فواز طرابلسي "للكلمة : انتفاضة لبنان ضد نظام مابعد الحرب الأهلية
الأربعاء 22/يناير/2020 - 01:55 م
طباعة
روبير الفارس
نشرت مجلة الكلمة في عددها الجديد – يناير 2020 – حوار مع الباحث والكاتب اللبناني، فوّاز طرابلسي حول الانتفاضة اللبنانية، وما حملته من ظواهر وأشكال للتعبير، وابرز مستجداتها واجري الحوار علاء الدين العالم وخلاله اكد طرابلسي علي إن الانتفاضة الشعبية الحالية تشكل فصلاً جديداً من تاريخ لبنان، بمعنيين اثنين: الأول، أنه يشكل سابقة تاريخية من الثورة على سلطة ونظام غير مسبوقة في تاريخ لبنان. والثاني، أن هذه الانتفاضة قد قطعت الصلة بفصل من تاريخ لبنان المعاصر هو نظام "إعادة الإعمار"، بعيد الحرب الأهلية، وقد دام ثلاثة عقود من الزمن. وبات من المؤكد أن ما قبل 17 أكتوبر 2019 لن يكون مثل ما بعده.
وقال ما يجري هو حراك شعبي تثور فيه فئات واسعة من الشعب اللبناني في معظم مناطقه ضد النظام الاقتصادي والاجتماعي والسياسي والقيمي الذي أنشئ بعد الحرب. وهو نظام قام على شراكة حميمة بين السلطة والثروة، متمثلة بزعماء ميليشيات الحرب من جهة، والمسيطرين على النظام الاقتصادي من مصرفيين ومستوردين وعقاريين من جهة ثانية. وقد ساده الخلط بين المال الخاص والمال العام، وما نتج عنهما من فساد عميم. وهذه من علامات ونتائج الاقتصاديات النيوليبرالية. لم تجد هذه الطبقة الحاكمة اقتصادياً وسياسياً أكثر من التحوّل من الليبرالية المطلقة لما قبل الحرب إلى النيوليبرالية المطلقة، وكأن ليبرالية ما قبل الحرب لم تكن مسؤولة بشيء عن الفروقات المناطقية والطبقية، أو عن الاحتقان الاجتماعي الذي غذّى التمييز والتوتر الطائفيين للتضافر على تفجير الحرب. لدينا الآن اقتصاد تضخمت فيه قطاعات المال والاستيراد والعقارات، وسوق شديدة التمركز الاحتكاري، اقتصاد ينتج العاطلين عن العمل في ظروف تتقلّص فيها فرص العمل الخارجية، أو يقل مردودها. جرى تثبيت العملة بناء على مديونية عالية، أُنفقت على الإعمار والبنى التحتية على أمل تدفق رأس المال، وتحويل بيروت إلى مركز مالي وتجاري بناء على سراب سلام عربي - إسرائيلي مقبل.وبدلاً من رفد تثبيت العملة بتنمية القطاعات الإنتاجية، جرى ربط العملة المحلية بالدولار، والاتكال على عائدات العاملين في الخارج، وتدفقات رؤوس الأموال الخارجية لسدّ النقص في الميزان التجاري المختل بنسبة 1/10 بين الصادرات والمستوردات. كانت النتيجة نمو الفوارق المناطقية والطبقية بسرعة متسارعة.
وكذلك الإفقار، من الجنوب إلى الشمال، ومن بعلبك – الهرمل، مروراً بعكار والضنّية، إلى طرابلس التي تحتل مركز أفقر مدن البحر الأبيض المتوسط، ويعيش 80% من سكانها تحت خط الفقر. ونمو الفوارق الطبقية، حيث 1% من البالغين يملك 58% من الثروة الشخصية، بينما ثلث السكان مصنفون من الفقراء والعاطلين عن العمل، وأبرز مظاهر البطالة هي بطالة الخريجين.
إلى هذه الفوارق، يضاف تدهور كبير في مستوى معيشة فئات واسعة من اللبنانيين، وخصوصاً بين ذوي الدخل المحدود والطبقات المتوسطة، وهي تشكل نحو 40% من سكان البلد، جراء احتكار المواد الغذائية والدواء والمحروقات، وخصخصة خدمات الدولة، ومنها النقل، وارتفاع أكلاف التعليم الخاص، والطبابة والاستشفاء. يقابل ذلك تدهور التعليم الرسمي، والارتفاع الشاهق في أكلاف الاستشفاء، والحالة المزرية للمستشفيات الحكومية.
وقال طرابلسي هنا يجدر تسجيل أبرز مستجدات هذا الحراك:
أولاً، شمول الحراك القسم الأكبر من المناطق اللبنانية. في حراك العام 2015، نابت بيروت عن سائر لبنان في التعبير عن الغضب والرغبة في الحرية والتغيير. وفي العام 2019، تجد بيروت نفسها عاصمة هذا التحرّك، لا بدلاً عن ضائع. وقد جرى التعبير عن هذا التلاقي عبر الحواجز المناطقية والطائفية بالإصرار على نزوع وطني شامل يظلله العَلَم اللبناني.
ثانياً، تصدّع العلاقة بين أحزاب السلطة، وأقسام من جماهيرها. وكان بادياً في الدرجة الأولى بين قواعد حزب الله، وحركة أمل، ما دفع هذا وتلك إلى سحب المناصرين من الساحات منذ الأيام الأولى لبدء الحراك، بعد أن عبّروا، إلى جانب أخوتهم وأخواتهم، عن مرارة البطالة والعوز وغلاء المعيشة وإدانة الفساد وحمّلوا قياداتهم مسؤولية التستّر على الفاسدين والمفسدين، وعجزهم عن معالجة أي أزمة فعلية من أزمات البلد الاجتماعية والمعيشية. وقد عنى ذلك ضعف مشاركة المناطق الواقعة تحت نفوذ حزب الله وحركة أمل.
ثالثاً، الحضور العارم لشباب يعلنون كسر الخوف، ورفض الخضوع، لابتزاز "عودة الحرب"، الذي طالما أرهب آباءهم. وبمثله يكون الحضور المفاجئ للتلامذة والطلاب الحاملين مطالبهم بوعي ونضج نادري المثيل: نريد البقاء في وطننا، العمل حق، ونرفض نظاماً يهجّر شبابه؛ نريد وظيفة بعد التخرّج، ونرفض اضطرار أهلنا إلى التزلّف إلى السياسيين والمتنفذين؛ نرفض المناهج البالية، وكتاب التاريخ بنوع خاص؛ ونرفض تحميل أهلنا الأقساط المرتفعة في التعليم الخاص، ونطالب بدعم التعليم الرسمي، وتطويره على كافة مستوياته. وقال طرابلسي ويهمّني إثارة نقطتين تتعلقان بمسار الحراك.
الأولى، هي المفارقة العميقة بين ما أتاحه هذا الانفجار الشعبي العارم من طموحات وآمال في التغيير الجذري من جهة، وبين واقع حال بلد على شفير الإفلاس من جهة أخرى، بلد تنخفض قيمة صرف عملته الوطنية، وتفرض مصارفه قيوداً على سحب الودائع وحرية صرف العملة، أين منها أعتى الأنظمة الدولتية! يقابل ذلك ارتفاع أسعار الضروريات، بالإضافة لشنّ القطاع الخاص حملة واسعة لصرف أعداد متزايدة من العمال والأجراء والموظفين. وهذا كله في ظل ما يمليه صندوق النقد، والبنك الدولي، والاتحاد الأوروبي، ومشروع "سيدر" من سياسات تقشف وإفقار للدولة والشعب تتجسّد في ما سُمّي "الورقة الإصلاحية" الموضوعة على جدول أعمال أول حكومة سيجري تشكيلها.
وأبرز ما فيها: تبرئة الذين جنوا الثروات الهائلة بالمضاربة على حساب مديونية الدولة، من المساهمين في المصارف، وأصحاب الودائع الكبيرة، من المسؤولية في علاج الأزمة المالية، وإلقاء تبعاتها على موارد الدولة، وعلى معيشة المواطنين؛ وإلغاء المشاريع الإنمائية؛ وخصخصة شركات الدولة، بدءاً بقطاع الاتصالات، ثاني أكبر مساهم في موارد الخزينة من العائدات.
والسؤال هنا: هل أن الانتفاضة أمام فرص مناسبة للتغيير الجذري، أم أن الأولوية هي استجماع كامل قواها وزخمها وتوجيهها من أجل تنظيم مقاومة شعبية عارمة ضد هذه السياسات؟ لن أتردد في الانحياز لأولوية الخيار الثاني.
النقطة الثانية: هي أن نقطة ضعف الحراك كانت ولا تزال ما غلب على مناخاته من رفض لفكرة التمثيل والقيادة، والتشكيك بالتنظيم والحزبية والأحزاب، بسبب العداء للأحزاب الحاكمة؛ والتوكيد على أن الشعب يطالب ولا يفاوض؛ وقد منع هذا المناخ السائد من أن يبلور الحراك مطالبه أصلاً، وأن يعبّر عن نفسه بواسطة ممثلين حقيقيين عنه.
لا يوجد حراك عفوي، ولو لم توجد له قيادات معلنة، أو ممثلون منتخبون معترف بهم. في غياب ممثلين معلنين، يقوم أفراد أو مجموعات بالنطق باسم الحراك، أو بدعوة جماهيره إلى نشاطات وتحركات عن طريق الإعلام ووسائل الاتصال. إلى هذا تتساكن قوى الحراك مع أحزاب من السلطة والطبقة الحاكمة المعارضة للعهد الحالي، وهي في معظمها قد أيدت "الورقة الإصلاحية" (عدا الحزب التقدمي الاشتراكي الذي تحفّظ عليها، ولم يصوّت ضدها). وتشارك هذه الأحزاب في عدد من نشاطات الحراك، وتدّعي النطق باسمه، وتعيين أهداف له.
إن بناء استقلالية الحراك، وتوجيه زخمه للضغط من أجل أبرز مطالبه، واستعداده لمواجهة الحكومة القادمة، والاحتياط لأن تفرض السلطة من يمثله في الحكومة بالضد من إرادته، كل هذا بات يستدعي أن ينتخب الحراك ممثلين عنه يجرى اختيارهم على أوسع نطاق في جمعيات عمومية، وبالتنسيق بين ممثلي الساحات المختلفة.ولقد آن الأوان لأن تتمخّض الندوات والورشات العديدة والغنية التي انعقدت خلال ما يزيد على سبعة أسابيع عن رؤية برنامجية تتمحور حول النضال ضد سياسة التقشف، وضد إفقار الدولة والمجتمع؛ ومن أجل تحميل الذين أثروا على حساب مديونية الدولة والشعب المسؤولية الأكبر عن دفع ثمن حل الأزمة المالية. وتطبيق قوانين الشفافية، والإثراء غير المشروع، والتربّح على حساب المال العام. وأخيراً، وليس آخراً، فرض كل الإجراءات اللازمة لحماية العمل، ومعيشة الأكثرية الشعبية.والمهمتان متلازمتان، فلابد أن يتم انتخاب الممثلات والممثلين للحراك بناء على تعاقد على برنامج الحد الأدنى المشترك، والاتفاق على مساراته اللاحقة، ووسائل التحرك، والضغط الجديدة المطلوبة.
لا للعنف
واضاف طرابلسي قائلا ليست جماهير مطلع الحرب الأهلية 1975 ــ 1976 هي ذاتها جماهير الساحات والاعتصامات عبر لبنان، بعد أكثر من أربعة عقود من تلك الحادثة. السلمية هي أحد أبرز سمات الانتفاضة الحالية. وكما في كل الأحوال المماثلة، هذه السلمية تفترض وجود طرفين متوافقين، أو متواطئين، عليها: المتظاهرون والمعتصمون من جهة، وقوى الأمن والجيش من جهة أخرى. لظروف متعددة، أبرزها النزاعات داخل الفريق الحاكم، لم تجنح قوات الأمن، ولا الجيش، إلى استخدام وسائل مغالية من القوة، أو العنف، إلى الآن، خلا بعض الاستثناءات.
لكن المزاج الشعبي والعلاقة بين الحراك الشعبي والسلطة قابلان لأن يتغيّرا في واحدة من عدة حالات. الأولى، غلبة خيار القمع لدى السلطة. ثانياً، عمل القوى الحزبية المعارضة للحراك على زجّ أنصارها في مواجهات مباشرة مع المتظاهرين والمحتجين وفق صيغة باتت تسمّى "شارع ضد شارع". وقد بوشر بتنفيذ هذا الخيار في مناسبتين كان آخرها الهجمات الذي شنّتها عناصر من ميليشيات حزب الله وحركة أمل ضد متظاهرين سلميين في ساحات صور وبعلبك وبيروت، إضافة إلى أعمال عنف رافقتها أعمال تكسير وحرق، وأدت إلى بوادر توتر طائفي على عدد من نقاط التماسّ السابقة للحرب الأهلية. والثالثة، انتقال مجموعات من المتظاهرين والمحتجين أنفسهم من الاحتجاج السلمي إلى اعتماد اشكال متعددة ومتصاعدة من العنف ضد مؤسسات السلطة، أو المصارف، أو ردّاً على تعنّت السلطة، وعلى قمعها، أو تعبيراً عن نفاد الصبر، أو اليأس من استطالة الأزمة، وعدم تحقيق أي من مطالبها.