"الفيصل "تبحث عن الكتابة النسائية والمُدَوَّنة التراثية الإسلامية
فتحت مجلة الفيصل السعودية
في عددها الاخير ملف "التراث وقضاياه الإشكالية كما تراه الباحثة العربية"
حيث اكدت انه منذ نحو عقدين، ربما أكثر، برزت
باحثات ينتمين إلى أكثر من بلد عربي، قدَّمْن دراساتٍ وأبحاثًا ومقارباتٍ، تحلَّتْ
بقدر غير مسبوق من الجرأة، في مساءلة التراث وقضايا التجديد في الخطابات الاجتماعية
والنفسية والدينية، متوسلات جهازًا مفاهيميًّا يستوعب جملة المصطلحات والمفاهيم الجديدة،
التي تساعد في الخوض في مثل هذه المقاربات التي اتسمت بالعمق، والبحث عن زوايا جديدة
لقراءة ظاهرة من الظواهر التي يحفل بها التراث على تنوعه.
وخصصت «الفيصل» الملف في
هذا العدد للجهود التي تقدمها الباحثة العربية، والوقوف على التحديات التي تواجهها
في سبيل إثبات حضورها في الخريطة البحث ية بتصنيفاتها المختلفة. ومن الدراسات المهمة
التى تضمنها الملف دراسة الباحثة البنانية
(ريتا فرج ) والتى جاءت تحت عنوان" الكتابة النسائية العربية ودراسة المُدَوَّنة التراثية الإسلامية"
وجاء فيها تُعَدّ الكتابات النسائية العلمية في مساءلة وقراءة
وإعادة تأويل المُدَوَّنة التراثية ومصادرها من
المجالات المعرفية المعاصرة، وبعيدًا من الإشكاليات القديمة الحديثة المُثارة حول ثلاثية المهمش
الأنثوي والكتابة والمقدس، نظرًا لاضطلاع النساء
منذ تاريخ مبكِّر
في الإنتاج الأدبي
والمعرفة الدينية في
الحضارة العربية الإسلامية، خطابًا وتدوينًا؛ فقد
اكتسبت إصدارات الباحثات العربيات منذ عقود
زخمًا كبيرًا وحظيت
بالاعتراف، في تخصصات، يُنظر إليها عادةً
على أنها موقوفة
لـــ«علم الرجال»؛ ولا
سيما في دراسات
الإسلام ومدونته.
إذا وضعنا أيَّ ظاهرة في
الحقبة الطويلة للتاريخ، يمكن لنا أن نلحظ الحضور اللافت للنساء في المُدَوَّنة التراثية
الإسلامية وإنتاجها وشروطها. ونفترض أن «فعل الكتابة» النسائية، بقي مؤثرًا حتى إبان
الحِقَب التي غاب أو غُيِّب عنها التدوين النسائي، في زمن الاضطرابات الحضارية الإسلامية.
واكدت ريتا علي ان المسلمات قدمت إسهامات بارزة، في أبواب المعرفة
الدينية، وبرهنت دراسات معاصرة حول القرون الأولى على وجود ثمانية آلاف امرأة اضطلعن
في علوم الحديث والتفسير والفقه. وهذا يدل على الفاعلية النسائية في المعارف الإسلامية،
ولكن في الأغلب تُهَمَّشُ لصالح الشخصيات الأبوية؛ علمًا أن كتب الطبقات والتراجم غنية
بأمثلة عن المحدثات والمتصوفات والمفتيات والفقيهات، وتسجل المصادر وجود (26) فقيهة
منذ مرحلة الإسلام المبكِّر حتى القرن السابع عشر الميلادي. وعلى الرغم من أن هذا العدد
قليل، إذا قُورِن بعدد المحدثات، بسبب تقييد أدوار النساء في العلوم ومن ضمنها العلوم
العقلية، لقرون طويلة، لكنه مؤشر جندري وثقافي وحضاري كاشف. ومن الأمثلة على ذلك: دهماء
بنت يحيى بن المرتضى (ت: 837هـ/1434م)، من القرن الخامس عشر الميلادي، صنفت كتبًا منها:
«شرح الأزهار» في فقه اليزيدية، أربع مجلدات، و«شرح منظومة الكوفي» في الفقه والفرائض،
و«شرح مختصر المنتهى».وتعد هذه العالِمة الفقيهة من الأسماء القليلة التي سجلت المصادر
أسماء مؤلفاتهن وتراثهن المكتوب. والمؤسف أن العدد الأكبر من مؤلفات وكتب الفقيهات
ضاع، والمعلومات عنها قليلة. ومن الظواهر الاستثنائية في التراث النسائي الصوفي الشفاهي
المكتوب «الست عجم بنت النفيس البغدادية» «الأمية» العارفة التي أملت كتبها الثلاثة:
«شرح المشاهد» و«كتاب الختم» (مفقود) و«كشف الكنوز» على زوجها، وكتابها الأول شرحٌ
لـ«مشاهد الأسرار القدسية ومطالع الأنوار الإلهية» للمتصوف محيي الدين بن عربي (ت:
638هـ/ 1240).(١)
وقالت ريتا إن العودة إلى
التاريخ لاستحضار تأثير النساء في صناعة المعرفة التراثية الإسلامية وإنتاجها، مسألة
ضرورية لثلاثة أسباب؛ الأول: تأكيد الحضور النسائي التدويني المبكِّر، وإن كان ضئيلًا
لصالح تضخم تدوين الرجال؛ الثاني: أهمية لفت نظر الدارسين والدارسات المتخصصات في الإسلام
والجندر، إلى أن التفاوض الأنثوي مع المنظومة الأبوية، ساهم في بناء وتأسيس المُدَوَّنة
التراثية وموقع المرأة فيها؛ الثالث: لا يعرف التاريخ القفزات والنهضات المفاجئة أو
المباغتة المنفصلة عن سياقها الأبعد، فالظواهر وما يتعلق بها من تفسيرات وشروحات وإنتاجات
معرفية، ليست وليدة الذاكرة القصيرة، وإنما لها جذورها العميقة؛ وما نريد قوله في هذا
الصدد: إن فعل الكتابة النسائية في مجال المعرفة الدينية والتراثية في الإسلام ليس
ظاهرة حديثة، بل له امتداداته وطبقاته.
وحول إرهاصات الكتابة النسائية
في القرن العشرين قالت ريتا
في التاريخ المعاصر، تبرز
نظيرة زين الدين (1908- 1976م) داعية حق المرأة بالاجتهاد في وجه الغلبة الفقهية البطريركية،
وكانت رائدة في دعوتها؛ إذ سبقت المنضويات في الحركة النسوية الإسلامية التي تبرز فيها:
آمنة ودود، وأسماء برلاس، ورفعت حسن، وأميمة أبو بكر، وعزيزة الهبري، وميسم الفاروقي،
وزيبا ميرزا حسيني وغيرهن؛ فهي أول امرأة قدمت تفسيرًا نسائيًّا معاصرًا للقرآن؛ ونادت
بـــ«المساواة القرآنية» بين الجنسين، فدرست هذه القضية الحيوية في كتابها «السفور
والحجاب» الذي أثار عند صدوره عام 1928م ردود أفعال علماء الدين الإسلامي؛ بسبب ما
تضمنه، وهو ما دفعها لإصدار «الفتاة والشيوخ» (1929م)؛ ردًّا على مهاجمي كتابها الأول،
وعلى رأسهم الشيخ مصطفى الغلاييني صاحب «نظرات في كتاب السفور والحجاب».
تظهر في مجال الكتابة النسائية
العلمية المنهجية المعاصرة، الأكاديمية والباحثة التركية نابيا أبوت (1897- 1981م)
التي بدأت بكتابة أبحاثها ومقالاتها في الإنجليزية حول تاريخ المرأة المسلمة بدءًا
من عام 1941م، وقد نُشِر لها مقالان: «ملكات العرب قبل الإسلام» و«النساء والدولة إبان
ظهور الإسلام»، وفي العام التالي أكملت ثلاثيتها عن النساء في بداية العصر الإسلامي،
التي ضمت كتابي «النساء والدولة في صدر الإسلام» و«عائشة حبيبة محمد». في 1946م، نشرت
«ملكتان من بغداد: والدة هارون الرشيد وزوجته» وهو الكتاب الوحيد المنقول إلى العربية
تحت عنوان: «المرأة والسياسة في الإسلام، نحو دراسة نموذجية في العصر العباسي: الخيزران
أم الرشيد وزبيدة زوجته (تعريب: عمر أبو النصر، دار بيبيلون، لبنان، 1969م).
في الفضاء العربي اشتغلت
باحثات ودارسات على المُدَوَّنة التراثية، تأريخًا وتأويلًا ونقدًا وتفكيكًا. يختلف
انتماؤهن ومناهجهن، تبعًا لأوضاع تشكل وعيهن بالنصوص وأدواتها وخلفيتهن الأكاديمية،
وكلما اقتربنا زمنيًّا يرتفع الخطاب النسوي النقدي للمصادر التراثية في الفقه والحديث
والتاريخ والسير.
وحول الكتابات النسائية
حول المُدَوَّنة التراثية… اتجاهات ونماذج
اقترحت ريتا تصنيف الكاتبات العربيات المشتغلات على المُدَوَّنة
الإسلامية التراثية ضمن ثلاثة اتجاهات أو فئات أساسية مفتوحة للنقاش وقابلة للتطوير؛
الأول: الاتجاه النسوي التراثي المحافظ الذي أسس عدّته المعرفية على قراءة المصادر
التراثية وتدوينها وإبراز «الأنثوي» الغائر أو المهمش فيها على قاعدة أن الإسلام أنصف
المرأة، ومن بين ممثليه –على سبيل المثال لا الحصر- الباحثة والكاتبة المصرية عائشة
عبدالرحمن (بنت الشاطئ) (1913- 1998م) التي قدمت عملًا منهجيًّا في علم التفسير، وهي
من الرعيل الأول للمفسرات العربيات اللائي اجتهدن على المنهجية الفيلولوجية.
الثاني: اتجاه النسوية
الإسلامية وفيه شقان: التوفيقي النقدي؛ والراديكالي الرافض؛ والأخير اتخذ مواقف حادة
من المُدَوَّنة الفقهية الإسلامية التي أسست –وفقًا لرأيهن- لخطاب كاره للنساء، فالإسلام
عندهن دين أبوي معادٍ للمرأة، وممثلاث هذا التيار -عمومًا- من خارج الدائرة العربية.
ونذكر أنه من بين ممثلات الاتجاه الأول «التوفيقي» في المجال العربي: أميمة أبو بكر،
وأسماء المرابط، ونادية الشرقاوي وغيرهن.سعت النسوية الإسلامية التوفيقية النقدية إلى
تأسيس قراءة مقاصدية للإسلام المصدري، عبر تقديم منهج اجتهادي، ينطلق من قاعدة عَدّ
النص الديني نصًّا مفتوحًا متعددًا بطبيعته؛ لذا فإن الدين لا يشكل عائقًا إذا ما تجاوز
المجتمع معوقاته الذاتية في ذلك، وانطلق من عَدّ التشريع، غير متقدّم على الواقع، بل
مطابق للواقع، مستخلصًا منه لا مسقطًا عليه. وهذا يعني أن العيب ليس في النصوص بل في
البشر الذين أساؤوا التفسير والفهم والتوظيف. ترى النسويات المسلمات أن نهوض الرجال
بمهمة التفسير واستنباط الأحكام قد أدى إلى احتكارهم مجال المعرفة من جهة، وصدور قراءة
كانت في أغلبها، ذكورية المنزع من جهة ثانية. ولهذا السبب يتعين على النساء اليوم،
ممارسة الاجتهاد في قضايا عدة تتصل بحياتهن مثل: الطلاق والنشوز والنفقة والشهادة والضرب
وغيرها من المسائل. تقترح الباحثات قراءات جديدة تتلاءم مع الواقع الاجتماعي المتحرك
وتوظيف علوم العصر مثل: الفيلولوجيا، والثيولوجيا النسائية، والأنثروبولوجيا، وعلم
التاريخ، وعلم الاجتماع، وعلم النفس، وغيرها من العلوم والمقاربات الحديثة
الثالث: الباحثات المتخصصات
في العلوم الإنسانية، اللاتي اعتمدن على مناهج العلوم الاجتماعية في قراءة النصوص وتفسيرها،
وجمعن بين الأدوات النقدية) أو ما يسمى «النقد البنيوي» والأوضاع التاريخية المنتجة
للنصوص في المُدَوَّنة التراثية. من بين ممثلات هذا الاتجاه: فاطمة المرنيسي، رجاء
بن سلامة، زهية جويرو، ألفة يوسف، آمال قرامي، ليلى أحمد، حسن عبود، ناجية الوريمي
وغيرهن. سنتوقف عند أنموذجين ممثلين لهذا الاتجاه؛ الأنموذج الأول: فاطمة المرنيسي،
والثاني: ناجية الوريمي.