من الفوضى الاقتصادية إلى الحرب المقدسة: كيف يعيد داعش صياغة الصراع العالمي
الأحد 20/أبريل/2025 - 03:53 ص
طباعة

افتتاحية العدد 491 من صحيفة النبأ، الصادرة مساء الخميس 17 أبريل 2025، تبرز بوضوح تداخلًا معقدًا بين الأيديولوجيا والعنف السياسي الذي يعتمد عليه تنظيم داعش في تشكيل خطابه الدعائي. تحت عنوان "الطاغوت الأمريكي: من الحرب الاقتصادية إلى الفوضى العالمية"، يقوم التنظيم بتوظيف سياسة الرئيس الأمريكي دونالد ترامب بشأن الرسوم الجمركية كأداة لتمرير رسائل معادية للغرب، وبشكل خاص ضد الولايات المتحدة الأمريكية. المقال يستند إلى التوترات التجارية العالمية والأزمة الاقتصادية الأمريكية، مروجًا لفكرة أن هذه السياسات ليست مجرد تدابير اقتصادية بل جزء من صراع أكبر بين الحضارة الإسلامية والحضارات الغربية، متمثلة في الولايات المتحدة وأوروبا.
من خلال هذه الافتتاحية، يعيد تنظيم داعش تقديم الأزمة الاقتصادية الأمريكية كجزء من مؤامرة أوسع تهدف إلى إضعاف النظام العالمي والتهديد بقيم الإسلام. ما يميز الخطاب هو استغلاله لهذه التوترات الاقتصادية ليس فقط في سياق تحليل سياسي، بل لإعادة صياغة الصراع بين الإسلام والغرب على أنه معركة وجودية، تستدعي جهادًا دينيًا ضد "الطواغيت" المتمثلين في الغرب، لاسيما الولايات المتحدة الأمريكية. يتخذ المقال من هذه الأزمة العالمية قاعدة لبناء سردية متطرفه تقنع متابعي التنظيم بأن "القتال ضد الغرب" هو السبيل لحماية الأمة الإسلامية من الانهيار الحضاري.
صناعة العدو وتوظيف الخطاب الأيديولوجي:
في قلب الافتتاحية، يقوم تنظيم داعش باستحضار صورة "العدو" الأمريكي بوصفه تهديدًا وجوديًا للمسلمين، وهو ما يظهر من خلال التلميحات المتكررة إلى وصف الولايات المتحدة بـ "الطاغوت" و"الصليبيين". هذا التوصيف يهدف إلى ترسيخ صورة للغرب كعدو مستمر في صراع ضد الإسلام والمسلمين. ومن خلال ربط أمريكا بسياسات اقتصادية تعتبرها الافتتاحية ظالمة، يرسم التنظيم صورة لواشنطن كمصدر رئيسي للظلم والعنف الذي يستهدف العالم أجمع. فالتنظيم لا يقتصر في نقده على السياسات العسكرية الأمريكية، بل يوسع الهجوم ليشمل الجوانب الاقتصادية التي تضر الدول النامية والشعوب الإسلامية بشكل غير مباشر، حيث يُصور الاقتصاد الأمريكي على أنه أداة للهيمنة والسيطرة.
إحدى الأدوات البارزة التي يستخدمها الخطاب هي تحويل السياسة الاقتصادية الأمريكية إلى قضية دينية. فالتنظيم لا يتوقف عند مجرد تحليل الأبعاد الاقتصادية، بل يعيد صياغة هذه الأحداث عبر عدسة دينية متطرفة، ليُظهر أن السياسات الاقتصادية الأمريكية ليست مجرد فشل في الإدارة، بل تجسد للشرور التي يجب محاربتها. هذا النقل من التحليل الاقتصادي إلى التحليل الديني يهدف إلى تبرير العنف والتطرف باعتبارها رد فعل مشروعًا ضد ما يُعتبر عدوانًا عالميًا من قبل "الطاغوت" الأمريكي. يتم تصوير ترامب وحلفاءه في هذا السياق على أنهم تجسيد للأعداء التقليديين للإسلام، وهذا التوظيف الديني يعزز من شرعية الأعمال العنيفة ضد هذه القوى.
استغلال التنظيم للتوترات الاقتصادية العالمية يحقق له هدفًا مزدوجًا: فهو يعمق الانقسام بين المسلمين والعالم الخارجي، ويستثمر في حالة الاستقطاب المتزايدة بين الشرق والغرب. من خلال عرض السياسات الاقتصادية الأمريكية كجزء من مخطط أكبر لتهديد العالم الإسلامي، يعزز التنظيم شعورًا بالتحفز والغضب بين أتباعه، ويصور ذلك الصراع كصراع مستمر ضد "الطاغوت" الذي لا يمكن تحققه إلا عبر المقاومة العنيفة. ومن هنا، يصبح التحليل الاقتصادي جزءًا من السردية الكونية التي يعرضها التنظيم، والتي تصوّر المسلمين في حالة دفاع مستمر ضد تهديدات خارجية تأتي تحت مسميات متعددة، من بينها الاقتصاد والعسكرة والسياسة.
إن هذه السردية ليست مجرد تعليق على الأوضاع الحالية، بل تُعتبر استراتيجية مدروسة من قبل التنظيم لتغذية ما يُعرف بـ "الذهنية الحربية". في هذه الذهنية، يصبح الصراع مع الغرب صراعًا وجوديًا لا يقف عند حدود السياسة أو الاقتصاد، بل يتعداه ليشمل المعركة الروحية والدينية. التنظيم يُصور أن هذا التهديد ليس مجرد مشكلة سياسية عابرة، بل هو جزء من حرب شاملة ضد الإسلام والمسلمين، تفرض عليهم التوحد والانخراط في "الجهاد" لمواجهة هذا الخطر الداهم. يعزز هذا الخطاب من شعور الجماعات المتطرفة بأنهم في مواجهة مستمرة مع قوى عالمية، مما يحفزهم على اتخاذ مواقف أكثر تطرفًا وتبني أساليب قتالية لحل هذا النزاع.
وفي سياق هذا التصور، يصبح التنظيم في نظر أتباعه قوة مضادة للظلم الذي تمارسه الدول الكبرى، خاصة أمريكا. من خلال تصوير هذا الصراع كصراع "أبدي" و"وجودي"، يخلق التنظيم صورة لعالم مقسوم بين "الخير" و"الشر"، حيث يمثل الغرب والولايات المتحدة تجسيدًا للشر الذي يجب محاربته بكل الوسائل. وهذا يساهم في تقوية شعور الأتباع بأنهم جزء من معركة شاملة تحتم عليهم الاستعداد للمواجهة على كافة الأصعدة، الاقتصادية، العسكرية والدينية. في النهاية، يقوم تنظيم داعش بتوظيف الأزمات الاقتصادية العالمية كأداة لإدامة الجدل حول الصراع مع الغرب، مما يساهم في استمرارية رسالته التحريضية ويعزز من تماسكه الداخلي.
استخدام التهديدات الاقتصادية للتحريض على العنف:
الخطاب الداعشي في الافتتاحية لا يقتصر على تحليل الأبعاد الاقتصادية للأزمة العالمية التي تعصف بالاقتصاد الأمريكي، بل يتجاوز ذلك ليستخدم الأزمات الاقتصادية كسلاح دعائي قوي. التنظيم يركز على تصوير هذه الأزمات على أنها نتيجة مباشرة لممارسات "الطاغوت الأمريكي"، ويحولها إلى أداة لنقل رسالة أيديولوجية مفادها أن الغرب، بقيادة الولايات المتحدة، هو المسؤول عن تدهور الاقتصاد العالمي. من خلال هذه النظرة، يُروج التنظيم لفكرة أن الأزمة الاقتصادية الأمريكية ليست مجرد مشكلة محلية أو إدارية، بل هي جزء من مخطط أوسع تهدف الولايات المتحدة من خلاله إلى إدامة هيمنتها على العالم عبر سياسات اقتصادية جائرة، وأن هذه الأزمة هي نقطة التحول التي ستؤدي في النهاية إلى انهيار النظام الغربي برمته.
إحدى الاستراتيجيات الخطابية التي يعتمد عليها التنظيم هي تصوير تداعيات السياسات الاقتصادية في الولايات المتحدة على أنها "قنبلة نووية" و"زلزال اقتصادي" سيضر بالجميع، ويقوض النظام العالمي الذي تقوده أمريكا. هذا التصوير المبالغ فيه يعزز من شعور الخطر والتهديد الذي يعاني منه العالم بسبب السياسات الأمريكية، ويسعى التنظيم من خلال هذه اللغة المشحونة بالعاطفة إلى تحفيز مشاعر الغضب والرفض تجاه الغرب. لا يقتصر التنظيم على وصف الأثر المادي للأزمة، بل يحاول إضفاء طابع درامي وخطير عليها، ليجعلها تبدو كما لو أنها بداية لنهاية النظام الاقتصادي العالمي، وهو ما يساهم في تأجيج مشاعر الكراهية والعداء تجاه القوى الغربية ويعزز من التصور بأن الغرب هو عدو يتربص بالمستقبل.
من خلال هذه السردية، يستفيد التنظيم من تصوير السياسة التجارية التي اتبعها الرئيس الأمريكي دونالد ترامب على أنها استعادة لأساليب اقتصادية قديمة فاشلة، ويمثل ذلك تعبيرًا عن الفوضى الاقتصادية التي تسود الغرب. في هذا السياق، يتم استحضار قانون "سموت هاولي" الذي تم تطبيقه في فترة الكساد الكبير في الولايات المتحدة كدليل على أن السياسات الاقتصادية التي يتبعها ترامب ليست جديدة، بل هي تكرار لممارسات أثبتت فشلها في الماضي. الهدف من هذا الطرح هو تعزيز الفكرة التي يسعى التنظيم لترسيخها بأن الغرب يعيش حالة من الفوضى والتخبط الاقتصادي، الأمر الذي يساهم في تصويره كقوة منهارة ستتجه نحو الانهيار الحتمي في المستقبل القريب.
الخطاب الداعشي لا يتوقف عند التحليل الاقتصادي البحت، بل يستخدم هذه التحليلات كأداة لتحفيز مشاعر الرفض والتحريض ضد الغرب، مستغلًا الأزمة الاقتصادية الأمريكية كدافع لتبرير العنف. ففي رأي التنظيم، فإن الفوضى الاقتصادية الناجمة عن السياسات الأمريكية ليست مجرد ظاهرة عابرة، بل هي بداية "التحولات الكبرى" التي تسبق التغيير الجذري في النظام العالمي. التنظيم يعرض هذه التحولات على أنها فرصة تاريخية يجب أن يستعد لها المسلمون، ويحثهم على التسلح بالعنف كوسيلة لتحقيق الأهداف الكبرى. من خلال هذه الدعوات، يسعى التنظيم إلى استغلال الأزمات الاقتصادية لتوجيه رسائل تحريضية تهيئ بيئة مؤاتية لتوسيع نفوذه وأيديولوجيته في المنطقة والعالم.
في النهاية، يصبح الخطاب الداعشي الذي يروج لأزمة اقتصادية كبرى نتيجة "الطاغوت الأمريكي" أداة فعالة للتجييش الأيديولوجي والسياسي. التنظيم لا يكتفي بمجرد التحليل أو التفسير للأحداث الاقتصادية، بل يحولها إلى جزء من استراتيجياته الدعائية التي تهدف إلى تحفيز الجماهير على اتخاذ مواقف متطرفة. هذا الاستغلال للأزمات الاقتصادية يعكس التوظيف السياسي للعناصر الاقتصادية كأداة لصناعة عدو وهمي، مما يساهم في تشويه صورة الغرب ويعزز من الدعوات للتحضير لمعارك "كبرى" يعتقد التنظيم أنها قادمة لا محالة.
تأكيد "الشرعية" الدينية لأيديولوجيا العنف:
ما يميز هذا الخطاب الداعشي عن غيره من الخطابات الأيديولوجية هو استخدامه الفعّال للبعد الديني في تفسير الأزمات الاقتصادية التي يشهدها العالم. التنظيم لا يقتصر في تحليلاته على الأبعاد السياسية أو الاجتماعية فقط، بل يقوم بربط الأزمة الاقتصادية العالمية بالأبعاد الدينية بشكل مباشر، مستعينًا بالآيات القرآنية والأحاديث النبوية التي تحث على مواجهة "الطواغيت" الذين يقودهم النظام الأمريكي. هذا الربط بين الأبعاد الاقتصادية والدينية يجعل من الخطاب أداة قوية تكتسب شرعية دينية، وهو ما يعزز من جاذبيته للمؤيدين والمتعاطفين مع التنظيم، إذ يقدم نفسه كحامل للحق الديني الذي يجب أن يتبعه المسلمون في مواجهة التحديات العالمية.
في سياق هذا الخطاب، يُستشهد بالآيات القرآنية التي تتحدث عن الربا والظلم كأدلة شرعية تدعم الموقف العدائي ضد النظام الاقتصادي العالمي القائم على المبادئ الربوية. على سبيل المثال، تم استحضار الآية الكريمة: "أَفَأَمَنُوا أَنْ يَأْتِيَهُمْ عَذَابُ اللَّـهِ" لتبرير موقف التنظيم الرافض للنظام المالي العالمي الذي يرى أنه قائم على الربا، ويشكل بالتالي ظلمًا يستحق العقاب الإلهي. من خلال هذا الاستخدام الديني، يسعى التنظيم إلى ترسيخ فكرة أن ما يعانيه العالم من أزمات اقتصادية هو بمثابة عقاب إلهي بسبب هذه الممارسات الربوية التي تدر الأموال وتُسهم في تكريس الفساد.
بالإضافة إلى ذلك، يُظهر التنظيم الربط الوثيق بين السياسة والشرعية الدينية في تفسيره للأزمات. فالنظام الأمريكي، الذي يقود العالم الرأسمالي والذي يعتمد على الربا، يُصوَّر على أنه يمثل "الطاغوت" الذي يجب محاربته وفقًا لما نصت عليه الشريعة الإسلامية. هذا الربط بين السياسة والشرع يساهم في تقديم التنظيم كحامل للرسالة الدينية التي تحث على الجهاد ضد هذا النظام، محملاً إياه مسؤولية الفساد الذي يعم العالم. يضيف هذا البُعد الديني قوة إضافية للخطاب، حيث يبدو أن مواجهة هذا النظام ليست فقط ضرورة سياسية، بل واجب ديني لا يمكن للمسلمين التراجع عنه.
علاوة على ذلك، يُقدّم الخطاب الداعشي نفسه كمُجسّد للحق الديني المطلق، مشيرًا إلى أن ما يعانيه العالم من أزمات هو نتيجة للظلم الذي يمارسه النظام الأمريكي وحلفاؤه. هذا التصوير للأزمة الاقتصادية باعتبارها "جهادًا ضد الظالمين" يعزز من مكانة التنظيم كطليعة لمواجهة هذا الظلم، ويساهم في تأطير الأزمات الاقتصادية في سياق ديني يجعلها جزءًا من "حرب الله" ضد الظالمين. وبالتالي، يحاول التنظيم نقل الصراع إلى مستوى وجودي وديني، حيث تكون الأزمات الاقتصادية العالمية بمثابة مقدمة لحرب كبرى يُشرعن من خلالها الجهاد ضد الأنظمة الغربية.
من خلال هذا الخطاب، يصبح من الواضح أن التنظيم لا يسعى فقط إلى تفسير الأزمات الاقتصادية، بل يسعى إلى تسخير هذه الأزمات لتحقيق أهدافه الدينية والسياسية. ربط الأبعاد الاقتصادية بالأبعاد الدينية يضفي على الخطاب مصداقية دينية في عيون المتابعين، ويجعل من الدعوة للجهاد ضد النظام العالمي، الذي يقوده ما يُسمى "الطاغوت الأمريكي"، واجبًا دينيًا لا مفر منه. وهذا النوع من الخطاب يشكل تحديًا كبيرًا في فهم الأزمة العالمية بشكل عام، إذ يجعلها تندرج ضمن سياق ديني يصعب على الكثيرين فهمه بعيدًا عن التفسير الأيديولوجي المتشدد الذي يتبناه التنظيم.
التأثير الاجتماعي والتحولات المحتملة:
الافتتاحية الداعشية لا تقتصر على التحليل الاقتصادي والسياسي فقط، بل تتناول أيضًا الأبعاد الاجتماعية الناجمة عن الأزمة الاقتصادية العالمية، مما يضيف بعدًا جديدًا ومؤثرًا إلى الخطاب. في هذا السياق، يشير التنظيم إلى ما يسميه "التفكك الاجتماعي" المتوقع في الولايات المتحدة وأوروبا نتيجة لتداعيات الأزمة الاقتصادية، مُرَوِّجًا لتوقعات تشير إلى تفشي الجريمة والفقر في هذه الدول. يهدف التنظيم إلى تعزيز الفكرة القائلة بأن النظام الاجتماعي في الغرب على حافة الانهيار، وبالتالي، يُصَوَّر هذا التفكك الاجتماعي باعتباره نتيجة مباشرة للسياسات الاقتصادية الفاشلة التي يتبعها الغرب، بما في ذلك النظام الربوي الذي يُعتبر مسببًا رئيسيًا لهذه الفوضى.
من خلال هذه التوقعات، يسعى التنظيم إلى رسم صورة سوداوية للوضع الاجتماعي في الغرب، حيث يصبح المجتمع هناك مهددًا بالانهيار الأخلاقي والاقتصادي. وفقًا لهذا التصور، فإن الأزمات الاقتصادية ستؤدي إلى زيادة معدلات البطالة والفقر، مما سيسهم في تزايد الجرائم مثل السرقة، القتل، وتجارة المخدرات. هذه الصورة تشكل جزءًا من استراتيجية التنظيم في تشويه الصورة الاجتماعية للدول الغربية، حيث يُقدَّم الغرب على أنه مجتمع متهالك، يعاني من انعدام الأمن الاجتماعي ويعيش في حالة من الفوضى التي تؤدي إلى تدهور كبير في قيمه الأخلاقية.
التنظيم لا يكتفي بالتوقعات المستقبلية، بل يعزز هذه الصورة بالرجوع إلى أزمات سابقة، مثل أزمة كورونا، التي وصفها في وقتها بأنها دلالة على "الهمجية الغربية". كان التنظيم يرى في تفشي الفوضى أثناء الجائحة مؤشراً على ضعف الأنظمة الغربية، التي فشلت في التعامل مع الأزمات، مما أدى إلى ظهور مظاهر الاضطراب الاجتماعي والعنف. وفقًا للخطاب، فإن هذه الأزمات السابقة تعتبر بمثابة نموذج لما قد يحدث إذا استمرت السياسات الاقتصادية الفاشلة، حيث يُتوقع أن تتدهور الأوضاع أكثر وتغرق الدول الغربية في مزيد من الفوضى.
يعمل التنظيم على استغلال هذه التوقعات الاجتماعية السلبية في إطار ترويج صورة أكثر سوداوية لعالم ما بعد الأزمة الاقتصادية. في هذا العالم، يصبح الغرب غارقًا في الفوضى الاجتماعية والسياسية، حيث تتفكك القيم المجتمعية وتهدد الأزمات الاقتصادية استقرار المجتمعات الغربية. هذه الصورة، التي يعرضها التنظيم، تشكل نوعًا من التحفيز الديني والسياسي، حيث يُحاول إبراز فكرة أن هذا الانهيار الاجتماعي هو جزء من معركة كونية بين المسلمين والغرب، مما يعزز من فكرة "الحرب المقدسة" ضد العدو.
الخطاب يهدف إلى تعزيز الفكرة القائلة بأن "العدو" في حالة ضعف، ويجب على المسلمين استغلال هذه الفرصة لمحاربة النظام الغربي الذي يعاني من أزمات داخلية. تصوير المجتمع الغربي على أنه في حالة انهيار يساهم في تعزيز شعور التنظيم بأن المعركة مع الغرب هي معركة وجودية. هذا النوع من الخطاب يُسهم في بناء حالة من الاصطفاف لدى أتباع التنظيم، حيث يُروج لفكرة أن المعركة ضد الغرب ليست مجرد صراع سياسي أو اقتصادي، بل هي صراع وجودي له أبعاد دينية، تشجع على الجهاد باعتباره الرد المناسب على هذا التفكك الاجتماعي المزعوم.
الافتتاحية كأداة لتحفيز الجهاد:
أهم ما يميز الافتتاحية الداعشية هو استخدامها المتقن للأحداث السياسية والاقتصادية، ليس فقط للهجوم على الغرب، بل أيضًا لتحفيز الأفراد على الانضمام إلى "الجهاد" باعتباره الحل النهائي لجميع الأزمات التي يواجهها المسلمون. في هذه الافتتاحية، تتشابك التحليلات الاقتصادية، مثل فرض الرسوم الجمركية أو الحرب الاقتصادية بين الدول الكبرى، مع الدعوات المباشرة وغير المباشرة إلى ضرورة الانخراط في المعركة المقدسة ضد "الأنظمة العالمية" التي يعتبرها التنظيم عدوًا للإسلام. هذه الاستراتيجيات الدعائية ترتكز على تصوير الأحداث الراهنة على أنها علامات على قرب النهاية للنظام الغربي، وأن المجاهدين هم فقط القادرون على إيقاف هذه الموجة الهائلة من الانهيارات السياسية والاقتصادية.
من خلال تسليط الضوء على الأزمات الاقتصادية التي يسببها "الطاغوت الأمريكي" و"الصليبيون"، يهدف التنظيم إلى نقل القارئ إلى قناعة مفادها أن الوقت قد حان لاتخاذ موقف حازم ضد هذه القوى، ولتعبئة الجهود الدينية والجهادية. هذا التوظيف السياسي والاقتصادي يخلق شعورًا بوجود خطر محدق يجب التصدي له من خلال الجهاد، ويربط بشكل واضح بين التحديات الاقتصادية الكبرى والحاجة الماسة إلى تحرك جهادي على الأرض. في هذه الحالة، يصبح الجهاد ليس فقط وسيلة للدفاع عن الإسلام، بل أداة لتحقيق العدالة وإزالة النظام الظالم الذي يراه التنظيم مُهيمنًا على العالم.
تستمر الافتتاحية في تصوير "المجاهدين" كطائفة منقذة، تم اختيارها من قبل الله للوقوف في وجه هذا "الطاغوت". من خلال هذا السرد، يروج التنظيم لفكرة أن المجاهدين ليسوا مجرد مقاتلين، بل هم أبطال مُقدَّرون في معركة وجودية كونية ضد قوى الشر، المتمثلة في الغرب والأنظمة المتحالفة معه. هذه الصورة المثالية للمجاهدين تقوم على تصويرهم كحماة للأمة الإسلامية، ومجددين لها في لحظة تاريخية فارقة. هذه الإيديولوجيا المتطرفة تُستخدم بشكل متكرر لتعبئة الأتباع وتحفيزهم على اتخاذ خطوات ملموسة نحو الانضمام إلى صفوف المجاهدين، باعتبارهم الطائفة المنصورة التي ستقود العالم إلى بر الأمان.
بجانب هذا التوظيف الإيديولوجي، تسعى الافتتاحية إلى خلق حالة من الاضطراب والتوتر داخل المجتمعات المسلمة، من خلال إشعارهم بأن الوضع العالمي يتطلب استجابة جهادية سريعة وحاسمة. هذه الدعوة تتجاوز التحليل السياسي الاقتصادي لتصبح دعوة شاملة للجهاد الذي يُصور على أنه الحل النهائي للانتصار على الأعداء. التنظيم يعرض نفسه كممثل حقيقي للإسلام، ويُروج لخطاب ديني يربط بين الحق الإلهي والقتال ضد "الطاغوت". في هذه المرحلة، يصبح الانخراط في الجهاد ليس مجرد خيار، بل واجبًا دينيًا مُلحًا، وهو ما يحاول التنظيم غرسه في أذهان أتباعه.
الافتتاحية أيضًا تُظهر كيف يمكن استخدام الأحداث العالمية الكبرى كفرص للتجنيد، حيث يتم تحويل الأزمات الاقتصادية والظروف السياسية إلى أدوات لتحفيز الشباب المسلم على المشاركة في الجهاد. يشير الخطاب إلى أن المواجهة مع الغرب ليست مجرد صراع اقتصادي أو سياسي، بل هي صراع نهائي سيحسمه المجاهدون الذين هم الطائفة المنصورة، مما يعزز من فكرة أن المجاهدين في الحرب ضد الغرب هم المحاربون الذين سيُعيدون الأمور إلى نصابها، ويحققون النصر النهائي للإسلام. هذا السرد يشجع على رؤية الجهاد كوسيلة حتمية لإنقاذ الأمة الإسلامية من فخاخ النظام العالمي الذي يراه التنظيم فاسدًا وغير صالح.
قراءة نقدية للخطاب التحريضي:
افتتاحية العدد 491 من صحيفة النبأ تكشف عن براعة تنظيم داعش في استغلال الأزمات الاقتصادية والسياسية ليس فقط لتقديم تحليل للأوضاع، بل لتعزيز وتوجيه الخطاب الديني المتطرف نحو تحفيز العنف والجهاد. التنظيم لا يكتفي بتشخيص الواقع السياسي والاقتصادي، بل يقوم بتوظيف هذه الأزمات كدعامات أساسية لترسيخ فكرة "العدو الوجودي" الذي يجب محاربته. من خلال استغلال الأحداث الكبرى مثل الأزمات الاقتصادية والتوترات السياسية، يسعى التنظيم إلى تغذية خطابات الكراهية والتمرد على النظام العالمي، ما يعزز من شعور الإحباط لدى المتلقين ويساعد في دفعهم نحو تبني رؤى أيديولوجية متطرفة.
هذه الافتتاحية تشكل جزءًا من معركة أيديولوجية مستمرة تهدف إلى إعادة تشكيل الوعي الجماعي للشباب المسلمين، حيث يتم استخدام الأزمات العالمية كأدوات دعائية لخلق بيئة مواتية لتجنيدهم في صفوف التنظيم. التنظيم يُعزز فكرة أن العنف والجهاد هما السبيل الوحيد لمواجهة الهيمنة الغربية والظلم الذي يروج له النظام العالمي. من خلال هذه السردية، يضع داعش نفسه كحامٍ للإسلام ومجدد له، مما يجعل الدعوة للجهاد جزءًا أساسيًا من التحفيز للمشاركة في معركة مسلحة ضد ما يُعتبر تهديدًا لوجود الأمة الإسلامية.