليفة المتوكل، الذي كان متعصبًا لأهل الحديث والفقهاء، وفى سبيل هذا التعصب اضطهد المعتزلة أهل العقل والنظر فأفناهم، كما اضطهد الصوفية والشيعة، وهدم ضريح الحسين في كربلاء، واضطهد أهل الكتاب من المسيحيين واليهود، وفى عهده أصدر المتوكل أول القرارات بإلزام (أهل الذمة ) بلبس الأغلال ومنعهم من ركوب الخيل سنة 235 هـ، كما أمر بهدم ضريح الحسين في كربلاء سنة 237هـ، كما حاكم شيوخ التصوف فيما يعرف بفتنة "سمنون"، واضطر الجنيد لأن يعلن ارتباطه بالكتاب والسنة ويمتنع من تدريس التصوف وعقائده.
وقد عاش في عصر المتوكل أئمة الحديث مثل ابن حنبل ومسلم وابن راهويه والشاذكونى والمديني والقواريري، ويحيى بن معين، وقد أرسل المتوكل أئمة الحديث إلى الآفاق للتبشير بآرائهم المخالفة للمعتزلة والصوفية والشيعة، وكان ذلك منذ عام 234هـ، وتعاظم في نفوذهم من وقتها إلى أن سيطر الحنابلة على الشارع العباسي يضطهدون من يخالفهم في الرأي، فأوقعوا المحنة بالإمام الطبري في أواخر أيامه، وتحكموا في حياة الناس بشعار (من رأى منكم منكرا فليغيره) وهو الحديث الذى اخترعوه ليؤكدوا به سلطانهم واستطالتهم على الآخرين، وأدى ذلك إلى بداية التراجع في العقلية والفكر، إذ تسيد الفكر السلفي ( أي أصبح سيدا ) وانحصر الصراع بينه وبين الفكر الصوفي والشيعي، وانهزمت المرجعية العقلية الناقدة للمعتزلة واندثرت بالتدريج الحركة العلمية الفلسفية التي أنجبت الكندي وجابر بن حيان والبيروني وابن سينا والرازي والفارابي، وحل محلها مرجعية كهنوتية، تنسب آراءها إلى النبي وتجعلها أحاديث نبوية ووحيًا سماويًا معصوما من النقاش والنقد، مما رسّخ الكهنوت السّنى مقابل الكهنوت الشيعي ـ وأدى بعدئذ الى ترسخ الكهنوت الصوفي وزعمه بالعلم اللدني، وبهذا أقيمت المتاريس أمام حركة العقل، تلك المتاريس التي أعيدت في عصرنا الراهن مع صحوة السلفية والتعصب الذي أرساه الخليفة المتوكل.
فطبيعة هذا العصر قد ألقت بظلالها على الإمام البخاري في كثير من مروياته وفقهه، فبعد وفاة الرسول كَثُرَت الأخبار عنه صلى الله عليه وسلم وحكاياته وأقواله، وجاءت مراحلها لأغراض متعددة كان فيها الوضع ينشط حسب الظروف الاجتماعية والسياسية والدينية، فأثناء كل معركة حربية أو فكرية أو دينية تظهر أحاديث منسوبة للرسول تنتصر فيها لأطراف معينة، وكعادة الجمهور فهو يتعامل مع هذه الأخبار بسلبية سمحت بانتشار هذه الأخبار ورسوخها كتراث ديني مقدس، وكعادة العُقلاء فقد قاوموا هذه الأخبار الموضوعة باتباع طريقين اثنين، الأول هو عدم الاعتراف بها والتحذير منها، الثاني هو تحكيم العقل وتشجيع إبداء الرأي في المسائل الدينية.
وقد سلك طريق العقل والرأي مجموعات من المفكرين والفقهاء في صدر الإسلام، وفي رد فعل طبيعي قمعتهم آلة السلطة وتيار المقلدين بالتكفير وأحياناً بالقتل أو العزل الاجتماعي، فكان كل من يُعمِل عقله في الأشياء هم تيار واحد من صفاته الزندقة والشطط، كانت من نتائج ذلك أنه وفي أولى الاختبارات الفقهية نشأت مدرسة الرأي في الكوفة على يد الإمام أبي حنيفة النعمان(80-150هـ)وجاءت هذه المدرسة امتداداً للحركة الفكرية في عصر الأمويين التي قمعت فيها السلطة تيار الجعد بن درهم (ت105هـ) وغيلان الدمشقي(ت125هـ) والجهم بن صفوان(ت128هـ)ومعبد الجهني(ت80هـ)..كلهم كانوا مفكرين ودعاة حرية ولكن قتلهم الاستبداد والعنف الديني ورموهم باتهامات وثقتها آلة التبرير بعد ذلك.
أي أن مدرسة الأحناف نشأت كرد فعل على شيوع الوضع وتحريف الدين الإسلامي، ثم نشأ تيار مُعادٍ للأحناف هو الآخر، يطالب هذا التيار بالرجوع للأحاديث التي خاصمها أبو حنيفة بشكلٍ كبير، وتوسع هذا التيار حتى شمل أئمة الفقه في أواخر عصر أبي حنيفة، وبما أن الكوفة كانت عاصمة الأحناف ومصدر قوتهم.. كانت البصرة هي عاصمة الخصوم الذين عُرِفوا بعد ذلك.. "بأهل الحديث".
أصبحت المعركة الآن بين أهل الرأي "الأحناف" وبين أهل الحديث الذين ظهروا بعد ذلك بمذاهب فقهية كانت المالكية ثم الشافعية ثم أخيراً الحنابلة، ورغم أن القوة غير متكافئة من حيث الكم والعدد إلا أن الكيف والجودة العقلية للأحناف خلقت لهم ميزة فقهية يستطيعون بها التقرب للجماهير التي تتوق إلى التيسير والبساطة، فكان على الطرف الآخر مواجهة الأحناف ومفكريهم ..فلجأوا إلى تدوين الحديث وتوسعوا في كتابتها بشكل يُقنع الجماهير، وهذا ما حدث بالفعل، ففي أواخر عصر أبي حنيفة بدأ الحديث يأخذ مرحلة التدوين بشكل رسمي بعد أن ظل لعقود متصلة شفهياً، وكان أشهر كتب الحديث التي -أسست لتلك المرحلة- هو الموطأ لمالك بن أنس(ت179هـ)،وجاء بعد ذلك الشافعي(ت204هـ) ليضع إعلاناً دستورياً فقهياً بأن الأحاديث هي المصدر الثاني للتشريع بعد كتاب الله ثم جاء ابن حنبل(ت241هـ) وابنه ليُعلنوا عن ولادة أكبر كتاب حديث بعد مالك وهو المسند.
كان مجموع ما كتبه مالك وابن حنبل حوالي 30 ألف حديث، غير ما كان مُشاعاً بين الناس ووصل إلى مئات الآلاف، وبذلك خرج الوضع عن السيطرة وانتشر الكذب على رسول الله حتى بات يُهدد ذلك العلماء وحياتهم بشكل رئيسي، فنشأت الحاجة إلى كُتب حديثية جديدة تحقق شرطين اثنين، الأول أن يتصدى فيها المحدثون للكذابين، ويستطيعون بها السيطرة على عمليات الوضع المتفشية، والشرط الثاني أن تُحقق الكُتب الهدف الرئيسي لها وهو مواجهة العقلاء وأصحاب الرأي، أو ما يُعرفون حينها بالأحناف وكانوا يصفونهم أحياناً بالمرجئة وأحياناً بالجهمية.
ثم كانت الثمرة الأولى لهذا الاتجاه هو.. "صحيح الجامع "..لمحمد ابن إسماعيل البخاري(ت256هـ)، فتمت عمليات الفلترة وتنقية موطأ مالك ومسند ابن حنبل وتصانيف أخرى بالحذف والإضافة، ثم كان تدوين ما كان يعتقده البخاري من عقائد نقلها عن شيوخه، وبعد جهد خرج صحيح الجامع بثلاثة آلاف حديث غير المكرر، ملأ فيها البخاري صحيحه بآراء فقهية مخالفة للأحناف، وكانت عبر شيوخ ورواة هم خصوم وأعداء لأبي حنيفة.. سنكشف مثالاً من ذلك في الأسطر القادمة وكيف أن شيوخ البخاري كانوا ما بين مُكفّر ولعّانٍ لأبي حنيفة، ليكون ذلك دليلاً على أن تأليف البخاري لصحيحه كان رداً على جهات فكرية بعينها، أراد المحدثون- عن طريقها- مواجهة أصحاب الرأي...
المعركة قديما.. تقديس البخاري
هناك الكثير من علماء السنة قاموا بتقديس الإمام البخاري وكتابه ( صحيح البخاري) مما أدى في النهاية إلى إضفاء قدسية خاصة للكتاب ورفعه في بعض الأحيان إلى درجة تقارب كتاب الله "القرآن" أو تتفوق عليه، خاصة لدى العامة، وهنا سوف نعطي بعض الأمثلة لحالة القدسية التي فرضت على البخاري وكتابه:
1- قال القاسمي في قواعد التحديث: صحيح البخاري عدل القرآن، إذ لو قرئ هذا الكتاب بدار في زمن شاع فيه الوباء والطاعون لكان أهله في مأمن من المرض، ولو اختتم أحد هذا الكتاب لنال ما نواه، ومن قرأه في واقعة أو مصيبة لم يخرج حتى ينجو منها، ولو حمله أحد معه في سفر البحر لنجا هو والمركب من الغرق ( قواعد التحديث 250)
2- قال محمد فريد وجدي: وغلا بعضهم فرأى أن يستأجر رجالا يقرؤون الأحاديث النبوية في كتاب الإمام البخاري استجلابا للبركات السماوية تماما كالقرآن . ( دائرة معارف القرن العشرين 3/482)
3- وقال امام الحرمين الشريفين : لو حلف انسان بطلاق امرأته أن ما في كتابي البخاري ومسلم بما حكما بصحته – هي مطابقة مع الواقع – وهي مما حكاه رسول الله ( صلى الله عليه وسلم) كان حلفه صحيحا ولا كفارة عليه، لأن الامة اجمعت على صحة أحاديثهما ( شرح النووي على صحيح مسلم 1/19)
4- نقل عن أبي زيد المروزي أنه قال: كنت نائما بين الركن والمقام فرأيت النبي( صلى الله عليه وآله) في المنام، فقال لي: يا أبا زيد، إلى متى تدرس كتاب الشافعي ولا تدرس كتابي ؟ فقلت : يا رسول الله، وما كتابك ؟ قال: جامع محمد بن اسماعيل البخاري .( هدى الساري 490، إرشاد الساري 1/ 29)
هكذا كان ومازال تقديس كتاب البخاري من العلماء والعامة على السواء، وامتد تقديس هذا الكتاب حتى الآن فنجد أن بعض الأئمة والفقهاء في عصرنا يسفهون ويجهلون من حاول الاقتراب من البخاري نقدا أو تحليلا، ليس هذا فقط بل أحيانا يتهموه بالكفر .
رغم أنه لم تكن لكتاب البخاري كل هذه القدسية في العصر العباسي فقد تعرّض البخاري للنقد والاستدراك عليه، وتابع أئمة الحديث التأليف بعده مخالفين له في إثبات حديث أو نفيه. ولو كان البخاري هو القول الفصل في الدين السّنى لما جرؤ أحد على التأليف بعده، ولكن تكاثرت مؤلفات العصر العباسي في الحديث منفصلة عن البخاري مستقلة عنه .
نقد البخاري قديمًا
هناك جمع من العلماء والمحدثين والحُفّاظ، وشُراح الصحيحين الذين يعتمد أهل السنة على أقوالهم ويعترفون بعلوّ مقامهم العلمي، قاموا بنقد البخاري، فقد نقد بعض أحاديث البخاري الإمام أحمد بن حنبل وعلي بن المديني ويحيى بن معين وأبو داود السجستاني وأبو حاتم وأبو زرعة الرازيان وأبو عيسى الترمذي والعقيلي والنسائي وأبو علي النيسابوري وأبو بكر الإسماعيلي وأبو نعيم الأصبهاني وأبو الحسن الدارقطني وابن مندة والبيهقي والعطار والغساني الجياني وأبو الفضل الهروي بن عمار الشهيد وابن الجوزي وابن حزم وابن عبد البر وابن تيمية وابن القيم والألباني وكثير غيرهم، فهل كل هؤلاء العلماء مبتدعة متبعون غير سبيل المؤمنين؟!
ومن الكتب التي تضمنت نقدًا لأحاديث في البخاري كتاب "الالتزامات والتتبع" للحافظ الدار قطني، بتحقيق الشيخ مقبل الوادعي، طبع دار الكتب العلمية ببيروت، وهو ينتقد حوالي مائتي حديث بعلل قادحة في نظره، وقد ركز على العلل أكثر مما ركز على ضعف الرواة.
وحاول ابن حجر في كتابه "هدى الساري" وهو مقدمة "فتح الباري شرح صحيح البخاري"أن يدفع انتقادات الدار قطني حديثاً حديثاً، وقال في ختام حديثه عنها: "أكثرها الجواب عنه ظاهر القدح فيه مندفع، وبعضها الجواب عنه محتمل، واليسير منه في الجواب عنه تعسف".
وضعَّف العقيلي عددًا من أحاديث صحيح البخاري، بل ضعَّف بعض ما اتفق عليه البخاري ومسلم مثل حديث همام بن يحيى في الأبرص، ورد أبو حنيفة الحديث المروي عن أن يهوديًا رض رأس جارية بين حجرين، فأمر الرسول صلى الله عليه وسلم برض رأسه بين حجرين، وقال إنه هذيان، كما رد حديث رفع البدن عند الركوع وهناك أحاديث أخرى ردها أبو حنيفة وأوردها الشيخ أبو زهرة في كتابه "الإمام أبي حنيفة" ص 324، وكان مالك يضعف حديث غسل الإناء من ولوغ الكلب سبعًا، ويقول: "يؤكل صيده فكيف يكره لعابه"، وأهمل حديث "من مات وعليه صوم صام عنه وليه" لمنافاته الأصل القرآني "لا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى". وغير هؤلاء مثل:
1- محمد بن يحيى الذهلي:
قال ابن خلكان: محمد بن يحيى المعروف بالذهلي من أكابر العلماء والحفاظ وأشهرهم، وهو أستاذ وشيخ البخاري ومسلم وأبي داود و الترمذي والنسائي وابن ماجة، (وفيات الأعيان لابن خلكان 4، 282 ترجمة الذهلي). قال الكلاباذي الإصبهاني في كتابه الجمع بين رجال الصحيحين في ترجمة الذهلي: روى عنه البخاري في الصوم والطب والجنائز والعتق وغير موضع في ما يقرب من ثلاثين موضعًا ... إنّ البخاري لمّا دخل نيسابور شغب عليه محمد بن يحيى الذهلي في مسألة خلق اللفظ وكان قد سمع منه فلم يترك الرواية عنه ولم يصرّح باسمه.
راجع: الجمع بين رجال الصحيحين، 2، 465 ترجمة رقم 1787) . وقال: أحمد بن حنبل لابنه وأصحابه: اذهبوا إلى أبي عبد الله الذهلي واكتبوا عنه. (تاريخ بغداد، 3، 416)
قال الخطيب البغدادي: " كان البخاري خلافًا لأكثر متكلّمي عصره يقول بأنّ لفظ القرآن مخلوق، ولمّا ورد مدنية نيسابور أفتى الذهلي - الذي تقلّد منصب الإفتاء والإمامة بنيسابور - قائلا ً: ومن ذهب بعد مجلسنا هذا إلى محمد بن إسماعيل البخاري فاتّهموه فإنه لا يحضر مجلسه إلّا من كان على مثل مذهبه، (تاريخ بغداد، 2، 31) (ذهب أحمد بن حنبل إلى تكفير من يقول بخلق القرآن فقال: والقرآن كلام الله ليس بمخلوق، فمن زعم أنّ القرآن مخلوق فهو جهمي كافر، ومن زعم أن القرآن كلام الله ووقف ولم يقل مخلوق ولا غير مخلوق فهو أخبث من الأوّل، ومن زعم أن تلفّظنا بالقرآن وتلاوتنا له مخلوق والقرآن كلام الله فهو جهمي، ومن لم يكفر هؤلاء القوم والقائلين بخلق القرآن وكلام الله فهو مثلهم - كافر - راجع: كتاب السنة لأحمد بن حنبل، 3، 53).
قال محمد بن يحيى: كتب إلينا من بغداد أنّ محمد بن إسماعيل يقول: بأنّ لفظ القرآن ليس قديمًا، وقد استتبناه في هذه ولم ينته: فلا يحقّ لأحد أن يحضر مجلسه بعد مجلسنا هذا، (تاريخ بغداد، 2، 31، وإرشاد الساري، 1، 38 وهدى الساري مقدمة فتح الباري، 491 واستقصاء الأفعال، 9787).
لم يذهب الذهلي بفساد عقيدة البخاري فحسب، بل كان يرى انحراف صاحبه مسلم بن حجّاج - صاحب الصحيح - عن العقيدة السليمة، ولذا طرده عن مجلسه وحرّم على الناس حضور مجلسه. (دائرة معارف القرن العشرين، 5، 292 مادّة سلم، وتذكرة الحفّاظ، 2، 589 ترجمة مسلم بن الحجاج رقم 613)، ويظهر من هذه الأقوال بأن البخاري ومسلم كانا محل رفض وطرد من قبل أهل نيسابور وعلماء بغداد وأهلها لاعتقادهما في القرآن بأنه مخلوق، وكان هذا سببًا لطردهما من نيسابور.
2- أبو زرعة الرازي:
يعدّ أبو زرعة من حفّاظ الحديث، وعلمًا من أعلام الرجال والعلوم الأخرى، قال الفاضل النووي فيه: انتهى الحفظ - حفظ الحديث - إلى أربعة من أهل خراسان: أبو زرعة و...إلى آخره (تهذيب الأسماء واللغات، 1/ 68).
قال الخطيب عن سعيد بن عمر وقال: شهدت أبا زرعة الرازي ذكر كتاب الصحيح الذي ألّف مسلم بن الحجّاج ثمّ المصوّغ على مثاله - صحيح البخاري - فقال لي أبو زرعة: هؤلاء قوم أرادوا التقدّم قبل أوانه فعلموا شيئا ً يتسوقون به، ألّفوا كتابا ً لم يسبقوا إليه ليقيموا لأنفسهم رئاسة قبل وقتها. وأتاه ذات يوم - وأنا شاهد - رجل بكتب الصحيح من رواية مسلم فجعل ينظر فيه فإذا حديث عن أسباط بن نصر، فقال أبو زرعة: ما أبعد هذا من الصحيح يدخل في كتابه أسباط بن نصر، ثم رأى في كتابه قطن بن نصير فقال لي: وهذا أطمّ من الأوّل. (تاريخ بغداد، 273)
وذكر الذهبي قصّة أبي زرعة ولكنّه أتى بكلمة يتسوّقون - يتاجرون - بدلاً عن كلمة يتشوّفون - يتظاهرون - (ميزان الاعتدال، 1، 126 ترجمة أحمد بن عيسى المصري التستري رقم 507).
3- النووي:
قال النووي في مقدمة شرحه على صحيح مسلم: وأمّا قول مسلم - وادّعاؤه في صحيحه بأنّ ليس كلّ شيء صحيح عندي وضعته فيه فحسب، بل جمعت في كتابي الصّحيح كلّ ما اتّفق الجمهور على صحته - فمشكل فقد وضع فيه أحاديث كثيرة مختلف في صحّتها لكونها من حديث من ذكرناه ومن لم نذكره ممّن اختلفوا في صحّة حديثه. (مقدمة شرح صحيح مسلم للنووي، 16)
4- ابن حجر:
قال ابن حجر: وعدّة ما اجتمع الناس - على قدحه من الأحاديث - ممّا في كتاب البخاري وإن شاركه مسلم في بعضه مائة وعشرة حديثًا منها ما وافقه مسلم على تخريجه وهو اثنان وثلاثون حديثا ً. (هدي الساري مقدمة فتح الباري، 345) وجاء في مقدمة فتح الباري: فقد تناول جماعة من المحدثين وعلماء الرجال أكثر من ثلاثمائة من رجال البخاري فضعّفوهم، وأشار - بعد سرد أسمائهم - إلى حكاية الطعن والتنقيب عن سبب ضعفهم. (هدي الساري مقدمة فتح الباري، 382)
5- الباقلاني:
أنكر القاضي أبو بكر الباقلاني صحّة حديث صلاة النبي (ص) على جنازة عبد الله بن أبي، واعتراض عمر عليه (ص) - الحديث الذي رواه الصحيحان -، وقال إمام الحرمين: لا يصحّحه أهل الحديث، وقال الغزالي في المستصفى: الأظهر أنّ هذا الخبر غير صحيح، وقال الداودي: هذا الحديث غير محفوظ، (فتح الباري، 8، 272)
6- ابن همام:
قال كمال الدين بن همام في شرح الهداية: وقوله من قال: أصحّ الأحاديث ما في الصحيحين ثم ّ ما انفرد به البخاري ثم ما انفرد به مسلم، ثم ما اشتمل على شرط أحدهما... تحكّم وباطل لا يجوز التقليد فيه، (أضواء على السنة المحمديّة، 312)
والنتيجة التي قد نخرج بها من تلك المعركة حول قدسية البخاري ونقده أن الفريقين كانا يدافعان عن مصالحهما السياسية والاجتماعية، وأن هذه المعركة كانت في المقام الأول معركة سياسية وليست دينية كما هو الحال اليوم، فمعركة البخاري ليست بجديدة بينما هي كمثيلاتها من المعارك التي لم تحسم في الفكر الإسلامي، والأقدمون قاموا بنقد البخاري ومناقشته بآليات عصرهم ومدى تطورهم في العلوم وبالقياسات الخاصة بهم، كذلك من دافع عن البخاري وقدسه، لكنا اليوم ننطلق من تطور هائل في مجال الدراسات اللسانية واللغوية، كذلك تطورت مناهج النقد، حتى تلك المناهج التي تتناول الأحاديث "الجرح والتعديل وعلم مصطلح الحديث وغيره" تلك المناهج والعلوم لم تكن موجودة في عصر البخاري، وقد ناقش الكثير من المحدثين "البخاري" فاعترض عليه الكثير وقدسه الكثير وبنظرة فاحصة على كلا الفريقين نجد أن من يدافع عن البخاري ويقدسه هم الفريق الذي عرف قديما "بالنقل"، أي هؤلاء الذين دوما ما يقدسون الماضي ويعيشون فيه ويريدون العودة إليه، يتساوى في هذا من هم داخل المؤسسة الدينية الرسمية أو من هم خارجها، والفريق الآخر هو فريق"العقل" الذي يعطي للعقل الحق في القبول أو الرفض، ويقوم بعرض كل الأشياء على العقل وما يقبله العقل فهو المقبول وما يرفضه العقل يجب رفضه ومن بين هؤلاء رغم اختلاف مناهجهم ومذاهبهم "جمال البنا، أحمد صبحي منصور، محمد عبد الله نصر، إسلام بحيري، حسام الحداد .... وغيرهم الكثير .
تابعوا معركة البخاري الجزء
الثاني وفيه:
· المعركة حول البخاري حديثاً.
· الأزهر يشارك في "هالة
تقديس" البخاري.
· أهم الانتقادات الموجهة للبخاري.