داعش.. من استهداف الأنظمة إلى الهروب من مواجهة إسرائيل

السبت 29/مارس/2025 - 05:02 ص
طباعة داعش.. من استهداف حسام الحداد
 
المظلومية والتكفير: أدوات داعش في استقطاب الأتباع
الافتتاحيات الصادرة عن تنظيم داعش تُعدّ جزءًا أساسيًا من بنيته الخطابية، إذ تعكس رؤيته الأيديولوجية وتكشف عن تكتيكاته في التعامل مع التطورات السياسية والعسكرية. العدد 488، الصادر مساء الخميس 27 مارس 2025، يقدّم نموذجًا واضحًا لهذا التوظيف الدعائي، حيث يسعى التنظيم إلى إعادة تأطير المشهد السياسي السوري من منظور يخدم سرديته الخاصة. من خلال هذه الافتتاحية، يحاول داعش تقديم تفسير خاص لما يسميه "النظام السوري الجديد"، مستندًا إلى مفاهيم عقدية جامدة تسهّل تصنيف القوى الفاعلة ضمن ثنائيات حادة مثل "الإيمان والكفر" و"الطغيان والجهاد".
هذا الخطاب لا يكتفي بإعادة إنتاج ثنائية الخير والشر، بل يعمل على إعادة صياغة مواقف الفاعلين الدوليين وفقًا لمنظور التنظيم، متجاهلًا التعقيدات الجيوسياسية الفعلية. فبدلًا من تحليل العلاقات الدولية وفق أسس سياسية واقتصادية، يلجأ داعش إلى تقسيم المشهد إلى معسكرين متقابلين: أحدهما يمثل "المجاهدين" الساعين إلى إقامة "الشريعة"، والآخر يضم كل من يخالفهم، سواء كانوا أنظمة حاكمة أو جماعات إسلامية منافسة، ما يعكس محاولته فرض تأويل متطرف للواقع بما يخدم أهدافه التوسعية.

تحليل البنية الخطابية
تعتمد الافتتاحية على عدة تقنيات خطابية تهدف إلى تحقيق تأثير نفسي وإقناعي لدى المتلقين:
ثنائية الحق والباطل:
 ترتكز الافتتاحية على خلق استقطاب حاد بين ما تعتبره قوى الشر، التي تشمل النظام السوري الجديد، اليهود، والطواغيت العرب، وبين المجاهدين الذين يتمسكون بالشريعة من وجهة نظر التنظيم. هذه الثنائية المطلقة تُلغي أي إمكانية للتدرج في تحليل الواقع السياسي، وتُصوّر العالم على أنه معسكران متقابلان لا مجال بينهما لأي تفاهم أو حوار. هذا النوع من الخطاب يهدف إلى إثارة المشاعر وتحفيز الأتباع على الاصطفاف مع التنظيم دون الحاجة إلى التفكير النقدي أو المراجعة.
هذه الثنائية تُعيد إنتاج الخطابات التقليدية التي تعتمدها الجماعات المتطرفة، حيث يتم اختزال تعقيدات المشهد السياسي في قوالب جاهزة تُسهل التلاعب بعواطف الأتباع. بدلاً من تقديم تحليل عقلاني للموقف الإقليمي، يتم تصوير الأطراف السياسية كأعداء مطلقين، مما يُسهم في تبرير أي أعمال عنف ضدهم على أساس أنهم يمثلون جبهة موحدة ضد "المؤمنين".
بالإضافة إلى ذلك، فإن استبعاد أي مساحة للحوار أو التفاوض يعكس استراتيجية التنظيم في تعزيز الانغلاق الفكري بين أتباعه. فحينما يتم تصوير أي جهة خارج التنظيم على أنها جزء من معسكر الشر، يصبح من المستحيل التفكير في حلول سياسية أو مراجعة الاستراتيجيات المتبعة، مما يُكرّس استمرار التنظيم في نهجه العدائي القائم على العنف
إعادة تأويل الوقائع وفق منظور عقدي:
 يحاول كاتب الافتتاحية تأطير السياسات الإقليمية من خلال منظور عقدي صارم، حيث يتم تصوير تعامل الدول مع إسرائيل على أنه خيانة مطلقة، بغض النظر عن السياقات السياسية أو المصالح الوطنية. هنا، يتم تجاهل تعقيدات العلاقات الدولية لصالح سردية مبسطة تعزز مواقف التنظيم.
هذه المقاربة تُظهر افتقار الخطاب إلى أي فهم واقعي للعلاقات الدولية، حيث يتم التعامل مع كل تحرك سياسي وفق معيار ديني بحت، دون النظر إلى تعقيدات الجغرافيا السياسية أو المصالح الاستراتيجية للدول. هذا الطرح يُسهم في خلق حالة من الانغلاق الفكري، حيث يتم نزع أي سياق تاريخي أو سياسي عن مواقف الدول، مما يجعلها تبدو وكأنها تتحرك وفق اعتبارات دينية فقط، وهو ما يتنافى مع طبيعة العلاقات الدولية التي تحكمها معادلات معقدة من المصالح والتحالفات.
علاوة على ذلك، فإن هذه القراءة الأيديولوجية تُسهل على التنظيم شيطنة كافة الأطراف السياسية، بحيث تصبح جميعها خائنة ومتآمرة، حتى لو كانت تتبنى مواقف متباينة من القضايا الإقليمية. فمجرد وجود علاقة دبلوماسية أو سياسية مع إسرائيل كافٍ بالنسبة للتنظيم لتكفير تلك الدول، دون الأخذ في الاعتبار أي حسابات سياسية أو أمنية قد تفسر هذه العلاقات. بهذه الطريقة، يتم ترسيخ الانقسام بين "المؤمنين" و"الخونة"، مما يُسهم في تسهيل عمليات التجنيد داخل التنظيم عبر خطاب تعبوي يُحرض على رفض النظام العالمي برمته
استخدام خطاب التخوين والتكفير
توظّف الافتتاحية خطابًا قائمًا على التخوين والتكفير لتصوير خصوم التنظيم كأعداء للدين، مستخدمةً مفاهيم مثل "الطاغوت" و"المرتدين" و"الناكصين" لوصف النظام السوري الجديد والفصائل الإسلامية التي اختارت الانخراط في العملية السياسية. هذه المصطلحات ليست مجرد توصيفات محايدة، بل تحمل في طياتها أحكامًا عقدية قاطعة تهدف إلى تجريد هؤلاء الخصوم من أي مشروعية دينية أو سياسية، مما يسهل تبرير استهدافهم وإقصائهم.
يعتمد هذا الأسلوب اللغوي على آلية الإقصاء التام، حيث يتم إخراج المخالفين من دائرة الإسلام، ما يعني عمليًا التحريض على العنف ضدهم. فمجرد الانخراط في المشهد السياسي وفق قواعد مغايرة لرؤية التنظيم كفيلٌ بأن يضع الأطراف الفاعلة في خانة "المرتدين" الذين يجب محاربتهم. وبهذا، لا يبقى أي مجال للحوار أو التفاوض، بل يتحول الصراع إلى معركة صفرية لا تقبل إلا الإخضاع أو الإبادة.
إن هذا النمط من الخطاب لا يستهدف فقط الخصوم السياسيين، بل يسعى أيضًا إلى ضبط جمهور التنظيم ضمن إطار أيديولوجي مغلق، يمنع أي تساؤل أو إعادة تقييم للمواقف. فحين يتم تكفير أي طرف يخرج عن رؤية التنظيم، يصبح من المستحيل على الأفراد المنتمين إليه التفكير في خيارات أخرى، مما يعزز حالة الانغلاق الفكري ويطيل أمد العنف باعتباره المسار الوحيد الممكن في مواجهة "الطواغيت" و"المرتدين".
الاستدلال بالنصوص الشرعية لتبرير المواقف
كما هو معتاد في الخطاب الداعشي، يتم اللجوء إلى الاستدلال بالنصوص الشرعية لدعم المواقف السياسية والعسكرية للتنظيم، وإضفاء الشرعية الدينية على قراراته وتحليلاته. في هذه الافتتاحية، يتم الاستشهاد بالآية القرآنية: {لَا يُقَاتِلُونَكُمْ جَمِيعًا إِلَّا فِي قُرًى مُحَصَّنَةٍ أَوْ مِنْ وَرَاءِ جُدُرٍ}، وذلك في سياق محاولة تفسير موقف إسرائيل من النظام السوري الجديد. هذا الاستخدام للنصوص يهدف إلى تقديم تأويل ديني للصراعات السياسية، بحيث تبدو خيارات التنظيم ومواقفه على أنها مستمدة مباشرة من الكتاب والسنة، لا مجرد اجتهادات سياسية قابلة للنقاش.
إلا أن هذا الاستدلال يتسم بالانتقائية، حيث يتم اقتطاع النصوص من سياقاتها الأصلية دون النظر إلى أسباب النزول أو التفسيرات التاريخية المختلفة. فالآية المذكورة نزلت في سياق محدد يتعلق بمواقف بعض أهل الكتاب في زمن النبي ﷺ، لكن التنظيم يوظفها لتفسير الواقع السياسي الحديث وإعطاء تصور مسبق عن نوايا إسرائيل تجاه النظام السوري الجديد. هذا النهج يتجاهل التعقيدات السياسية والاختلافات الزمنية، ويُسقط النصوص الدينية على وقائع لا تتطابق تمامًا مع سياقاتها الأصلية.
علاوة على ذلك، فإن هذا التوظيف للنصوص لا يهدف إلى البحث عن الحقيقة بقدر ما يسعى إلى تبرير مواقف التنظيم وإضفاء القدسية عليها. فبدلًا من تقديم تحليل عقلاني للأوضاع السياسية، يتم اللجوء إلى الخطاب الديني لتعبئة الأنصار وحشد الدعم عبر تصوير مواقف التنظيم على أنها استمرار للصراع التاريخي بين المسلمين وأعدائهم. وهذا يعكس نهجًا عامًا في خطاب الجماعات المتشددة، حيث يتم استخدام النصوص الدينية كأدوات لتوجيه الرأي العام داخل التنظيم وتعزيز الانقياد لأوامره دون مساءلة أو مراجعة.
التحريض على المواجهة الحتمية
تختتم الافتتاحية بالدعوة الصريحة إلى "المواجهة الحتمية" مع إسرائيل، حيث يتم تصوير هذا الصراع على أنه السبيل الوحيد لإعادة الأمور إلى نصابها، ولكن ليس وفق أي إطار سياسي أو وطني، بل تحت مظلة "الشريعة" بدلاً من "الطاغوت ودساتيره". هذا الخطاب ليس مجرد إعلان لموقف عقائدي، بل هو جزء من استراتيجية التنظيم في تأطير الصراعات السياسية على أنها معارك إيمانية مقدسة، حيث يتم تجريدها من أي تعقيدات واقعية وتحويلها إلى صراع بين الإيمان والكفر، مما يلغي أي مساحة للنقاش أو البحث عن حلول سياسية.
هذا التأطير يعكس نهج داعش في تبرير العنف، حيث يتم تقديمه على أنه أمر محتوم لا مفر منه، وليس مجرد خيار ضمن بدائل متعددة. فالمواجهة، وفقًا لهذه الرؤية، ليست نتيجة لتطورات سياسية أو صراعات إقليمية، بل هي جزء من قدر ديني يجب تحقيقه. هذا الأسلوب في الخطاب يسعى إلى تعبئة الأتباع وإقناعهم بأن أي مسار آخر غير القتال هو انحراف عن العقيدة وخيانة للإسلام، مما يعزز حالة الاستقطاب ويجعل من الصعب على الأفراد داخل التنظيم التفكير في أي خيارات أخرى.
علاوة على ذلك، فإن تصوير العنف كحتمية دينية يسهم في خلق مناخ أيديولوجي يشرعن استمرار العمليات الإرهابية، حيث تصبح أي وسيلة للوصول إلى هذه "المواجهة الحتمية" مقبولة ومبررة دينيًا. وهذا النهج لا يقتصر على توجيه الأتباع داخل التنظيم، بل يهدف أيضًا إلى استقطاب عناصر جديدة من خلال استغلال مشاعر الغضب والإحباط، وتحويلها إلى طاقة قتالية تخدم أجندة التنظيم. وبهذا، يتحول الخطاب من كونه مجرد تحليل للأوضاع السياسية إلى أداة لتغذية العنف وإدامة الصراعات المسلحة.

نقد الخطاب
التناقضات الداخلية
تعتمد الافتتاحية على خطاب مزدوج في توصيفها للنظام السوري الجديد، حيث تصفه بأنه "مرتد" يعمل لخدمة المصالح الإسرائيلية، لكنه في الوقت ذاته تُقر بأن إسرائيل لا تثق حتى بحلفائها التقليديين في المنطقة. هذا التناقض يعكس إشكالية عميقة في منطق التنظيم، إذ يسعى إلى إدانة النظام السوري بناءً على فرضية التعاون المطلق مع إسرائيل، لكنه في الوقت نفسه يقر بأن إسرائيل لا تمنح ثقتها المطلقة لأي طرف، حتى الأنظمة التي وقعت معها اتفاقيات سلام وعلاقات تطبيع. هذا التناقض يجعل السردية المطروحة تفتقر إلى الانسجام الداخلي، حيث يتم الجمع بين اتهام النظام بالعمالة المطلقة، وفي نفس الوقت الإقرار بأنه ليس محل ثقة لدى من يُفترض أنه يخدمهم.
هذا الارتباك يعكس أزمة أوسع في خطاب داعش، الذي يسعى إلى فرض تكفيره للأنظمة العربية والإسلامية دون النظر إلى الفروق الواقعية بين هذه الأنظمة في سياساتها وتحالفاتها. فبالنسبة للتنظيم، لا فرق بين دولة مرتبطة بتحالف وثيق مع إسرائيل وأخرى تحاول الحفاظ على وضعية حياد نسبي، إذ يتم التعامل مع الجميع من المنظور نفسه. هذا النهج الأحادي في التحليل يُفقد الخطاب الداعشي مصداقيته السياسية، حيث يصبح اتهام "الردة" و"العمالة" أداة جاهزة تُستخدم بشكل تعميمي يخدم غرض التحريض، دون تقديم فهم حقيقي لتعقيدات المشهد السياسي
إسقاط التعقيد السياسي
يعتمد خطاب الافتتاحية على تبسيط شديد لواقع العلاقات الدولية، حيث يُعاد تأطيرها ضمن إطار عقائدي جامد يستند إلى ثنائية الخير والشر، متجاهلًا التعقيدات السياسية والاستراتيجيات المتشابكة التي تحكم الدول، لا سيما في منطقة الشرق الأوسط. فبدلًا من الاعتراف بأن لكل دولة مصالحها القومية وحساباتها السياسية التي تؤثر في قراراتها، يتم تصوير المشهد وكأنه صراع مطلق بين أنظمة "مرتدة" تعمل لصالح أعداء الإسلام وبين "المجاهدين" الذين يمثلون الحق. هذا التبسيط يُهمل السياقات التاريخية والاقتصادية والأمنية التي تحكم العلاقات بين الدول، ويُعيد صياغتها ضمن رؤية أحادية تخدم أهداف التنظيم الأيديولوجية.
على سبيل المثال، لا يعترف الخطاب الداعشي بتعدد الفاعلين في الملف السوري وتعقيدات التحالفات الإقليمية والدولية، بل يُعيد رسم المشهد في إطار صراع عقائدي محض، حيث تُختزل كل المواقف ضمن ثنائية العداء المطلق. فبدلًا من تحليل سياسات الدول على أسس براغماتية تأخذ في الاعتبار المصالح الوطنية والتوازنات الدولية، يُعيد التنظيم تأويل هذه السياسات وفق منظوره العقدي، مما يؤدي إلى رؤية مشوهة للواقع. هذا النهج لا يعكس فقط سطحية في التحليل، بل يُسهم أيضًا في توجيه خطاب تحريضي قائم على التشدد والرفض المطلق للحلول السياسية، ما يعزز حالة الاستقطاب والتوتر المستمر.
الانتقائية في التعامل مع القضايا
يتبنى تنظيم داعش خطابًا انتقائيًا في تعامله مع القضايا السياسية والعسكرية، حيث يهاجم الفصائل الإسلامية الأخرى ويتهمها بالخيانة بسبب مواقفها من إسرائيل، بينما يتجاهل تمامًا حقيقة أن مقاتليه لم ينخرطوا في أي مواجهة مباشرة مع إسرائيل خلال سنوات وجوده في سوريا والعراق. هذه الازدواجية تكشف أن التنظيم لا يتعامل مع القضايا من منظور استراتيجي بقدر ما يوظفها لأغراض دعائية، حيث يستخدم قضية العداء لإسرائيل كأداة للتحريض ضد خصومه من الفصائل الإسلامية، دون أن يكون لهذا العداء أي تجسيد عملي على الأرض.
هذا التناقض يُبرز بوضوح أزمة المصداقية في الخطاب الداعشي، فبينما يدّعي التنظيم أنه الجهة الوحيدة التي تلتزم بـ"الولاء والبراء" في تعاملها مع الأعداء، فإنه في الواقع لم يوجّه جهوده العسكرية إلا نحو الفصائل الإسلامية الأخرى والجماعات المعارضة، متجاهلًا الجبهة الإسرائيلية تمامًا. هذه الانتقائية لا تعكس فقط ازدواجية في الخطاب، بل تؤكد أن التنظيم يُعيد توجيه بوصلة الصراع لخدمة أهدافه التوسعية بدلاً من الالتزام بالمبادئ التي يدّعي الدفاع عنها. وهكذا، تصبح شعارات مواجهة إسرائيل مجرد أداة في حربه الإعلامية، وليس استراتيجية فعلية على أرض الواقع
تحريف مفهوم المقاومة
تسعى افتتاحية صحيفة النبأ إلى تصوير المواجهة مع إسرائيل كقضية محورية في مشروع داعش، لكنها في الوقت ذاته تتجاهل حقيقة أن التنظيم لم ينخرط في أي مواجهة فعلية مع إسرائيل طوال فترة وجوده في سوريا والعراق. فعلى الرغم من الخطاب التعبوي الذي يربط بين الجهاد ومقاومة "اليهود"، إلا أن العمليات العسكرية لداعش لم تتجه نحو الجبهة الإسرائيلية، بل انصبّت بشكل رئيسي على الفصائل الإسلامية الأخرى والقوى المعارضة للنظام السوري. هذا التناقض يفضح تحريف التنظيم لمفهوم المقاومة، حيث يستخدمه كأداة خطابية دون أن يكون له أي تطبيق عملي في استراتيجياته العسكرية.
وبدلًا من استهداف إسرائيل، ركّز داعش جهوده على قتال الجماعات التي كانت تقاتل النظام السوري، ما جعله في كثير من الأحيان يصب في مصلحة النظام بشكل غير مباشر. هذا الواقع يدحض السردية التي يروج لها التنظيم حول كونه رأس الحربة في مواجهة الأعداء الحقيقيين للأمة، ويكشف أن خطابه حول المقاومة ليس إلا شعارات جوفاء تُستخدم لحشد الأنصار والتأثير على المتعاطفين، بينما يظل نشاطه العسكري منصبًا على بسط نفوذه على حساب قوى المعارضة الأخرى

التأثيرات المحتملة للخطاب
تعزيز الانقسام بين الفصائل الإسلامية
يعتمد داعش في خطابه على تكفير الفصائل الإسلامية الأخرى التي تختلف معه أيديولوجيًا أو استراتيجيًا، مستخدمًا اتهامات مثل "العمالة لإسرائيل" أو "الردة" لنزع الشرعية عنها. هذا الخطاب يؤدي إلى تصعيد الانقسامات بين الجماعات المسلحة في سوريا، إذ يعزز من حالة الشك المتبادل ويؤجج الصراعات الداخلية بين الفصائل التي كان يمكن أن تكون حليفة في مواجهة النظام السوري أو القوى الدولية الفاعلة في المشهد. وبهذا، يصبح المشهد الجهادي أكثر تفككًا، ما يمنح التنظيم فرصة لفرض نفسه كالقوة الأكثر "صفاءً" من الناحية الأيديولوجية، مقارنة بالفصائل الأخرى التي يصورها على أنها "منحرفة" أو "متخاذلة".
علاوة على ذلك، فإن تكريس هذا الخطاب التكفيري يضعف قدرة الفصائل الأخرى على إيجاد بيئة مستقرة للعمل، حيث تصبح عرضة للهجمات من قبل أنصار داعش أو حتى من قبل عناصر داخلية قد تتأثر بهذا الخطاب وتبدأ في التشكيك في شرعية قادتها. ومن خلال تعزيز هذه الانقسامات، يحقق التنظيم أحد أهدافه الاستراتيجية المتمثل في تفكيك أي تحالف محتمل يمكن أن يهدد وجوده، خاصة بعد تراجع نفوذه في العراق وسوريا. وبهذا، تصبح الفصائل الإسلامية الأخرى عالقة بين مواجهة النظام السوري من جهة، ومواجهة داعش الذي يسعى إلى تقويضها من جهة أخرى.
تحريض أتباعه على استهداف الفصائل الأخرى
خطاب داعش لا يقتصر على التخوين النظري، بل يشكل دعوة صريحة لأنصاره لمهاجمة الفصائل الإسلامية المنافسة. من خلال وصف هذه الفصائل بأنها "مرتدة" أو "ناكصة"، يقدم التنظيم غطاءً دينيًا لاستهدافها، ما قد يدفع عناصره إلى تنفيذ هجمات ضد هذه الجماعات بدلًا من توجيه جهودهم نحو مواجهة إسرائيل أو القوى الدولية. هذه الاستراتيجية ليست جديدة، فقد استخدمها التنظيم مسبقًا في صراعاته مع الفصائل الجهادية الأخرى مثل جبهة النصرة، حيث وظّف التكفير كأداة لتحريض مقاتليه على مهاجمة خصومه من داخل الدائرة الجهادية نفسها.
هذا التحريض يؤدي إلى دوامة من العنف الداخلي، حيث تدخل الفصائل الإسلامية الأخرى في معارك استنزاف ضد داعش بدلًا من تركيز جهودها على المعارك الرئيسية ضد النظام أو القوى الأجنبية. كما أن هذا الخطاب يعزز من حالة التوجس والريبة بين الجماعات المسلحة، إذ يدفع بعضها إلى تبني نهج أكثر تطرفًا لتجنب الاتهامات بالعمالة أو التخاذل. في نهاية المطاف، فإن استراتيجية التحريض هذه تخدم داعش في إضعاف خصومه المحتملين، وتوسيع دائرة الفوضى التي يمكنه استغلالها لصالحه.
محاولة تجديد شرعية التنظيم
مع تراجع نفوذ داعش بعد هزائمه العسكرية في سوريا والعراق، يسعى التنظيم إلى إعادة بناء شرعيته عبر تقديم نفسه كالقوة الجهادية الأكثر التزامًا بالشريعة، مقارنة بالفصائل التي دخلت في مسارات سياسية أو خففت من خطابها الأيديولوجي. من خلال تصوير نفسه كحامل لواء "الجهاد الحقيقي"، يحاول داعش استقطاب مقاتلين جدد ممن يشعرون بالإحباط من أداء الفصائل الأخرى أو يعتبرونها متخاذلة. هذه الاستراتيجية تعتمد على الخطاب العاطفي الذي يركز على مظلومية الأمة الإسلامية وضرورة استمرار القتال دون تقديم أي تنازلات.
إضافة إلى ذلك، فإن التنظيم يحرص على إظهار نفسه كبديل وحيد قادر على تحقيق "النصر" في ظل خيانة الفصائل الأخرى وتواطؤ الأنظمة العربية. هذا التصور قد يكون مغريًا لبعض الأفراد الذين يبحثون عن حركة توفّر لهم إحساسًا بالهوية والانتماء، خاصة مع تراجع البدائل الجهادية الأخرى أو انخراطها في تسويات سياسية. ومن خلال هذا الخطاب، يأمل داعش في استعادة جزء من قاعدته الشعبية التي فقدها، أو على الأقل منع مزيد من الانشقاقات داخل صفوفه.
التأثير على المتعاطفين الخارجيين
استخدام داعش لقضية العداء لإسرائيل والمظلومية الإسلامية ليس موجهًا فقط للجمهور المحلي في سوريا والعراق، بل يسعى أيضًا إلى التأثير على المتعاطفين معه خارج هذه المناطق. الخطاب الذي يربط بين الأنظمة العربية وإسرائيل، ويصوّر التنظيم كآخر خط دفاع عن الأمة الإسلامية، قد يجذب عناصر جديدة من خارج المنطقة، خاصة من الشباب المسلمين الذين يشعرون بالغضب تجاه السياسات الإسرائيلية أو يرون في التنظيم ممثلًا لـ"المقاومة الإسلامية الحقيقية".
هذا التأثير يمتد إلى شبكات التجنيد الإلكترونية التي يستغلها داعش للوصول إلى المتعاطفين في أوروبا وآسيا وأفريقيا. من خلال تصوير الصراع كحرب دينية وجودية، وليس مجرد نزاع سياسي، يحاول التنظيم استثارة المشاعر الدينية لدى الأفراد الذين قد يكونون غير مطلعين على تعقيدات المشهد السياسي في الشرق الأوسط. بهذه الطريقة، يمكن أن يدفعهم إلى الانضمام إليه أو تنفيذ عمليات في بلدانهم الأصلية، ما يعزز من استراتيجية "الذئاب المنفردة" التي يعتمد عليها التنظيم بشكل متزايد مع تقلص نفوذه العسكري في معاقله التقليدية.
تبرير استمرارية العنف
أحد أخطر الجوانب في خطاب داعش هو تقديم العنف كضرورة دينية وحتمية لا يمكن تجنبها. من خلال تصوير المواجهة مع إسرائيل على أنها "معركة محتومة"، يضع التنظيم نفسه في موقع يرفض أي شكل من أشكال الحلول السياسية أو التسويات. هذا التأطير الأيديولوجي لا يخدم فقط أهداف داعش، بل يوفر أيضًا تبريرًا لاستمرار عملياته الإرهابية، سواء في الشرق الأوسط أو خارجه، تحت ذريعة "مواصلة الجهاد حتى تحقيق النصر".
كما أن هذا الخطاب لا يقتصر على العداء لإسرائيل، بل يمتد ليشمل أي طرف لا يتبنى نفس منهج داعش، سواء كان من الفصائل الإسلامية الأخرى أو من الأنظمة السياسية. وبهذا، يصبح العنف غير موجه ضد عدو خارجي فقط، بل ضد أي كيان يرى التنظيم أنه يشكل عائقًا أمام مشروعه. في المحصلة، فإن هذا النوع من الخطاب يعزز حالة الفوضى وعدم الاستقرار، ويمنح التنظيم غطاءً لاستمرار عملياته تحت شعار المواجهة "المقدسة"، دون تقديم أي رؤية سياسية أو استراتيجية حقيقية لحل الأزمات التي يدّعي القتال من أجلها.

خاتمة
تعكس افتتاحية العدد 488 من "النبأ" أحد أوجه الدعاية الداعشية التي تواصل استثمار الأحداث السياسية لإعادة تقديم رؤيتها الأيديولوجية بشكل يوظف الدين لخدمة أجندتها العنيفة. وعلى الرغم من التحولات الميدانية والسياسية التي أضعفت التنظيم، إلا أن خطابه لا يزال محافظًا على بنيته التقليدية القائمة على التخوين، التكفير، والتحريض، مما يسلط الضوء على استمرارية التحدي الذي يمثله هذا النوع من الخطاب المتطرف في الساحة الفكرية والسياسية.

شارك