العميد يبرز صدام الفكر التنويرى مع الإسلام السياسى فى الخمسينيات وخطاب التنوير ضد الأيديولوجيا
الجمعة 06/ديسمبر/2024 - 09:36 م
طباعة
حسام الحداد
كانت مصر والعديد من الدول العربية خمسينيات القرن الماضي، فى خضم تحولات كبرى مع صعود القومية العربية وتأسيس أنظمة سياسية وطنية، مع رغبة حثيثة فى التخلص من الإرث الاستعماري. ووسط هذه البيئة، برزت جماعة الإخوان المسلمين كقوة ذات تأثير كبير، متبنية خطاباً يروج لقيام نظام إسلامى يُعلى قيم الدين على أسس الدولة القومية. ومن بين الذين تصدوا لهذه الجماعة عميد الأدب العربى الدكتور طه حسين والذى نشر مقالا مع مجموعةٍ من المقالات فى مجلة «المصور» عام 1954، وتم جمعها لاحقاً فى كتيبٍ تحت عنوان «هؤلاء... هم الإخوان!»، ويحتوى الكتاب على مقالاتٍ ستٍ، منها المقال الذى نعرضه هنا تحت عنوان «رخص الحياة». الكتّاب الستة الآخرون هم: محمد التابعى وعلى أمين وكامل الشناوى وجلال الدين الحمامصى وناصر الدين النشاشيبي.
ويتناول مقال طه حسين الجماعة بلهجة تنم عن تخوف من قدرتها على التأثير فى المشهدين السياسى والاجتماعي، وقد استخدم لغة تتسم بالحذر والتحذير، حيث استخدم عبارات تُبرز جوانب الخطر فى أفكار الإخوان المسلمين وطموحاتهم السياسية، مما يخلق حالة من التوجس لدى القارئ. هذا الأسلوب اللغوى يعمل على دفع المتلقى لتبنى موقف دفاعى تجاه الجماعة، وجعلها تبدو كعنصر يهدد استقرار النظام العام.
ويظهر فى المقال توظيف طه حسين لألفاظ تعبر عن الصراع أو المواجهة، مثل "تهديد"، "خطر"، "سيطرة"، و"استغلال"، وهذه الكلمات ليست محايدة بل تحمل شحنة عاطفية تجعل القارئ يشعر بأن الجماعة تشكل تهديداً وجودياً.
اعتمد طه حسين على ثنائية "الدولة" مقابل "الجماعة"، حيث وضع النظام القومى والدولة الحديثة فى مواجهة جماعة دينية تسعى إلى بناء نظام بديل. يعكس هذا بناءً خطابياً يهدف إلى إقناع المتلقى بأن الدولة الوطنية هى الكيان المشروع، بينما تمثل الجماعة تهديدًا لهذا الكيان. هذا الأسلوب يندرج ضمن استراتيجية خطابية تهدف إلى التأكيد على مشروعية الدولة القومية وضرورة دعمها ضد الجماعة. كما يُظهر طه حسين جماعة الإخوان المسلمين كأيديولوجية تتناقض مع قيم الدولة المدنية ومفاهيم التحديث. يعمل هذا التأطير على وضع الجماعة ضمن إطار "المعارضة" الدائمة، التى تحمل أجندات لا تتوافق مع مصالح الشعب أو طموحاته نحو الاستقلال السياسى والاجتماعي.
استراتيجيات الإقناع والتأثير
يشكل المقال نصاً خطابياً يستهدف إثارة مشاعر القلق والتخوف تجاه الجماعة، ويستدعى فى القارئ مشاعر الولاء للوطن فى مواجهة من ينظر إليهم كقوى تقسيمية أو رجعية. هذا الأسلوب يقوى ولاء القارئ للدولة ويزيد من قناعته بأن الجماعة تهدد أمن المجتمع واستقراره.
ويتبنى طه حسين استراتيجية تلميحية للمستقبل، حيث يستخدم عبارات تستشرف سيناريوهات سلبية محتملة إذا ما توسع نفوذ الجماعة. هذا الأسلوب يخدم هدف الخطاب بإيصال رسالة واضحة إلى المتلقى مفادها أن التساهل مع فكر الإخوان المسلمين قد يؤدى إلى كارثة.
السياق السياسى والأيديولوجى وأثره فى الخطاب
يعكس المقال أيضاً تأثير الفكر القومى الذى كان سائداً فى الخمسينيات، حيث عُدَّت أى حركة تسعى لغير هدف الدولة القومية تهديداً لبنية الدولة الناشئة. ويبدو أن الكاتب تبنى هذا المنظور القومى وعكسه بوضوح فى خطابه، باعتبار أن الدولة القومية هى الحامى الحقيقى لمصالح الشعب واستقراره.
كما يبرز المقال ضمن موجة من الخطابات التى ظهرت كرد فعل على تصاعد الإسلام السياسى كقوة منافسة، حيث يُظهر المقال أن الإخوان ليسوا مجرد حركة دينية بل كيان سياسى يسعى للسيطرة على الحياة العامة. يعكس هذا أن الكاتب لم يكن معزولاً عن النقاشات الجارية آنذاك حول دور الدين فى السياسة، واستخدم المقال كمنصة لرفض طموحات الإخوان السياسية.
أثر السياق الثقافى والاجتماعى على محتوى الخطاب
لا يكتمل تحليل المقال دون فهم السياق الثقافى والاجتماعي، إذ كان المجتمع المصرى وغيره من المجتمعات العربية يشهد توتراً بين تيارات الحداثة والتقاليد الدينية. من هنا، استخدم طه حسين خطاباً يُعلى من شأن القيم الوطنية القومية فى مواجهة جماعةٍ تُصور نفسها كحاملة لمشروع ديني. وكان هذا التحليل الخطابى يدعم بقوة فكرة أن جماعة الإخوان، بتطلعاتها الإسلامية السياسية، تمثل قوى مناهضة للتطور المجتمعى الحديث، وربما كانت تعكس توجهاً ثقافياً عاماً يدعو للفصل بين الدين والسياسة.
وأخيرا يُظهر المقال أن الخطاب المستخدم ضد الإخوان المسلمين فى الخمسينيات لم يكن مجرد نقد لحركة سياسية، بل تجسيداً لصراع أكبر حول شكل الدولة والمجتمع. وقد صيغ هذا الخطاب بأسلوب يستند إلى التحذير والترهيب، حيث رسم صورة تهديدية للجماعة بوصفها كياناً مناهضاً للمشروع القومى الحداثي. يعكس تحليل الخطاب هذا الحاجة إلى حماية المجتمع من القوى التى يمكن أن تستغل الدين لأهداف سياسية، وهو خطاب كان له تأثير واسع فى تشكيل المواقف الشعبية والرسمية تجاه الحركات الإسلامية فى ذلك العصر.
ولنقرأ معا مقال عميد الأدب العربى وتحذيره لنا من جماعة الإخوان التى تعد نبتا شيطانيا فى الجسد المصري.
المقال يحمل شحنة فكرية وعاطفية تجعل القارئ يشعر بأن الجماعة تشكل تهديدًا وجوديًا
تفكيك الخطاب الإخوانى وإقناع المتلقى بأن الدولة الوطنية هى الكيان المشروع بينما تمثل الجماعة تهديدًا لهذا الكيان
رخص الحياة بقلم: د. طه حسين
لم تهن حياة الناس على الناس كما تهون عليهم فى هذه الأيام، فقديماً عرف الناس الحرب وأجروا دماءهم غزاراً فى سبيل الحق حيناً، وفى سبيل الباطل أحياناً، وقديماً عرف الناس المكر والكيد كما عرفوا البغى والعدوان، وقتل بعضهم بعضاً جهراً مرة وغيلة مراراً، ولكنهم كانوا يقدمون على ما كانوا يقدمون عليه من ذلك فى كثير من التحرج قبل أن يقدموا، وفى كثير من الندم والروع بعد أن يتموا ما أقدموا عليه. كانت الحياة الإنسانية شيئاً له خطره فقدستها الديانات، وعرفت حرمتها القوانين، ورعتها الأخلاق، وعظم أمرها المعتدون عليهم أنفسهم، فكانوا يرون أنهم حين يجترئون عليها، إنما يقترفون إثماً عظيماً.. لأنه من الآثام التى لا سبيل إلى تداركها.
فقد أتيح للإنسان أن يصلح كثيراً من خطئه ويتدارك كثيراً من ذنوبه ويمحو بالإحسان آثار الإساءة، ولكن شيئاً واحداً لم يتح له وهو أن يرد الحياة إلى من حرم الحياة، فكان القتل خطأ أو عمداً من الشر العظيم الذى يروع الإنسان ويملأ قلبه ذعراً وندماً وروعاً وإنكاراً.
وكان الناس يتحدثون عن المجرمين الذين يستبيحون القتل ولا يحسون عليه بعد اقترافه ندماً، ولا يحسون منه قبل اقترافه رهبة أو خوفاً. كانوا يرونهم شذاذاً قد أفلتوا من قوانين الطبيعة الإنسانية التى تكبر الحياة الإنسانية، وتعظم الاعتداء عليها عن عمد أو خطأ، وربما دفع بعض الناس إلى شيء من الإمعان فى إكبار الحياة حتى تجاوزوا بها حياة الإنسان إلى حياة الحيوان نفسه، يرون أن الحياة جذوة مقدسة، ولا يجرؤ على إطفائها إلا الذين برئوا من شعور الرفق والرحمة والبر والحنان، فحرموا على أنفسهم أشياء استباحها غيرهم من الناس، يحرمون ذلك على أنفسهم دهرهم كله أو يحرمون ذلك على أنفسهم وقتاً معلوماً بين حين وحين.
ولأمر ما أمعن أبو العلاء فيما أمعن من الزهد حتى أنفق أكثر حياته لا يطعم إلا ما تنبت الأرض. ولأمر ما رأى قتل الحيوان جبناً، ورأى فيه دليلاً على ضعة النفس التى تدفع إلى الاستعلاء على الضعيف، والبغى على ما لا يملك أن يدفع عن نفسه البغى والعدوان. وقد تحدث الذين ترجموا له أنه مرض مَرةً، وألح عليه المرض حتى اضطره إلى ضعف شديد، فوصف الطبيب له أكل الدجاج وامتنع هو على الطبيب، وعلى الذين كانوا يمرضونه. فلما اشتد عليه إلحاحهم أذعن لما أريد عليه، وقدمت إليه دجاجة فلم يكد يمسها حتى أخذته رعدة شديدة، فانصرف عنها وهو يقول لها:
استضعفوك فوصفوك *** هلا وصفوا شبل الأسد
يريد أن الدجاجة لا تستطيع أن تمتنع على من يريدها، فالناس يطعمون فيها ويصفونها للمرضى على حين يمنع الأسد شبله، فلا يطمع فيه طامع ولا يصفه طبيب لمريض.
فأبو العلاء يُحرج على نفسه، ويريد أن يحرج على غيره أكل الحيوان وما يخرجه الحيوان، حتى الشهد الذى تخرجه النحل، يرى ذلك ظلماً وبغياً، ويخالف بذلك ما أباحت الديانات السماوية للناس من هذا كله.
وتقديس الحياة الإنسانية هو الذى دعا الإنسان إلى إكبار الموت وما بعد الموت، وهو الذى دعا الناس إلى إعظام حرمة الجنائز مهما تكن. وقد روى أن جنازة مرت بالنبى صلى الله عليه وسلم وهو جالس مع أصحابه، فقام لها وقام أصحابه لقيامه ثم قيل له إنها جنازة يهودي، فقال: أليست نفساً.
وتقديس الحياة كذلك هو الذى دفع إلى ما شاع فى هذا العصر الحديث من إنكار عقوبة الإعدام مهما تكن جريمة من يقضى عليه بهذه العقوبة. ويرى أصحاب هذا الرأى أن الحياة أعظم خطراً وأكبر حرمة من أن يستبيح الإنسان لنفسه سلبها، ويرون أن الحياة شيء لا يستطيع الإنسان أن يمنحه فلا ينبغى له أن يسلبه.. وإنما يسلب الحياة من منح الحياة.
وكذلك أمعن الناس فى تقديس الحياة وفى إنكار البطش بها والاعتداء عليها. وما زال أمر الله قائماً بتحريم الحياة إلا بحقها وما زالت القوانين تحرم الاعتداء على الحياة وتعاقب عليه أشد العقوبات وأصرمها، ولكن الدين والقوانين شيء وما دفع الناس إليه فى حياتهم الحديثة شيء آخر. وليس من شك فى أن الناس لم يعرفوا قط عصراً هانت فيه حياة الناس كهذا العصر الذى نعيش فيه.
تخالف الدول عن أمر الدين والقوانين، فتقدم على الحرب المنكرة التى لا تعرف لحياة الأفراد والجماعات حرمة، ولا ترجو للدين ولا القوانين ولا للأخلاق وقاراً، ولا تفرق بين الجند المسلحين والمشاركين فيها والعزل الوادعين الذين لا يريدون حرباً ولا قتالاً، ولا يتمنون إلا أن يعيشوا فى دعة وسعة، يحتملون أعباء الحياة ما خف منها وما ثقل، لا يؤذون أحداً، ولا يحبون أن يريدهم أحد بالأذى. وإغراق الحرب الحديثة فى الإثم واستهانتها بالحياة واستخفافها بالمقدسات كلها وإشاعتها للموت وللهول بغير حساب، كل ذلك أهدر قيمة الحياة أثناء الحرب وأهدر قيمة الحياة أثناء السلم أيضاً.
وقد قرأت فى إحدى الصحف الفرنسية التى وصلت إلى من باريس فى هذه الأيام الأخيرة أن الفرنسيين قتلوا من أهل الجزائر سنة ١٩٤٥ بعد أن وضعت الحرب العالمية أوزارها عدداً ضخماً يبلغ المقللون له خمسة عشر ألفاً، ويبلغ المكثرون له أربعين ألفاً.
والله يعلم كم يقتل الفرنسيون من الجزائريين فى ثورتهم هذه القائمة، وكم قتلوا من التونسيين والمراكشيين، وكم يقتلون منهم أثناء هذا الصراع المتصل بين قوم يريدون أن يعيشوا كراماً وآخرين يريدون أن يستذلوهم ويتخذوهم رقيقاً، بعد أن ألغت الحضارة الحديثة الرق فيما يقول أصحابها، وضحايا الاستعمار فى الهند الصينية من المستعمرين المناهضين لهم لا يحصون بعشرات الألوف، وإنما يحصون بمئاتها، ومن يدرى كم كان عدد الذين ضحى بهم الاستعمار الإنجليزى فى شرق الأرض وغربها منذ انقضت الحرب العالمية الثانية إلى الآن؟
وكنت أفكر فى هذا كله منذ وقت طويل، وأحمد الله الذى لا يحمد على المكروه سواه، وأقول لنفسى ولكثير من الناس، إننا ما زلنا فى عافية مما يمتحن به غيرنا من رخص الحياة الإنسانية، وغلاء المال والمنافع والمطامع على حقارتها.
مصر لا تحب العنف
ونحن نصبح ذات يوم فإذا الهول يتكشف لنا كأشنع ما يكون الهول، وإذا بعض المصريين يمكرون ببعض، وإذا الموت يريد أن يتسلط على مصر كما تسلط على كثير غيرها من أٌقطار الأرض.
وإذا كل واحد منا كان آمناً أمن الغفلة الغافلة يظن أنه لن يتعرض إلا لما يتعرض له الناس الآمنون من هذه الآفات التى لا يسلطها الإنسان على الإنسان، وإنما تسلطها الطبيعة على الحياة. إنا كنا غافلين حقاً خدعنا ما عرفناه عن وطننا هذا الوادع الهادئ الكريم الذى لا يحب العنف ولا يألفه، ولا يحب أن يبلغ أرضه، فضلاً عن أن يستقر فيها.
ولم لا؟ ألم نشهد منذ عامين اثنين ثورة يشبها الجيش وفى يده من وسائل البأس والبطش ما يغرى بإزهاق النفوس وسفك الدماء، ولكنه يملك نفسه ويملك يده فلا يزهق نفساً ولا يسفك دما ولا يأتى من الشدة إلا ما يمكن تداركه، ولا يجرح إلا وهو قادر على أن يأسو، ولا يعنف إلا وهو قادر على أن يرفق، وإذا ثورتنا فذة بين الثورات لا تأتى من الأمر ما لا سبيل إلى إصلاحه غداً أو بعد غد.
كل هذا لأن مصر لا تحب العنف ولا تألفه، ولأن نفوس أهلها نقية نقاء جوها، صافية صفاء سمائها، مشرقة إشراق شمسها، تسعى فى طريقها مطمئنة كما يسعى نيلها مطمئناً ناشراً للخصب والنعيم من حوله. تضطرب فيها الضغائن والأحقاد بين حين وحين، ولكنها لا تلبث أن تثوب إلى العافية كما تثور فيها الرياح فتملأ الجو غباراً ثم لا تلبث أن تعود إلى الهدوء الهادئ المطمئن.
كذلك عرفنا مصر فى عصورها المختلفة، وكذلك رأيناها حين ثار جيشها منذ عامين فأخرج الطاغية، ولكنه أخرجه موفوراً يحيا كما يجب أن يحيا مكفوف الأذى عن مصر، لم يؤذ فى نفسه قليلاً ولا كثيراً.
واشتد على بعض أبنائها شدة يمكن أن يتداركها باللين فى يوم من أيام الصفو هذه التى تعرف كيف تملأ قلوب المصريين حباً ودعة وأمناً وسلاماً، ولكننا نصبح ذات يوم فنستكشف أن فريقاً منا كانوا يهيئون الموت والهول والنكر لإخوانهم فى الوطن ولإخوانهم فى الدين ولإخوانهم فى الحياة التى يقدسها الدين كما لا يقدس شيئاً آخر غير من أمور الناس.
ما هذه الأسلحة، وما هذه الذخيرة التى تدخر فى بيوت الأحياء وفى قبور الموتى؟ ما هذا المكر الذى يمكن، وما هذه الخطط التى تدبر، وما هذا الكيد الذى يكاد؟ لم كل هذا الشر، لم كل هذا النكر، ولم رخصت حياة المصريين على المصريين، كما رخصت حياة الجزائريين والمراكشيين والتونسيين على الفرنسيين، وكما رخصت حياة الإفريقيين والآسيويين على الإنجليز؟
يقال إن حياة المصريين إنما رخصت على المصريين بأمر الإسلام الذى لم يحرم شيئاً كما حرم القتل، ولم يأمر بشيء كما أمر بالتعاون على البر والتقوى، ولم ينه عن شيء كما نهى عن التعاون على الإثم والعدوان، ولم يرغب فى شيء كما رغب العدل والإحسان والبر، ولم ينفر من شيء كما نفر من الفحشاء والمنكر والبغي.
هيهات إن الإسلام لا يأمر بادخار الموت للمسلمين، وإنما يعصم دماء المسلمين، متى شهدوا أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله. ويرى قتل النفس البريئة من أكبر الإثم وأبشع الجرم، وإنما هى العدوى النكرة جاء بعضها من أعماق التاريخ وأقبل بعضها الآخر من جهات الأرض الأربع التى تستحل فيها المحارم وتسفك فيها الماء بغير الحق، ويستحب فيها الموت لأيسر الأمر.
جاء بعضها من أعماق التاريخ. من أولئك الذين قال فيهم رسول الله صلى الله عليه وسلم، إنهم يقرأون القرآن لا يتجاوز تراقيهم، والذين كان أيسر شيء عليهم أن يستبيحوا دماء المسلمين مهما تكن منازلهم فى الإسلام، وأن يتحرجوا فيما عدا ذلك تحرج الحمقى لا تحرج الذين يتدبرون ويتفكرون ويعرفون ما يأتون وما يدعون!! وجاءهم بعضها الآخر من هذا الشر المحيط الذى ملأ الأرض ظلماً وفساداً. من هذا القتل المتصل فى الحروب يثيرها بعض الأقوياء على بعض، وفى البطش يصبه الأقوياء على الضعفاء فى البلاد المستعمرة التى يريد أهلها الحرية ويأبى المتسلطون عليها إلا الخضوع والإذعان والسمع والطاعة يفرضون ذلك عليها بالحديد والنار.
ليس من الإسلام ولا من طبيعة المصريين
وأنباء هذا الشر المحيط تملأ الجو من طريق الراديو، وتملأ القلوب والعقول من طريق الصحف، وتثير فى نفوس الأخيار حزناً ولوعة، وفى نفوس غيرهم ميلاً إلى الشر ورغبة فيه وتهالكاً عليه.
ولم يأت هذا الشر الذى تشقى به مصر الآن من طبيعة المصريين لأنها فى نفسها خيرة، ولا من طبيعة الإسلام لأنه أسمح وأطهر من ذلك، وإنما جاء من هذه العدوى.
والخير كل الخير هو أن نطب لهذا الوباء كما نطب لغيره من الأوبئة التى تجتاح الشعوب بين حين وحين. وقد تعلم الناس كيف يطبون للأوبئة التى تجتاح الأجسام وتدفعها إلى الموت دفعا، فمتى يتعلمون الطب لهذا الوباء الذى يجتاح النفوس والقلوب والعقول فيغريها بالشر ويدفعها إلى نشره وإذاعته ويملأ الأرض بها فسادا وجورا؟
بهذا يأمر الله عز وجل فى القرآن العزيز حين يقول فى الآية الكريمة: ((وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ)).