قراءة نقدية في حوار الدكتور برهان غليون: بين تفاؤل الإرادة وتشاؤم الواقع
الأحد 27/أبريل/2025 - 12:00 م
طباعة
في حوار مطوّل على موقع ألترا سوريا ونشر على موقع صفحات سورية في 17 أبريل الجاري، مع المفكر السوري الدكتور برهان غليون، تكشفت أمامنا رؤية متماسكة وجريئة لمستقبل سوريا، جمعت بين روح التفاؤل الصادق واستشراف واقعي للتحديات الهائلة. حاول غليون تقديم إجابات عقلانية وعاطفية معًا عن أسئلة مصيرية تتعلق بالانتقال السياسي، وإعادة بناء الدولة، وتحقيق الديمقراطية في مجتمع منكوب بالانقسام والاستقطاب. غير أن هذا التفاؤل، وإن كان ضروريًا لحمل الشعوب على العمل والتغيير، لا يخلو من مواضع إشكالية، تحتاج إلى تحليل دقيق.
سوريا الجديدة.. ولادة أم ولادة متعثرة؟
ينطلق غليون من تشبيه شديد البلاغة: يرى أن سوريا اليوم تولد من جديد، مستندًا إلى الرغبة الشعبية العارمة في التحرر من القهر والاستبداد. إلا أن هذا التصوير الرمزي للواقع قد يغفل عمق الجروح البنيوية التي أصابت المجتمع السوري، إذ إن الولادة الجديدة تفترض توافر بيئة سليمة لنمو الجنين الجديد، بينما سوريا ما تزال غارقة في الفوضى والتدخلات الأجنبية وانقسام الولاءات.
من هنا، كان يمكن للحوار أن يطرح بوضوح سؤالاً إضافيًا: هل الولادة التي تحدث عنها غليون هي ولادة طبيعية أم قيصرية أم ولادة قسرية؟ وهل تكفي إرادة الحياة وحدها لتجاوز الكوارث البنيوية، أم أن غياب مشروع وطني جامع قد يجعل هذه الولادة محفوفة بالمخاطر؟
التوتر الطائفي.. قراءة دقيقة ولكن..
يشخّص غليون بدقة أن التوتر الطائفي ليس ظاهرة متجذرة في بنية المجتمع السوري، بل نتاج عقود من التلاعب السياسي بالهويات الدينية والإثنية. وهو تشخيص صائب تاريخيًا. لكنه في مقاربته للعلاج، يعوّل كثيرًا على الإجراءات القانونية (قوانين تجريم الكراهية والعنصرية)، والعدالة الانتقالية، والحوار الأهلي.
غير أن التجربة المقارنة في بلدان عانت من نزاعات أهلية (مثل البوسنة، أو العراق بعد 2003) تُظهر أن سن القوانين وحده ليس كافيًا، إذا لم يكن مقترنًا بعملية مصالحة مجتمعية عميقة تتضمن إعادة بناء سرديات وطنية جديدة تتجاوز الماضي، وتفكيك البنى العنيفة التي رسّخت الانقسام الطائفي، وهو ما لم يطرحه الحوار بشكل مفصل.
التفاؤل الجيوسياسي.. قراءة قد تكون مبالغة
يتحدث غليون عن تلاقي مصالح السوريين مع القوى الدولية والإقليمية الراغبة بالاستقرار كعامل مساعد على الخروج من الأزمة. وهذه قراءة متفائلة، لكنها تتغافل عن الطابع البراجماتي لتلك القوى، التي قد ترى في استمرار تفكك سوريا ضمانًا لمصالحها أكثر من رؤيتها في وحدتها واستقرارها.
لقد تجاهل غليون (أو قلّل من شأن) حقيقة أن كثيرًا من اللاعبين الدوليين والإقليميين ينظرون إلى سوريا كساحة نفوذ وصراع مفتوح أكثر من كونها دولة ذات سيادة يجدر دعم إعادة بنائها. وكان من الضروري لو عُزز هذا التحليل بقراءة أكثر نقدية لدور القوى الكبرى في إدامة الصراعات.
الديمقراطية.. طريق فريد أم مأزق التخصيص؟
أصاب غليون حين أصرّ على أن الديمقراطية ليست وصفة جاهزة ولا نموذجًا يُستنسخ، بل معركة معقدة تخاض ضمن خصوصيات المجتمع. وهو بذلك ينأى عن الطروحات التبسيطية التي تنقل التجارب الغربية بشكل ميكانيكي إلى بيئات أخرى.
مع ذلك، يلاحظ أن غليون ينحاز إلى نموذج تدريجي طويل المدى يقوم على بناء الديمقراطية من القاعدة عبر انتخابات محلية ونقابية تدريجية. ورغم وجاهة هذا الطرح، يبقى سؤالان معلقان:
هل تسمح القوى المسلحة والمليشيات النافذة أصلًا بنشوء مثل هذه التجارب اللامركزية الديمقراطية؟
وهل يملك المجتمع المدني السوري الحالي قوة كافية للصمود في وجه منطق العنف والهيمنة وسط انقسامات أفقية وعمودية واسعة؟
أدوار النخب.. المهمة المؤجلة؟
يشير غليون إلى أهمية دور النخب المثقفة والسياسية في تنوير المجتمع وتدريبه على العمل الديمقراطي، وهي ملاحظة جوهرية. لكن الواقع يكشف أن جزءًا مهمًا من هذه النخب إما تم تهجيره قسرًا، أو فقد تأثيره الجماهيري، أو تورط في صراعات أيديولوجية ضيقة، أو اصطدم بواقع أمني خانق.
هنا يغيب عن الطرح سؤال مركزي: كيف يمكن إعادة بناء نخب وطنية جديدة تعبّر عن الطموحات الشعبية وتنتشل العمل السياسي من مستنقع الشعبوية أو الولاءات الضيقة؟
بين الممكن والضروري
يعبر حوار الدكتور برهان غليون عن حاجة ماسة إلى خطاب يعيد الاعتبار إلى إرادة الحياة والتفاؤل بإمكانات المستقبل. وهو يتميز بعمق الرؤية وإنصاف التحليل. ومع ذلك، فإن إغفال بعض العوائق البنيوية، والاعتماد على معطيات قد تكون مفرطة في التفاؤل، يستدعي طرح مقاربة مكمّلة أكثر براجماتية وجذرية معًا.
سوريا المستقبل تحتاج إلى ما هو أكثر من إرادة الحياة: تحتاج إلى مشروع وطني صبور، متدرج، ولكنه أيضًا غير موهوم بمثالية المصالح الدولية أو بتلقائية التحولات الديمقراطية.
ففي عالم اليوم، كما في الأمس، لا ينتصر إلا أولئك الذين يوازنون بين الحلم والعمل، بين الفكرة والقوة.