بين الانقسام السياسي والإرهاب .. ليبيا نحو ميزانية موحدة كخطوة للاستقرار الاقتصادي

الجمعة 13/ديسمبر/2024 - 02:04 م
طباعة بين الانقسام السياسي أميرة الشريف
 
تواجه ليبيا تحديات متعددة على الأصعدة الاقتصادية والسياسية والأمنية منذ الإطاحة بنظام معمر القذافي في عام 2011، وتفاقمت هذه التحديات بشكل كبير بعد انقسام البلاد إلى حكومتين متنافستين، واحدة في طرابلس والآخرى في بنغازي، مما أدى إلى تعميق الأزمة الاقتصادية والاجتماعية.
 هذا الانقسام السياسي، الذي أضعف من قدرة الدولة على اتخاذ قرارات موحدة، أصبح أحد أبرز عوامل تفاقم الأزمة الاقتصادية، التي لا يخفى تأثيرها على حياة المواطنين الليبيين.
 في الوقت ذاته، أضاف الإرهاب والتطرف عنصراً إضافياً من الفوضى التي تؤثر على كل مجالات الحياة في البلاد، ما يجعل الحديث عن ميزانية موحدة ضرورة ملحة من أجل إعادة بناء الاقتصاد وتحقيق الاستقرار.
ومنذ عام 2016، تعيش ليبيا تحت وطأة انقسام سياسي حاد بين حكومتين، واحدة تسيطر على العاصمة طرابلس غرب البلاد، والأخرى في مدينة بنغازي بشرق البلاد، إضافة إلى مجالس وميليشيات محلية تدير شؤون مناطق مختلفة. 
هذا الانقسام أدى إلى تبادل الاتهامات بين الطرفين، خاصة حول إدارة الميزانية الوطنية، مما أضعف النظام المالي للدولة وأدى إلى تزايد العجز المالي في خزانة الدولة.
 ففي الوقت الراهن، تقوم الحكومة في بنغازي بتنفيذ ميزانيتها في المناطق الشرقية من البلاد، في حين ترفض الحكومة في طرابلس اعتماد هذه الميزانية وتصر على تطبيق ميزانية منفصلة، مما يفاقم من حدة الأزمة المالية.
وفي ظل هذه الظروف، أصبح من الصعب على ليبيا فرض سياسات اقتصادية ناجحة، إذ لا يمكن تنفيذ الإصلاحات المالية إلا بتوافق سياسي حقيقي بين جميع الأطراف.
 من جهة أخرى، يتزامن هذا الانقسام السياسي مع تزايد القضايا الأمنية، حيث تعيش ليبيا على وقع الهجمات الإرهابية والاشتباكات بين الميليشيات المسلحة، مما يؤدي إلى استنزاف موارد الدولة ويزيد من تعقيد الوضع الاقتصادي.
وتعد ليبيا من الدول التي شهدت انتشارًا واسعًا للجماعات الإرهابية بعد عام 2011، إذ أصبحت ساحة للصراعات المسلحة بين فصائل متنوعة، بعضها مرتبط بتنظيم "داعش" الإرهابي وآخرون بالقاعدة وجماعات إسلامية متطرفة أخرى، حيث استغلت هذه الجماعات حالة الفوضى والانقسام السياسي في ليبيا لتعزيز وجودها وتنفيذ عمليات إرهابية، سواء ضد المدنيين أو المؤسسات الحكومية.
ومن أبرز الأحداث التي شهدتها ليبيا في السنوات الأخيرة الهجمات الإرهابية على المنشآت النفطية، والتي استهدفت مصادر الدخل الرئيسية للبلاد، مما أدى إلى انخفاض الإيرادات النفطية بشكل كبير. 
كما أن وجود الميليشيات المسلحة في مناطق متعددة من البلاد يعطل مشاريع التنمية ويهدد الأمن والاستقرار الداخلي.
إضافة إلى ذلك، أصبحت ليبيا مركزًا لتهريب الأسلحة والمخدرات والهجرة غير الشرعية، مما يزيد من تدهور الوضع الأمني والاقتصادي.
 وبالإضافة إلى الدمار الذي تسببه الجماعات الإرهابية، فإن الانقسام بين الشرق والغرب يعقد من الجهود الأمنية لمكافحة هذه الجماعات، حيث تفتقر الأطراف السياسية إلى التنسيق الفعّال لمواجهة هذا الخطر المشترك.
على الرغم من أن ليبيا تمتلك احتياطيات نفطية ضخمة، إلا أن الانقسام السياسي المستمر وتفشي الإرهاب قد تسببا في تقليص عائداتها من النفط والغاز. 
في ظل هذه الظروف، أصبح من الضروري وضع ميزانية موحدة يتم الاتفاق عليها من جميع الأطراف لتحقيق الاستقرار المالي، إلا أن تحقيق هذا الهدف يتطلب تحقيق توافق سياسي بين الحكومتين المتنافستين في طرابلس وبنغازي، وهو ما يراه الخبراء أمرًا بالغ الأهمية لمستقبل الاقتصاد الليبي.
تظهر الأرقام الأخيرة لمصرف ليبيا المركزي عن انخفاض كبير في إيرادات النقد الأجنبي من 22.3 مليار دولار في 2023 إلى 17.1 مليار دولار في 2024، ما يعكس تدهورًا في وضع البلاد المالي.
 كما أظهرت بيانات البنك المركزي الليبي أن السيولة النقدية في البنوك التجارية قد انخفضت بشكل حاد، وهو ما يجعل من الضروري تنفيذ سياسات مالية منسقة على مستوى البلاد.
تزامنًا مع ذلك، بدأت الحكومة في طرابلس تطبيق إصلاحات اقتصادية بالتعاون مع المصرف المركزي، حيث تم اتخاذ خطوات لتفادي العجز المالي عن طريق طباعة عملة جديدة، وصلت إلى 30 مليار دينار.
 ورغم ذلك، تظل هذه الإجراءات محكومة بالإطار السياسي الحالي، حيث لا تزال هناك انقسامات بين الأطراف المختلفة بشأن كيفية تخصيص هذه الأموال وطرق توزيعها.
أعربت الأمم المتحدة وصندوق النقد الدولي مرارًا وتكرارًا عن ضرورة إقرار ميزانية موحدة، مع التركيز على منع هدر المال العام وتحقيق استقرار النظام المالي في البلاد.
 وقد أشار صندوق النقد الدولي في توصياته الأخيرة إلى أن ليبيا بحاجة إلى اتفاق على أولويات الإنفاق من خلال ميزانية موحدة معتمدة لعام 2025.
ولم تقتصر دعوات الأمم المتحدة على المسؤولين في ليبيا، بل شملت أيضًا المجتمع الدولي بأسره، الذي يصر على أن الاتفاق على ميزانية موحدة يمثل خطوة أساسية نحو تحقيق الاستقرار في البلاد. 
وقد أجرى ممثلون عن الأمم المتحدة سلسلة من المشاورات مع الأطراف السياسية الليبية، بما في ذلك رئيس مجلس النواب عقيلة صالح، الذي أكد أهمية توحيد الميزانية للحد من الإنفاق الزائد وتفادي هدر المال العام.
بالرغم من التحديات الكبيرة التي تواجه ليبيا في مجال توحيد الميزانية، فإن هناك مؤشرات إيجابية على إمكانية تحقيق هذا الهدف في العام المقبل، إذ تدفع الأمم المتحدة بقوة نحو إيجاد توافق سياسي بين الحكومتين المتنافستين في طرابلس وبنغازي، بالإضافة إلى دعم المجتمع الدولي لجهود تشكيل حكومة موحدة قادرة على إدارة شؤون البلاد بشكل فعّال. 
وعلى الرغم من أن الطريق لا يزال طويلاً، فإن الخطوات التي تم اتخاذها حتى الآن تشير إلى إمكانية بلوغ الحل السياسي والاقتصادي الذي يعيد الاستقرار لليبيا.
في النهاية، تبقى ليبيا في مفترق طرق، حيث يشكل الانقسام السياسي والتحديات الأمنية المتمثلة في الإرهاب تهديدات مباشرة للسلام والازدهار في البلاد،  لكن في ظل الدعم الأممي والإرادة السياسية المحلية، يمكن للبلاد أن تتجاوز هذه الأزمات، وتحقيق توافق سياسي واقتصادي يضعها على طريق التعافي.

شارك