صبحي موسي يبحث دور العقائد وبنية التحالف الرجعي في مازق التنوير العربي
الثلاثاء 04/فبراير/2025 - 07:04 م
طباعة

يعشق صبحي موسي البحث بهدوء شديد في واقع الثقافة العربية .ويقدم جهد متميز في هذا المضمار الشائك .فلا يكتفي بالجوانب الابداعية من شعر ورواية . بل يبحر وسط بحر الغام بمهرة فائقة .يظهر ذلك بوضوح في كتابه الاخير " مازق التنوير العربي صراع العقائد وبنية التحالف الرجعي " ومن اهم اجواء الكتاب الصادر عن دار روافد ما تعرض له صبحي عن العلمانية فكتب يقول
العلمانية واحد من المصطلحات المهمة التي أحياها وأعاد انتشارها عصر التنوير الأوربي، خاصة بعد معركة الثلاثين عاماً التي دارت بين أنصار الكنيسة الكاثوليكية وأنصار مارتن لوثر وثورته البروتستانتية، فقد أعلنت الكنيسة تحريم الكتب العلمانية الخاصة التي يكتبها ويتداولها البروتستانت، ومن ثم فالعلمانية ليست نتاج مخاض فكري طويل، ولكنها كمصطلح جاءت كنتيجة عملية لأجواء الحرب بين الكاثوليك والبروتستانت في القرنين السادس عشر والسابع عشر، وكان مارتن لوثر قد ذهب إلى أنه لابد من تحطيم ثلاثة أسوار كي يصل المجتمع الأوربي إلى الإصلاح الديني، أولها تحكم السلطة الدينية بالسلطة الزمنية، وثانيها هو احتكار السلطة الدينية الحق في تأويل وفهم النص الديني، وثالثها هو عصمة البابا من الخطأ. ومن ثم فالبروتستانتية لم تكن مجرد ثورة دينية ولكنها سياسية أيضا، فقد امتنع أنصارها عن دفع أموالهم إلى الكنيسة، وبدأت بعض الحكومات تقلص من سلطة الكنيسة عليها، استنادا إلى ضعف سلطتها في المجتمع، ومن ثم فقد كانت حرب الثلاثين عاما حاسمة للعلاقة بين الكنيسة والمجتمع، وظهر من خلالها مصطلح العلمانية الذي يعني المدنية، أي أن صاحبه ليس من رجال الإكليروس أو العاملين في المجال الديني بالكنيسة.
لكن بانتقال هذا المصطلح إلى المجتمعات العربية في العصر الحديث حدث لغط كبير، فالبعض ترجمه بفتح العين انطلاقا من أنه يعني "العَالَم"، أو غير المشتغلين بالدين حسب الثقافة المسيحية، والبعض استعمل الكلمة بكسر العين، انطلاقا من أنها تعني "العِلم". وقد رصد الباحث السوري طارق عزيزة في كتابه "العلمانية" جانبا من هذا اللغط بين المفكرين حول نشأة المصطلح ونطقه، موضحا أن نصيف نصار (وهو باحث ومفكر لبناني له عشرات المؤلفات التي حاول من خلالها التنظير لتحقيق الاستقلال الفلسفي للفكر العربي المعاصر بالمعنى القومي، عبر التنظير للعلاقة بين الفلسفة والأيديولوجيا ومفاهيم السلطة والحرية والأمة والحضور التاريخي) ذهب إلى أن العِلمانية (بكسر العين) تتخذ من المعرفة العِلمية الوضعية، كما هي ممثلة في العلوم الطبيعية، نموذجا لكل أنواع المعرفة. أما الأكاديمي السوري محمد كامل الخطيب فقد استخدم المصطلح بـ(فتح العين)، ذاهبا ً إلى أن أول استخدام له في اللغة العربية كان في منشورات الصراع الطائفي بين الكاثوليك والبروتستانت عام 1824، حيث طالب البطريرك الماروني رعاياه بعدم قراءة الكتب (العَلمانية)، أي الدنيوية، التي يكتبها البروتستانت. ثم تحدد معنى مصطلح العَلمانية فيما بعد بأنه فصل العالم عن الدين والآخرة. أما جورج طرابيشي فإنه يذهب إلى أن هذا المصطلح يعود إلى كتابات القرن العاشر الميلادي، فقد ورد هذا المصطلح في كتاب "مصباح العقل" لساويرس بن المقفع دون وجود شرح له، بما يعني أنه كان معروفا ومتداولا لدى رجال الكنيسة. وقد وردت الكلمة في سياق التمييز بين الطور الدنيوي والطور الكنسي للأسقف، إذ لابد من البتولية (عدم الزواج) في حالة العلمانية، ومن ثم فالعَلمانية بفتح العين، وتعني العالم)
وقد ذهب د. عزيز العظمة إلى أنه ليس معروفا على وجه الدقة كيف دخلت عبارة العلمانية إلى اللغة العربية، ولا كيف انتشرت في الآداب السياسية والاجتماعية والتاريخية العربية المعاصرة، إذ أن الإشارة فيها كانت إلى كلمة "مدني" ، وذلك بالإشارة إلى المؤسسات ذات الأسس اللادينية، كما في كلام فرح أنطون عن فصل السلطتين الدينية والمدنية، أو في وصف الإمام محمد عبده لخليفة المسلمين بأنه حاكم مدني من جميع الوجوه، وهناك إشارات أيضا إلى مدنية القوانين في العشرينات. وذهب العظمة إلى أن كلمة العلمانية دخلت على ما يبدو المجال العام في ذلك الوقت، وبمعناها المتداول اليوم، ثم ثبتت بهذا المعنى في أعمال كتاب مثل ساطع الحصري وغيره فيما بعد(
وفي اعتقادنا أن كلا المصطلحين يتفقان مع الفكرة التي تشير إليها العلمانية، سواء فصل مجتمع الكنيسة ورجاله عن المجتمع المدني وإدارة شئونه، أو الإشارة إلى سيادة العلم وقوانينه على المجتمع. فقد انتقل الصراع من بين البروتستانتية والكاثوليكية، ليدور بين الكنيسة الكاثوليكية وثورة العلم التي توالت خلال القرنين السادس عشر والسابع عشر. ففي الوقت الذي سعت فيه الكنيسة للالتزام بحرفية النص الديني، وتحريم إعمال العقل في المسائل الدينية، فإن العلم رأى وجوب تأويل النص في ضوء إعمال العقل، خاصة أن العلم أصبح قادرا على تقديم رؤية علمية للكون تتناقض مع الرؤية الدينية التي يقدمها ظاهر النص الديني، ففي عام 1543 أصدر كوبر نيكوس كتابه "في دورات الأفلاك السماوية" الذي يعتبر البعض تاريخ صدوره هو الحد الفاصل بين نهاية العصور الوسطى وبداية العصر الحديث، وقد أوضح فيه كوبر نيكوس أن بقاء أكبر الأجرام ثابتا على حين تتحرك حوله الأجرام الصغرى أفضل من دوران الأجسام جميعا حول الأرض، لأننا إذا افترضنا أن الأرض متحركة، وهي المكان الذي نشاهد منه الحركات السماوية، سنحصل على صورة أبسط من الصورة المبنية على افتراض أن الأجرام السماوية هي المتحركة. وبناء على ما وصل إليه كوبر نيكوس فإن الإنسان لم يعد مركزا للكون. وكان ذلك بمثابة معول هدم كبير في جداران الكنيسة التي أقامت منظومتها اللاهوتية على أن الكون يدور حول الأرض، ومن ثم فإنه يدور حول الإنسان، مما جعل الكنيسة تثور وتعلن كوبر نيكوس مهرطقا. وفي بداية القرن السابع عشر، تحديدا عام 1609 صنع جاليليو التليسكوب، ونشر كتابه "رسول من النجوم"، أعلن فيه صدق نظرية كوبر نيكوس، ليبدأ الصراع من جديد بين الكنيسة والعلم، حتى أن البابا بولس الخامس أصدر أمرا لجاليليو بعدم تعليم نظريات كوبر نيكوس أو الدفاع عنها.
تكبيل الوعي العربي
ويختم صبحي موسي كتابه المهم قائلا رأينا على مدار رحلتنا في البحث عن ملامح مأزق التنوير العربي العديد من المشكلات التي جعلت منه شكلا بلا موضوع، فضلا عن وقوفه عند حدود المرحلة الأولى من التنوير الأوربي، وهي مرحلة الثورة البروتستانتية، تلك التي لم تستطع النخب العربية بعد أن تتخطاها وتنتقل منها إلى المراحل الأهم في بناء العقل العربي، وتحرره من سطوة الماضي وترسباته، تلك التي كبلت الوعي العام للجماعة العربية تحت وطأة الإيهام بالحفاظ على الأصول والهوية، دون عناية بانتصار الإنسان لذاته وقدرته على الفعل وتحمل مسئولياته، وهو الأمر الذي كانت الحضارة الإسلامية ذاتها قد قطعت به في زمن المأمون، خاصة مع ثورة المعتزلة الفكرية في دفاعها عن حرية الفعل، لكن الجانب السلفي في هذه الحضارة تمكن من السيطرة على الحكام، والانقلاب على ثورة المأمون (الفكرية)، والعودة إلى الفكر الأشعري المتمسك بحرفية النص، وعدم قابلية تأويله إلا في أضيق الحدود، معتمدا على فقهاء عصور الضعف والخوف والرغبة في الدفاع عن الخلفاء الأوائل، بل وتنزيههم عن الخطأ وعصمتهم منه، وهو ما وضع الثقافة العربية والإسلامية طيلة الوقت في مأزق دائم، فدارات الخلافات والنقاشات القديمة بين فرق المتكلمة حولها، لكن المعتزلة استطاعوا أن ينقلوا النقاش من قداسة المسئول أو الخليفة أو الصحابي إلى مسئوليته عن فعله، ومن ثم تحديد موقفه من العقاب والجزاء، ولو كان لهذه الثورة أن تكمل مسيرتها لكانت الحضارة الاسلامية قد قطعت خطوات كبيرة نحو ثورة العقل وإقرار القانون الوضعي المستمد من القوانين الطبيعية، ولتمكن المنجز العلمي في الثقافة العربية من ارتياد أفاق أوسع وأكبر من التي ارتادها، وربما لعرفت البشرية نقل الأعضاء في القرون الوسطى، أو الوصول إلى الكواكب والمجرات الأخرى دون الاكتفاء بأن العالم مكون من سبع سموات وسبع أراضين، وربما لم يتوقف قطار الحضارة لدينا، ولا سقطنا في هوة الظلام والجمود هذه القرون، في حين انطلق قطار الحضارة الحديثة حين انطلق العقل الغربي نفسه من عقال تصوراته ومعتقداته القديمة نحو اكتشاف العالم، مؤمناً بقوانين الطبيعة وتطور الحياة فيها وفقاً لديناميكيات الحركة والثبات، وليس وفقا لقانون الكتاب المقدس، مما جعل سعى العالم العربي كله فيما بعد نوعا من اللهاث نحو اللحاق بقطار الغرب، وحين اقتنع التيار الاصلاحي بضرورة نقل علوم ومخترعات هذا الغرب إلى عالمنا العربي - على نحو ما فعل الطهطاوي – فقد أصر على تجريدها من سياقها الثقافي، ووضعها في سياق تقليدي أصولي معاد في جوهره لوجودها، رغم أنه كان مؤمنا بأنها ستفشل إن آجل أو عاجلا، فقد قال محمد عبده أن المؤسسات الحديثة التي أنشأها محمد على لن يكتب لها النجاح ولا الاستمرار؛ لأنه نقلها من بيئتها وسياقها الذي نشأت فيه إلى بيئة وسياق مغاير.
ويستطرد صبحي قائلا هكذا راهن طيلة الوقت أصحاب التيارات الدينية على فشل الحداثة لأنها لا تتفق مع جوهر إيمانهم الأصولي، وكان من الطبيعي أن يتم تكفير هذه المجتمعات بعلومها وقيمها وأفكارها، لا لشيء سوى أنها جاهلية، وتحتاج إلى أنبياء جدد مثلهم كي يخرجوها من ظلامها إلى النور، محددين طريقهم بأنه يبدأ من هجرة هذه المجتمعات التي يعيشون فيها، كما عاش المسلمون الأوائل بين كفار مكة، إلى مكان وموطن الإعداد والتجهيز، ثم العودة لفتحها كما فتح الرسول مكة، وتطهيرها كما طهر البيت الحرام من الأصنام والأوثان. هكذا ظلت مخيلة الأيام الأولى من الإسلام حاكما رئيسيا لعقل وذهن التيارات الدينية بمختلف تنويعاتها، لكن بعضها كان أقل حدة ووضوحاً، وأكثر موائمة مع السلطات وتكتلات المجتمع.
المشكلة الأكبر كانت في التيارات التنويرية نفسها، فقد نشأ التنوير كما رأينا على يد السلطة، بدءا من سلطة الحملة الفرنسية، وسلطة محمد علي الذي آمن بالتنوير، ونهض آخذا بكل أدوات بناء الدولة الحديثة، لكن نخبة المثقفين الذين ذهبوا وتعلموا في بلاد التنوير الأوربي لم يطالبوه بضرورة تغيير السياق الثقافي للمجتمع، وألا يكتفي بتعليم الحاشية والطبقة الموالية والجهاز الإداري للدولة، إذ لابد أن ينتشر النور في مختلف المدن والقرى، ويصل مداه إلى أعمق أعماق المجتمع، حينها ستكون قاعدة الهرم على أرض متسعة، ولن يتمكن تغيير الباشا ولا مجيء الاحتلال من وقف قطار التحديث الذي انطلق، وربما من الأصل لن تتعرض البلاد للاحتلال ولا الغزو بفضل الوعي الذي تراكم لدى نخبها، وتوافر قنوات توصليه لدى الجماهير، لكن لا محمد على كان مشغلاً بصناعة القنوات المؤهلة لذلك، ولا حتى نخب المثقفين الذي سعدوا وانبهروا بالذهاب إلى أوروبا، ثم العودة للعمل في حظيرة الوالي رب النعم، مستمتعين بعطاياه ومناصبه، مما ساعد على توقف قطار النهضة بتوقف رغبة محمد على فيها، ولم يخرج أحد من بيته رافضا إغلاق المدارس أو تصفية المعامل.
العلمانية واحد من المصطلحات المهمة التي أحياها وأعاد انتشارها عصر التنوير الأوربي، خاصة بعد معركة الثلاثين عاماً التي دارت بين أنصار الكنيسة الكاثوليكية وأنصار مارتن لوثر وثورته البروتستانتية، فقد أعلنت الكنيسة تحريم الكتب العلمانية الخاصة التي يكتبها ويتداولها البروتستانت، ومن ثم فالعلمانية ليست نتاج مخاض فكري طويل، ولكنها كمصطلح جاءت كنتيجة عملية لأجواء الحرب بين الكاثوليك والبروتستانت في القرنين السادس عشر والسابع عشر، وكان مارتن لوثر قد ذهب إلى أنه لابد من تحطيم ثلاثة أسوار كي يصل المجتمع الأوربي إلى الإصلاح الديني، أولها تحكم السلطة الدينية بالسلطة الزمنية، وثانيها هو احتكار السلطة الدينية الحق في تأويل وفهم النص الديني، وثالثها هو عصمة البابا من الخطأ. ومن ثم فالبروتستانتية لم تكن مجرد ثورة دينية ولكنها سياسية أيضا، فقد امتنع أنصارها عن دفع أموالهم إلى الكنيسة، وبدأت بعض الحكومات تقلص من سلطة الكنيسة عليها، استنادا إلى ضعف سلطتها في المجتمع، ومن ثم فقد كانت حرب الثلاثين عاما حاسمة للعلاقة بين الكنيسة والمجتمع، وظهر من خلالها مصطلح العلمانية الذي يعني المدنية، أي أن صاحبه ليس من رجال الإكليروس أو العاملين في المجال الديني بالكنيسة.
لكن بانتقال هذا المصطلح إلى المجتمعات العربية في العصر الحديث حدث لغط كبير، فالبعض ترجمه بفتح العين انطلاقا من أنه يعني "العَالَم"، أو غير المشتغلين بالدين حسب الثقافة المسيحية، والبعض استعمل الكلمة بكسر العين، انطلاقا من أنها تعني "العِلم". وقد رصد الباحث السوري طارق عزيزة في كتابه "العلمانية" جانبا من هذا اللغط بين المفكرين حول نشأة المصطلح ونطقه، موضحا أن نصيف نصار (وهو باحث ومفكر لبناني له عشرات المؤلفات التي حاول من خلالها التنظير لتحقيق الاستقلال الفلسفي للفكر العربي المعاصر بالمعنى القومي، عبر التنظير للعلاقة بين الفلسفة والأيديولوجيا ومفاهيم السلطة والحرية والأمة والحضور التاريخي) ذهب إلى أن العِلمانية (بكسر العين) تتخذ من المعرفة العِلمية الوضعية، كما هي ممثلة في العلوم الطبيعية، نموذجا لكل أنواع المعرفة. أما الأكاديمي السوري محمد كامل الخطيب فقد استخدم المصطلح بـ(فتح العين)، ذاهبا ً إلى أن أول استخدام له في اللغة العربية كان في منشورات الصراع الطائفي بين الكاثوليك والبروتستانت عام 1824، حيث طالب البطريرك الماروني رعاياه بعدم قراءة الكتب (العَلمانية)، أي الدنيوية، التي يكتبها البروتستانت. ثم تحدد معنى مصطلح العَلمانية فيما بعد بأنه فصل العالم عن الدين والآخرة. أما جورج طرابيشي فإنه يذهب إلى أن هذا المصطلح يعود إلى كتابات القرن العاشر الميلادي، فقد ورد هذا المصطلح في كتاب "مصباح العقل" لساويرس بن المقفع دون وجود شرح له، بما يعني أنه كان معروفا ومتداولا لدى رجال الكنيسة. وقد وردت الكلمة في سياق التمييز بين الطور الدنيوي والطور الكنسي للأسقف، إذ لابد من البتولية (عدم الزواج) في حالة العلمانية، ومن ثم فالعَلمانية بفتح العين، وتعني العالم)
وقد ذهب د. عزيز العظمة إلى أنه ليس معروفا على وجه الدقة كيف دخلت عبارة العلمانية إلى اللغة العربية، ولا كيف انتشرت في الآداب السياسية والاجتماعية والتاريخية العربية المعاصرة، إذ أن الإشارة فيها كانت إلى كلمة "مدني" ، وذلك بالإشارة إلى المؤسسات ذات الأسس اللادينية، كما في كلام فرح أنطون عن فصل السلطتين الدينية والمدنية، أو في وصف الإمام محمد عبده لخليفة المسلمين بأنه حاكم مدني من جميع الوجوه، وهناك إشارات أيضا إلى مدنية القوانين في العشرينات. وذهب العظمة إلى أن كلمة العلمانية دخلت على ما يبدو المجال العام في ذلك الوقت، وبمعناها المتداول اليوم، ثم ثبتت بهذا المعنى في أعمال كتاب مثل ساطع الحصري وغيره فيما بعد(
وفي اعتقادنا أن كلا المصطلحين يتفقان مع الفكرة التي تشير إليها العلمانية، سواء فصل مجتمع الكنيسة ورجاله عن المجتمع المدني وإدارة شئونه، أو الإشارة إلى سيادة العلم وقوانينه على المجتمع. فقد انتقل الصراع من بين البروتستانتية والكاثوليكية، ليدور بين الكنيسة الكاثوليكية وثورة العلم التي توالت خلال القرنين السادس عشر والسابع عشر. ففي الوقت الذي سعت فيه الكنيسة للالتزام بحرفية النص الديني، وتحريم إعمال العقل في المسائل الدينية، فإن العلم رأى وجوب تأويل النص في ضوء إعمال العقل، خاصة أن العلم أصبح قادرا على تقديم رؤية علمية للكون تتناقض مع الرؤية الدينية التي يقدمها ظاهر النص الديني، ففي عام 1543 أصدر كوبر نيكوس كتابه "في دورات الأفلاك السماوية" الذي يعتبر البعض تاريخ صدوره هو الحد الفاصل بين نهاية العصور الوسطى وبداية العصر الحديث، وقد أوضح فيه كوبر نيكوس أن بقاء أكبر الأجرام ثابتا على حين تتحرك حوله الأجرام الصغرى أفضل من دوران الأجسام جميعا حول الأرض، لأننا إذا افترضنا أن الأرض متحركة، وهي المكان الذي نشاهد منه الحركات السماوية، سنحصل على صورة أبسط من الصورة المبنية على افتراض أن الأجرام السماوية هي المتحركة. وبناء على ما وصل إليه كوبر نيكوس فإن الإنسان لم يعد مركزا للكون. وكان ذلك بمثابة معول هدم كبير في جداران الكنيسة التي أقامت منظومتها اللاهوتية على أن الكون يدور حول الأرض، ومن ثم فإنه يدور حول الإنسان، مما جعل الكنيسة تثور وتعلن كوبر نيكوس مهرطقا. وفي بداية القرن السابع عشر، تحديدا عام 1609 صنع جاليليو التليسكوب، ونشر كتابه "رسول من النجوم"، أعلن فيه صدق نظرية كوبر نيكوس، ليبدأ الصراع من جديد بين الكنيسة والعلم، حتى أن البابا بولس الخامس أصدر أمرا لجاليليو بعدم تعليم نظريات كوبر نيكوس أو الدفاع عنها.
تكبيل الوعي العربي
ويختم صبحي موسي كتابه المهم قائلا رأينا على مدار رحلتنا في البحث عن ملامح مأزق التنوير العربي العديد من المشكلات التي جعلت منه شكلا بلا موضوع، فضلا عن وقوفه عند حدود المرحلة الأولى من التنوير الأوربي، وهي مرحلة الثورة البروتستانتية، تلك التي لم تستطع النخب العربية بعد أن تتخطاها وتنتقل منها إلى المراحل الأهم في بناء العقل العربي، وتحرره من سطوة الماضي وترسباته، تلك التي كبلت الوعي العام للجماعة العربية تحت وطأة الإيهام بالحفاظ على الأصول والهوية، دون عناية بانتصار الإنسان لذاته وقدرته على الفعل وتحمل مسئولياته، وهو الأمر الذي كانت الحضارة الإسلامية ذاتها قد قطعت به في زمن المأمون، خاصة مع ثورة المعتزلة الفكرية في دفاعها عن حرية الفعل، لكن الجانب السلفي في هذه الحضارة تمكن من السيطرة على الحكام، والانقلاب على ثورة المأمون (الفكرية)، والعودة إلى الفكر الأشعري المتمسك بحرفية النص، وعدم قابلية تأويله إلا في أضيق الحدود، معتمدا على فقهاء عصور الضعف والخوف والرغبة في الدفاع عن الخلفاء الأوائل، بل وتنزيههم عن الخطأ وعصمتهم منه، وهو ما وضع الثقافة العربية والإسلامية طيلة الوقت في مأزق دائم، فدارات الخلافات والنقاشات القديمة بين فرق المتكلمة حولها، لكن المعتزلة استطاعوا أن ينقلوا النقاش من قداسة المسئول أو الخليفة أو الصحابي إلى مسئوليته عن فعله، ومن ثم تحديد موقفه من العقاب والجزاء، ولو كان لهذه الثورة أن تكمل مسيرتها لكانت الحضارة الاسلامية قد قطعت خطوات كبيرة نحو ثورة العقل وإقرار القانون الوضعي المستمد من القوانين الطبيعية، ولتمكن المنجز العلمي في الثقافة العربية من ارتياد أفاق أوسع وأكبر من التي ارتادها، وربما لعرفت البشرية نقل الأعضاء في القرون الوسطى، أو الوصول إلى الكواكب والمجرات الأخرى دون الاكتفاء بأن العالم مكون من سبع سموات وسبع أراضين، وربما لم يتوقف قطار الحضارة لدينا، ولا سقطنا في هوة الظلام والجمود هذه القرون، في حين انطلق قطار الحضارة الحديثة حين انطلق العقل الغربي نفسه من عقال تصوراته ومعتقداته القديمة نحو اكتشاف العالم، مؤمناً بقوانين الطبيعة وتطور الحياة فيها وفقاً لديناميكيات الحركة والثبات، وليس وفقا لقانون الكتاب المقدس، مما جعل سعى العالم العربي كله فيما بعد نوعا من اللهاث نحو اللحاق بقطار الغرب، وحين اقتنع التيار الاصلاحي بضرورة نقل علوم ومخترعات هذا الغرب إلى عالمنا العربي - على نحو ما فعل الطهطاوي – فقد أصر على تجريدها من سياقها الثقافي، ووضعها في سياق تقليدي أصولي معاد في جوهره لوجودها، رغم أنه كان مؤمنا بأنها ستفشل إن آجل أو عاجلا، فقد قال محمد عبده أن المؤسسات الحديثة التي أنشأها محمد على لن يكتب لها النجاح ولا الاستمرار؛ لأنه نقلها من بيئتها وسياقها الذي نشأت فيه إلى بيئة وسياق مغاير.
ويستطرد صبحي قائلا هكذا راهن طيلة الوقت أصحاب التيارات الدينية على فشل الحداثة لأنها لا تتفق مع جوهر إيمانهم الأصولي، وكان من الطبيعي أن يتم تكفير هذه المجتمعات بعلومها وقيمها وأفكارها، لا لشيء سوى أنها جاهلية، وتحتاج إلى أنبياء جدد مثلهم كي يخرجوها من ظلامها إلى النور، محددين طريقهم بأنه يبدأ من هجرة هذه المجتمعات التي يعيشون فيها، كما عاش المسلمون الأوائل بين كفار مكة، إلى مكان وموطن الإعداد والتجهيز، ثم العودة لفتحها كما فتح الرسول مكة، وتطهيرها كما طهر البيت الحرام من الأصنام والأوثان. هكذا ظلت مخيلة الأيام الأولى من الإسلام حاكما رئيسيا لعقل وذهن التيارات الدينية بمختلف تنويعاتها، لكن بعضها كان أقل حدة ووضوحاً، وأكثر موائمة مع السلطات وتكتلات المجتمع.
المشكلة الأكبر كانت في التيارات التنويرية نفسها، فقد نشأ التنوير كما رأينا على يد السلطة، بدءا من سلطة الحملة الفرنسية، وسلطة محمد علي الذي آمن بالتنوير، ونهض آخذا بكل أدوات بناء الدولة الحديثة، لكن نخبة المثقفين الذين ذهبوا وتعلموا في بلاد التنوير الأوربي لم يطالبوه بضرورة تغيير السياق الثقافي للمجتمع، وألا يكتفي بتعليم الحاشية والطبقة الموالية والجهاز الإداري للدولة، إذ لابد أن ينتشر النور في مختلف المدن والقرى، ويصل مداه إلى أعمق أعماق المجتمع، حينها ستكون قاعدة الهرم على أرض متسعة، ولن يتمكن تغيير الباشا ولا مجيء الاحتلال من وقف قطار التحديث الذي انطلق، وربما من الأصل لن تتعرض البلاد للاحتلال ولا الغزو بفضل الوعي الذي تراكم لدى نخبها، وتوافر قنوات توصليه لدى الجماهير، لكن لا محمد على كان مشغلاً بصناعة القنوات المؤهلة لذلك، ولا حتى نخب المثقفين الذي سعدوا وانبهروا بالذهاب إلى أوروبا، ثم العودة للعمل في حظيرة الوالي رب النعم، مستمتعين بعطاياه ومناصبه، مما ساعد على توقف قطار النهضة بتوقف رغبة محمد على فيها، ولم يخرج أحد من بيته رافضا إغلاق المدارس أو تصفية المعامل.