من فتاوى الدم إلى شيطنة التعزية: داعش يصعّد خطابه بعد وفاة البابا

الجمعة 25/أبريل/2025 - 11:07 م
طباعة من فتاوى الدم إلى حسام الحداد
 
في افتتاحيتها الصادرة يوم الخميس 24 أبريل 2025، ضمن عددها 492، تواصل صحيفة النبأ الناطقة باسم تنظيم داعش ترسيخ خطابها العقائدي المتشدد، بلغة مشحونة بالتكفير وعداء واضح لكل من لا ينتمي إلى بنية التنظيم المغلقة. فالافتتاحية لا تقدم مجرد تحليل ديني أو رأي فقهي، بل تصوغ رؤية شمولية تقسم العالم إلى فسطاطين متقابلين: مؤمنون ملتزمون بمنهج التنظيم، وكفار مرتدون أو متواطئون، سواء كانوا من غير المسلمين أو من داخل الأمة الإسلامية نفسها.
اللافت في هذا الطرح أن الاستهداف لا يقتصر على "الآخر" غير المسلم، بل يتسع ليطال كل من يخالف التنظيم من المسلمين، حتى لو كان من أهل العلم أو ممن يعملون في الدعوة والإصلاح. فالافتتاحية تهاجم المؤسسات الدينية التقليدية، وتعتبرها خاضعة لما تسميه "الإسلام الرسمي"، في مسعى واضح لإلغاء كل مرجعية دينية لا تتماهى مع تأويلات داعش المتطرفة. إنه منطق إقصائي يَستبطن نزع الشرعية عن المجتمع المسلم نفسه إن لم يخضع كليًا لأحكام التنظيم.
ولا يمكن فهم هذه الافتتاحية دون الإشارة إلى التقاطع العميق بين منطلقات داعش الفكرية وبعض أدبيات التيار السلفي، خاصة ما يُعرف بـ"السلفية الجهادية". فكلا التيارين يتبنى تقسيم العالم إلى "دار إسلام" و"دار كفر"، ويشتركان في المفاهيم الجوهرية مثل الولاء والبراء، والحاكمية، وتكفير الحكومات والمجتمعات. بل إن تنظيم داعش يمضي بهذه المفاهيم إلى أقصاها، فيُكفّر المخالف، ويفرض السيف والدم كأداة وحيدة للحوار.
افتتاحية النبأ ليست مجرد مقال صحفي بل تمثل بيانًا تعبويًا ذا طابع دعائي يهدف إلى إعادة ترسيخ منطق "العداء الدائم"، من خلال تحوير الدين إلى أداة حرب شاملة ضد أي محاولة لفهم الإسلام ضمن سياقات العصر. إن هذا الخطاب يجرّد الآخر – مهما كان قريبًا – من إنسانيته، ويقدمه كخصم وجودي يستحق الإقصاء أو الإبادة، في تكريس لمنهج يقوم على القطيعة المطلقة مع كل أشكال التعايش أو التعدد.
لا يمكن فصل هذه الافتتاحية عن اللحظة الزمنية والسياسية التي نُشرت فيها. فبينما يشهد العالم حوارات متنامية حول التسامح الديني والتقارب بين الشعوب، يصرّ تنظيم داعش على الدفع بخطاب عدمي يرى في كل تقارب "خيانة" وفي كل دعوة إلى الرحمة "تمييعًا للعقيدة". بهذا، تتحول الصحيفة إلى منصة تحريض ممنهج، لا همّ لها سوى التجييش والتجنيد وإعادة إنتاج الكراهية باسم الدين، في تطابق مخيف مع بعض التيارات السلفية المتشددة التي تشارك التنظيم في الرؤية ذاتها، ولو اختلفت في الأدوات.

مصادرة الدين لصالح "الحق المطلق"
افتتاحية صحيفة النبأ، الناطقة باسم تنظيم داعش، لا تتعامل مع حدث وفاة البابا فرنسيس بوصفه خبراً عابراً، بل تجعله مناسبة لتأكيد عقيدة "الولاء والبراء" باعتبارها حجر الزاوية في فهم العالم من منظور التنظيم. فالمقال لا يميز بين الجانب العقائدي والجانب الإنساني، ويرفض أي شكل من أشكال التفاعل أو المجاملة التي قد تُفهم على أنها "تليين" في المفاصلة مع الآخر غير المسلم، حتى وإن تعلقت بتقديم تعزية أو الإشادة بموقف إنساني تجاه مأساة مثل غزة. وفق هذا المنظور، لا مكان لمشاعر التعاطف أو الاعتراف بالإنسانية المشتركة، بل كل شيء يُوزن بميزان الولاء الكامل للعقيدة أو البراء المطلق من "الكفر وأهله".
ما يميز المقال ليس فقط مضمونه الإقصائي، بل أيضًا لغته الحادة التي تمثل انعكاسًا صريحًا لفكر داعش المتطرف. فالأوصاف التي ترد في النص مثل "أئمة الكفر"، و"أبواق فاتيكانية"، و"شمائل إبليسية"، تكشف عن خطاب لا يكتفي بالتكفير العقائدي، بل يصب جام ازدرائه على المخالفين سواء كانوا مسيحيين، أو مسلمين يخالفون التنظيم في رؤيته الدينية والسياسية. هذا النوع من اللغة لا يهدف فقط إلى التعبئة والتحريض، بل يسعى كذلك إلى شرعنة العنف الرمزي والمادي ضد كل من يخرج عن الخط العقائدي المتشدد الذي يرسمه التنظيم.
من الواضح أن "النبأ" لا ترى في وثيقة الأخوة الإنسانية التي وقعها الأزهر والفاتيكان عام 2019 سوى غطاء لمحاولة "تمييع الإسلام"، بحسب تعبيراتهم الضمنية، وتحويله من دين قائم على التوحيد والمفاصلة، إلى مجرد إطار ثقافي عام يقبل التعايش مع الأديان الأخرى. بالنسبة لداعش، أي انفتاح على مفاهيم الحوار والتسامح هو خيانة للعقيدة وتفريط في جوهر الدين. ولذلك، يشن المقال هجومًا حادًا على الأزهر، ويتهمه بأنه شريك في الحرب على "نقاء التوحيد"، تمامًا كما يتهم مدينة الإنتاج الإعلامي بأنها تهدم الأخلاق.
ما يطرحه المقال لا يمكن عزله عن أدبيات التيار السلفي، خاصة السلفية الجهادية التي تتبنى ذات المفاهيم العقائدية حول الولاء والبراء، والموقف من الكفار، ورفض التعددية الدينية والثقافية. فالكثير من الأفكار التي يبني عليها داعش خطابه، لها جذور في المدونة السلفية، وإن اختلفت في التطبيق أو في الدرجة. هذا التقارب يُفسر كيف استطاع التنظيم استقطاب عدد كبير من الشباب المتشبعين بالفكر السلفي التقليدي، ثم نقلهم إلى مربع التكفير والقتال. كما يُفسر أيضًا تساهل بعض الدوائر السلفية في إدانة داعش بشكل واضح، إذ ترى في التنظيم انحرافًا في الوسائل لا في الأصول.
أخطر ما في هذا الخطاب، أنه يوظف الدين لتكريس صراع وجودي لا يقبل سوى بلون واحد من الإيمان والولاء. فكل رموز المخالفين، سواء كانوا بابا الفاتيكان أو شيوخ الأزهر، يُعاد تأطيرهم بوصفهم "طواغيت"، حتى لو قدموا مواقف إنسانية مشرفة تجاه قضايا عادلة مثل فلسطين. هذا الإصرار على شيطنة الآخر وتكفيره بالكامل، يعكس ليس فقط ضيق الأفق الديني، بل أيضًا إرادة تحويل الدين إلى سلاح هووي يخوض معركة ضد التعددية والإنسانية، باسم "التوحيد". في النهاية، تتحول العقيدة في يد التنظيم إلى أداة للعزل والإقصاء، لا للتبشير ولا للإصلاح.

شيطنة الآخر، وتجريم التعايش
تُظهر النبأ، لسان حال تنظيم داعش، مستوى عميقًا من العدائية تجاه أي تعبير إنساني عن الاحترام أو المواساة تجاه غير المسلمين، حتى لو كان في سياق تعزية بوفاة البابا فرنسيس، الذي لم يُعرف عنه عداء للإسلام، بل كان من أبرز الأصوات المنادية بالحوار بين الأديان. بالنسبة للتنظيم، لا يجوز مجرد الإشارة إلى موقف إيجابي لشخص غير مسلم، لأن ذلك يُعد في تصورهم "خيانة عقدية" و"تمييعًا للتوحيد". هذا الموقف يعكس فهمًا متشددًا للدين، يُجرد الإنسان من إنسانيته إذا لم يكن على عقيدة التنظيم، بل يراه خصمًا في معركة وجودية لا هوادة فيها.
الربط بين التعزية في وفاة البابا وبين "الانحراف العقدي"، ليس موقفًا عابرًا، بل تعبير عن بنية خطابية ترى في الكراهية عقيدة، وفي العزلة واجبًا دينيًا. فكل مبادرة للحوار، وكل محاولة للتعايش، يُعاد تفسيرها على أنها "تواطؤ" مع قوى الشر العالمي، أو تهاون في قضايا العقيدة. هذا النوع من الخطاب يعيد إنتاج مقولات تقليدية لدى التيار السلفي، خصوصًا ما يسمى بـ"الولاء والبراء"، حيث يُفرض على المسلم ألا يُبدي أي نوع من القرب العاطفي أو المجتمعي من غير المسلم، حتى وإن كان ذلك بدافع أخلاقي أو إنساني.
المقال لا يتوقف عند استهداف الفاتيكان، بل يوجه سهامه إلى الأزهر والمؤسسات الدينية التقليدية التي تتبنى خطابًا وسطيًا. ويتهمها صراحة بأنها متورطة في "تهديم الإسلام"، من خلال مشاركتها في مبادرات الأخوة الإنسانية والحوار بين الأديان. هذا الطرح يندرج ضمن أسلوب داعش المعروف في ضرب المراجع الإسلامية الكبرى، وتجريدها من شرعيتها، لصالح فرض مرجعية التنظيم وحده كـ"الفرقة الناجية". وبذلك يتحول الأزهر من صرح علمي إلى "أداة مؤامرة"، وفق سردية التنظيم، تُستخدم لتخدير المسلمين عن "الخطر الداهم".
الطرح الداعشي لا يأتي من فراغ، بل يجد جذوره في البيئة السلفية، التي لطالما أعلت من شأن "المفاصلة العقدية" ورفضت الاعتراف بأي مشترك إنساني مع أهل الأديان الأخرى. فعلى الرغم من أن التيار السلفي التقليدي قد لا يتبنى العنف بشكل صريح، إلا أن كثيرًا من مفاهيمه التأسيسية تُستخدم كبنية تحتية لفكر داعش. الفرق هنا ليس في نوعية الفكرة، بل في طريقة تطبيقها: فالسلفي التقليدي قد يدعو للمفاصلة نظريًا، أما داعش فتجعل منها سببًا للقتال والتفجير والقتل الجماعي. هذا التداخل يُسهم في تهيئة البيئة لتطرف تدريجي، يبدأ من منبر الوعظ وينتهي في ميدان القتال.
أخطر ما يطرحه هذا الخطاب، أنه يوسع مفهوم الردة والخيانة ليشمل كل من يخالف التنظيم في رؤيته الدينية أو السياسية. فحتى إظهار الاحترام لموت رجل دين مسيحي يُعد دليلاً على "انحراف"، وربما سببًا لتكفير صاحبه. هذا التطرف في تصنيف المواقف يشرعن صدامًا دائمًا مع الآخر، ويمنع أي إمكانية لبناء جسور تفاهم أو عيش مشترك. في النهاية، يتجلى الطرح الداعشي في صورته العارية: ليس فقط كتنظيم مسلح، بل كمنظومة فكرية ترى العالم مقسومًا بين طائفة "الحق المطلق"، وكل من سواها في خانة "الخيانة العقدية" و"الردة عن الإسلام".
ازدواجية المعايير وضياع البوصلة
ما يغيب تمامًا عن كاتبي هذه الافتتاحية هو إدراك التحولات التي يشهدها العالم، وضرورة التمييز بين العقيدة كإيمان، والسياسة كأداة تعايش. فالهجوم العنيف على المؤسسات الدينية الإسلامية مثل الأزهر، واتهامه بأنه "أخطر من مدينة الإعلام"، لا يُظهر سوى هلع التنظيم من كل محاولات التنوير أو الاجتهاد أو تجديد الخطاب الديني.
وللمفارقة، تهاجم الصحيفة موقف البابا من المثليين، لكن ليس من منطلق الدفاع عن "الأخلاق"، بل كوسيلة لنسف صورته بالكامل، رغم أنه – وفق نفس الافتتاحية – "رفض ربط الإرهاب بالإسلام"، وهو الموقف الذي كان من المفترض أن يخفف من عداء التنظيم تجاهه!

الإعلام "الجاهلي".. فزاعة داعش المفضلة
في افتتاحيتها، تواصل صحيفة النبأ إنتاج خطاب متشنج تجاه وسائل الإعلام، واصفة إياها بـ"الجاهلية"، ومتهمة إياها بـ"السحر" و"ضرب قداسة الإسلام". لا يتحدث التنظيم هنا عن الإعلام بوصفه سلطة رابعة أو أداة توجيه جماهيري، بل كخصم عقدي يجب محاربته. هذا النوع من الخطاب يعكس رغبة التنظيم في عزل أتباعه عن أي مصادر معرفة بديلة، وترسيخ ثقافة المؤامرة، حيث الإعلام ليس مجرد ناقل للخبر، بل جزء من منظومة "كفرية" تسعى لـ"تشويه الحق وتغييب النور"، وفق تعبيراتهم.
يعيد التنظيم عبر هذا الطرح إنتاج سردية "القلعة المحاصرة"، وهي سردية شائعة في أدبيات الحركات الراديكالية عمومًا. فالعالم من وجهة نظرهم ليس إلا دائرة من الأعداء، والإعلام يمثل رأس الحربة في هذه المؤامرة الكونية. هذا التصور يُغذي مشاعر الاضطهاد، ويُبرر التطرف بوصفه رد فعل على "عدوان دائم"، مما يسهل على التنظيم احتكار الخطاب، ونزع المشروعية عن كل من يخالفه في التفسير أو المنهج.
الأخطر في هذا الخطاب ليس فقط اتهام الإعلام بالكذب أو التضليل، بل تكفيره. فكل من يعمل في مؤسسات الإعلام، بل وكل من يتلقى خطابه دون رفض علني، يُوضع في خانة العداء للدين، بما يشمل حتى الدعاة والعلماء الذين لا يسيرون في ركاب التنظيم. وهنا تتحول الخلافات الفكرية أو الاجتهادية إلى "خيانة كبرى"، وتُفتح أبواب التكفير بلا ضوابط، لتتحول إلى أداة للاغتيال المعنوي، تمهيدًا للاغتيال المادي إن لزم الأمر.
هذا العداء المطلق للإعلام لا ينفصل عن مواقف سلفية تقليدية طالما اتهمت الإعلام الحديث، لا سيما المرئي والمسموع، بأنه من "أدوات الفتنة". فقد تبنّى التيار السلفي في بداياته موقفًا رافضًا للإعلام، باعتباره وسيلة لنشر "البدع"، و"المجون"، و"التغريب"، وهو موقف خفت حدته لاحقًا لكنه ظل مؤثرًا في البنية الذهنية لتيارات السلفية الجهادية. داعش لا يبتدع خطابًا جديدًا هنا، بل يستكمل مسارًا موجودًا، ويمنحه بعدًا قتاليًا أكثر عنفًا.
من خلال وصم الإعلام، يُحاول التنظيم أن يهيمن على المجال المعرفي لأتباعه، فلا يسمعون إلا صوته، ولا يتلقون إلا خطابه، في عملية إغلاق ممنهجة للعقل والفكر والمصادر. إنه خطاب لا يكتفي بالتحذير من الإعلام، بل يشيطنه ويجرّمه ويكفره، ما يؤدي إلى نتائج كارثية على بنية المجتمع الديني والفكري. والنتيجة هي خطاب أحادي، يرفض التعدد، ويقدّس العنف، ويعتبر الرأي المخالف جريمة تستحق العقاب.

تاثير هذا الخطاب على تنامي التطرف
تبدأ افتتاحية النبأ بتعزيز الإحساس بأن التنظيم وأتباعه محاصرون في عالم معادٍ، حيث يُشيطن الإعلام، وتُكفر المؤسسات، ويُحرض على كل مختلف. هذا الخطاب يُغذي عقلية "الضحية" لدى المتلقي، ويعمّق شعوره بالعزلة عن المجتمع والدولة والعالم، وهو شعور يمهّد الطريق نفسيًا لقبول التطرف كوسيلة لاستعادة "الكرامة" أو "الحق المسلوب".
من خلال نزع الإنسانية عن المخالفين، سواء كانوا غير مسلمين أو مسلمون لا يتبنون منهج التنظيم، تُصبح فكرة الاعتداء عليهم، أو حتى قتلهم، مبررة دينيًا وأخلاقيًا. الأوصاف التي تستخدمها الافتتاحية مثل "أئمة الكفر" و"أبواق فاتيكانية" ليست مجرد تهكم لغوي، بل أدوات لتحويل الآخر إلى "هدف مشروع" للتصفية، وهو ما يسهل عمليات التجنيد والتحريض.
الخطاب يبني هوية جماعية متماسكة ومغلقة، تعيد تعريف الولاء والانتماء بناءً على طاعة التنظيم لا العقيدة الإسلامية الجامعة. في هذه الهوية، لا قيمة للروابط الوطنية أو العائلية أو حتى الإنسانية. هذا النوع من الهوية يكون أكثر استعدادًا للانخراط في نشاطات متطرفة، لأنه لا يرى في الخارجين عنها إلا أعداء يستحقون العقوبة أو الإقصاء.
عبر تسفيه مفاهيم مثل "الأخوة الإنسانية" أو "التعايش"، يعيد التنظيم إنتاج العقيدة على مقاسه. يُصور الرحمة على أنها تمييع، والتسامح على أنه خيانة، والعقلانية على أنها زندقة. هذه الرسائل تُربك فهم الشباب غير المتعمق في الدين، وتدفعهم للاعتقاد بأن التطرف هو وحده التعبير الصحيح عن التدين والتمسك بالعقيدة.
الخطاب العاطفي المشحون بالكراهية والغضب يُستخدم كمحفز مباشر للتجنيد، خاصة في الأوساط التي تعاني من تهميش أو تشوش هوياتي. فحين يُغذى المتلقي بفكرة أن الإسلام مُحارب، وأنه لا خلاص إلا بالجهاد على طريقة التنظيم، يتحول هذا الشعور إلى طاقة عنف كامنة تبحث عن مخرج، وغالبًا ما يكون هذا المخرج هو التجنيد لصالح الجماعة.

خلاصة القول
تجسّد افتتاحية النبأ في عددها 492 المدى العميق للعزلة الفكرية التي بات يعيشها تنظيم داعش، حيث لا وجود لأي منطقة وسطى بينه وبين الآخرين. فالعالم بالنسبة له إما دار إيمان خالص على مقاسه، أو دار كفر محض لا تستحق إلا النفي أو القتال. هذا التمترس خلف منطق "الثنائية الصفرية" يعكس رؤية مغلقة للكون والناس، لا تعترف بالتنوع البشري ولا بحق الآخر في الاختلاف، حتى ضمن الدائرة الإسلامية.
ما تقدمه الافتتاحية ليس رأيًا متشددًا أو تأويلاً صارمًا لبعض النصوص، بل هو إعلان عداء صريح لقيم التعايش، والحوار، والرحمة، التي شكّلت روح الإسلام عبر قرونه. إنه خطاب ينزع عن الدين بُعده الحضاري والإنساني، ليحوّله إلى أداة قطيعة شاملة مع العالم. هذه السردية ليست دعوية، بل مشروع استئصال فكري يهدف إلى تفجير الروابط المشتركة بين البشر باسم الدين.
ما يطرحه التنظيم في هذا الخطاب لا يبتعد كثيرًا عن الأدبيات السلفية التي تقوم على تقسيم العالم إلى "معسكر توحيد" و"معسكر شرك"، حيث تُختزل العلاقات البشرية في منظومة "الولاء والبراء". فتيارات من السلفية التقليدية، وإن لم تنخرط في العمل المسلح، تشترك مع داعش في رفض "الأخوة الإنسانية" والتهوين من قيمة "العيش المشترك" مع غير المسلمين، مما يوفّر الأرضية النفسية والفقهية التي تستغلها الجماعات العنيفة في التجنيد والتحريض.
الافتتاحية تعبّر عن نزعة لتفكيك كل أشكال الانتماء الاجتماعي، من الأسرة إلى الأمة، لصالح رابطة متخيلة تُبنى فقط على السمع والطاعة للتنظيم. وفي هذا السياق، يُشيطن كل من يدعو إلى التسامح، ويُخوّن من يحاول بناء جسور مع الآخر، حتى لو كان من داخل الأمة الإسلامية. وهكذا يتحول النقاء العقدي إلى أداة لتمزيق المجتمع لا لتقويته، ولزرع الفتنة بدل السكينة.
ختامًا، يكشف هذا النوع من الخطاب أن معركة الفكر لا تزال قائمة، بل تتجدد في صور أكثر خطورة في ظل التحولات الرقمية وسرعة الانتشار. مواجهة سرديات العنف والتكفير لا يمكن أن تقتصر على الردود الأمنية أو الدينية التقليدية، بل تحتاج إلى تجديد الخطاب الديني، وتعزيز حضور العلماء والمفكرين في الفضاء العام، وتطوير إعلام يفضح منطق الجماعات المتطرفة، ويستعيد روح الإسلام السمحة التي تسعى للبناء لا للهدم.

شارك