الجولاني بين "البراجماتية" والخيانة في خطاب داعش

الجمعة 11/يوليو/2025 - 12:47 ص
طباعة الجولاني بين البراجماتية حسام الحداد
 
في العدد 503 من صحيفة النبأ، الصادرة عن تنظيم "داعش" مساء الخميس 10 يوليو 2025، تظهر ملامح تحول لافت في خطاب التنظيم، عبر افتتاحية محمّلة بالرمزية والاتهامات اللاهبة، تتناول قرار الإدارة الأمريكية بإعادة النظر في تصنيف "هيئة تحرير الشام" كمنظمة إرهابية. لا تقف الافتتاحية عند حدود التعليق السياسي، بل تتجاوزها إلى إنتاج خطاب عقدي متوتر يعيد رسم خريطة الأصدقاء والأعداء، في لحظة تشهد فيها الساحة الجهادية والإقليمية تقلبات حادة، أبرزها التقارب الروسي مع "إمارة طالبان"، وازدياد عزلة داعش في سوريا وخارجها.
هذا المقال يحاول تفكيك الخطاب الداعش كما جاء في الافتتاحية عبر خمسة محاور رئيسية: قراءة في السياق الزمني والسياسي الذي ولدت فيه الافتتاحية. تحليل الرسائل الظاهرة التي يروّج لها التنظيم بشكل مباشر. استعراض المسكوت عنه في النص، وما يخفيه من تناقضات وغياب للمراجعة الذاتية. قراءة في الآليات البلاغية والخطابية المستخدمة لتأطير الخصوم وتمجيد الذات. وأخيرًا، الوقوف على الأثر المحلي والإقليمي لهذا النوع من الخطاب، وصولًا إلى خاتمة تتأمل في دلالات اعتماد "خطاب الأمل" في لحظة انكشاف المشروع وفقدان الأرض والشرعية.

السياق الزمني والسياسي للخطاب
افتتحت "النبأ" عددها 503 في توقيت حساس أعقب سلسلة من المؤشرات الأمريكية التي تفيد بإعادة النظر في تصنيف هيئة تحرير الشام، التابعة لأبي محمد الجولاني. هذه الخطوة لم تأتِ من فراغ، بل تعكس تحوّلًا تدريجيًا في سياسة واشنطن تجاه بعض الفاعلين الجهاديين المحليين الذين نجحوا -حسب الرؤية الأمريكية- في "الانفصال السلوكي" عن التنظيمات المصنفة إرهابية مثل القاعدة وداعش، وتبني خطاب أكثر "براغماتية" ومرونة. هذا التحول أثار حفيظة تنظيم داعش، الذي قرأ الخطوة كإعلان واضح عن تصفية سياسية لمشروعه، وتمييع للحدود العقدية التي طالما رفعها.
في الوقت نفسه، أعلنت موسكو اعترافها الرسمي بإمارة طالبان، بعد سنوات من التعامل الأمني الضمني معها، مما فتح الباب لتأويلات عديدة حول تقاسم النفوذ والتكتيك بين القوتين العظميين. بالنسبة لتنظيم داعش، لم يكن هذا الاعتراف مجرد قرار دبلوماسي، بل "تكريس لاحتواء المرتدين" كما وصفته الصحيفة، في إشارة إلى أن طالبان، مثلها مثل هيئة الجولاني، لم تعد تُرى من منظور الجهاد، بل أُعيد تأطيرها ككيان يمكن التعامل معه داخل النظام الدولي. تقول الافتتاحية:
"تزامن القرار الأمريكي مع قرار روسيا الاعتراف بإمارة طالبان... كي لا يعير أحدهما الآخر بدعم 'الإرهابيين' الذين طلّقوا 'الإرهاب' ثلاثا".
يرى الخطاب الداعشي أن القرارين الأمريكي والروسي ليسا مجرد مصادفة زمنية، بل تنسيق غير معلن يُعيد رسم خرائط الصراع ضد التنظيم. هذا الربط يُستخدم لتغذية رواية "المؤامرة الكونية"، حيث يبدو للعناصر الموالية أن الجميع - شرقًا وغربًا - يتفقون على هدف واحد: محاصرة الدولة الإسلامية فكريًا وسياسيًا. فالولايات المتحدة تقدم شهادة "حسن سلوك" للجولاني، وروسيا تفتح الباب لطالبان، والهدف النهائي هو حرمان داعش من أي شرعية أو حاضنة قديمة، وتجريدها من تفردها في الساحة الجهادية.
من خلال هذا التقديم للسياق، تسعى افتتاحية "النبأ" إلى ترسيخ فكرة أن "الدولة الإسلامية" باتت هي التنظيم الجهادي الوحيد الذي ما زال متمسكًا بـ"التوحيد الخالص" و"المنهج النقي"، في مقابل ما تعتبره تهافتًا فكريًا وسلوكًا سياسيًا "مرتدًا" لبقية الفصائل. بهذا، يعيد التنظيم بناء هويته الهامشية لا بوصفه فاعلًا بين فاعلين، بل كـ"الطليعة المعزولة" التي تواجه تحالف الأعداء بمفردها، وتُقدّم نفسها لجمهورها على أنها "الحارس الأخير للعقيدة"، في زمن "التراجعات الفكرية".
رسائل الخطاب الظاهرة
يُبنى خطاب افتتاحية "النبأ" على بنية مزدوجة: تحقير الخصوم وشيطنتهم من جهة، وتمجيد الذات وادعاء النقاء العقائدي من جهة أخرى. وبين هذين القطبين، ينقل التنظيم رسائل سياسية وعقائدية صريحة تستهدف جمهوره الداخلي المتردد، كما تهدف إلى تقويض الشرعية الدينية والسياسية للخصوم الجهاديين، وعلى رأسهم "هيئة تحرير الشام" وقائدها الجولاني.

1. الشيطنة الكاملة للجولاني: 
يفتتح الخطاب حملته ضد "الجولاني" بأسلوب لا يخلو من التحريض اللفظي والتجريد الإنساني، فيصفه بـ"الطاغوت"، ويشبهه بـ"الضبع"، في تشبيه حيواني لا يهدف فقط إلى السخرية بل إلى نزع الصفات البشرية عنه، وتجريده من أي شرعية دينية أو نضالية. تقول الافتتاحية:
"وعلى الهامش، لا شيء أنسب للهوية البصرية لنظام الجولاني، من صورة 'الضبع'، فهو لا يعيش إلا على الجيف، ولا يقتل إلا غدرًا".
هذا النوع من الخطاب الرمزي يُعدّ من تقنيات "الشيطنة القصوى" التي تتجاوز الخلاف الفقهي أو السياسي، نحو خلق حالة "النجاسة المعنوية" التي تُحرّم التعامل أو التعاطف مع الخصم. فهو لا يُعامل كـ"منحرف عن الجادة"، بل كـ"كائن دخيل" لا يعيش إلا في القذارة الفكرية والغدر السياسي.
في ذات السياق، يستخدم النص وصف "الطاغوت" كمدخل عقدي لتكفير الجولاني ونظامه الإداري في إدلب، ليُسقط عليه كل الأحكام الشرعية المتعلقة بـ"التحاكم إلى الطواغيت" و"موالاة الكافرين"، مما يضع أي انتماء أو تعاطف معه في خانة الردة، لا الخطأ. إنها محاولة لفكّ أي ارتباط نفسي أو تنظيمي ممكن بين جمهور "الساحة الجهادية" والجولاني، بوصفه رمزًا لخيانة الشريعة وتحريف الجهاد.

2. تمجيد الذات: "جندي الخلافة" كرمز للنقاء والبطولة
في مقابل الشيطنة المطلقة للجولاني، يرسم خطاب "النبأ" صورة مثالية لما يسميه "جندي الخلافة"، ذلك المقاتل الذي ظل – بحسب الرواية – ثابتًا على عقيدة التوحيد، لا تحركه مصالح ولا يساوم على ولائه. تقول الصحيفة مخاطبة إياه:
"فاحمد الله يا جندي الخلافة... بينما يدشّن 'المتحوّل' هوية قومية وطنية تمثّل قطيعة مع كل رمز أو شعار إسلامي".
هذه الصورة المرسومة ليست بريئة، بل تُستخدم بذكاء في تعزيز الشعور بالعزلة المصحوبة بالفخر، لتغذية ما يسميه الباحثون "عقيدة الصفوة" أو "المؤمنين القلة"، الذين يصمدون أمام تهافت العالم. بهذا المعنى، يُمنح جندي داعش شعورًا بالاصطفاء والتكليف الإلهي، مقابل الانحراف الجماعي الذي تمثله بقية الفصائل.
كما تعمل هذه الصورة على إعادة تعبئة الجنود، وتحفيز من بقي في الصفوف الخلفية أو خلايا التنظيم النائمة، عبر خطاب عاطفي يمزج بين البطولة والاضطهاد. فـ"جندي الخلافة" ليس فقط ثابتًا، بل مضطهد من كل الاتجاهات، ومحارب في كل الجبهات، مما يبرر له كل عنف وكل قرار، تحت مظلة "التمسك بمنهاج النبوة".

3. رفض التراجعات الفكرية: 
تُطلق الافتتاحية وصف "المتحولين" على قادة الفصائل الذين انتقلوا من المواجهة العسكرية إلى محاولات الاندماج السياسي أو التعامل مع القوى الدولية، وتصفهم بأنهم ضحايا "التراجعات الفكرية". تقول الصحيفة ساخرة:
"في زمن التراجعات أو 'التحولات الفكرية' كما يسميها المتحوّلون، صار الثوار ينظرون لأمريكا كشريك في إعمار وتنمية سوريا!".
في هذا السياق، يقدّم الخطاب تلك "التحولات" لا بوصفها تطورًا سياسيًا أو فقهًا للمصالح، بل كخيانة صريحة لـ"العقيدة الجهادية"، وقطيعة تامة مع المنهج الإسلامي الحق. وهو بذلك يستعيد موقفًا تكفيرياً تقليدياً تجاه كل من يحاول الانفتاح على النظام الدولي، أو يسعى لتقديم تنازلات سياسية – حتى وإن كانت مرحلية – في سبيل البقاء أو التمكين المرحلي.
وفي عمق الخطاب، يُعاد تأطير الإسلام السياسي كله، بما فيه فصائل الثورة السورية الإسلامية، كجزء من مشروع التغريب والتفريط. فالقبول بمساعدة أمريكا أو روسيا، أو حتى مجرد الحديث عن إعادة الإعمار، يُقدّم وكأنه بمثابة شهادة ردّة. وعبر هذا المنطق، يعزل داعش نفسه تمامًا عن بقية الحركات الإسلامية، ليحتكر "الحق"، ويُلغي شرعية أي فكر إصلاحي أو مقاوم لا يندرج تحت عباءته.
الرسائل المسكوت عنها
رغم الصياغة النارية التي تعج بها الافتتاحية، يلفت الانتباه غياب تام لأي اعتراف بالأخطاء أو الفشل، سواء على مستوى الاستراتيجية العسكرية أو السياسية أو حتى الشعبية. فلا وجود لأي تقييم ذاتي لتجربة "الدولة الإسلامية" منذ إعلانها وحتى اليوم، رغم الانهيارات المتتالية في العراق وسوريا، وفقدان السيطرة على المدن والموارد والسكان. بدلًا من ذلك، يعتمد الخطاب على سياسة "الهروب إلى الأمام"، عبر إدانة الآخرين وتكفيرهم، وكأن التنظيم بريء من كل ما حدث، أو كأن تراجعه لم يكن نتيجة أفعاله، بل فقط "خيانة" الآخرين. هذا التجاهل المقصود يهدف إلى حماية قدسية التنظيم وتحصينه من المساءلة، وهو ما يعكس بنية مغلقة تتجنب أي مساءلة داخلية.
الافتتاحية لا تذكر شيئًا عن أوضاع الناس الذين يُفترض أن التنظيم يدافع عنهم أو يزعم تمثيلهم. فلا حديث عن الفقر، ولا عن الانهيار الصحي، ولا عن التشريد، ولا حتى عن الخدمات الأساسية في المناطق التي ينشط فيها التنظيم. بدلاً من ذلك، ينشغل الخطاب فقط بمعاركه الرمزية مع "المرتدين"، و"الصليبيين"، و"الطواغيت". هذا التجاهل للجانب الإنساني يعكس تحلُّل الخطاب من أي مسؤولية اجتماعية، ويفضح عمق الهوة بين التنظيم والمجتمعات التي يدعي تمثيلها. إنه خطاب حرب بلا شعب، وسردية "خلاص" تنفصل تمامًا عن آلام الأرض التي تُشنّ فيها المعارك.
واحدة من أخطر المسكوت عنه في الافتتاحية، هي القطيعة المتزايدة بين داعش والبيئة السنية التي احتضنته في بداياته، سواء في العراق أو سوريا أو حتى خراسان. لا يطرح الخطاب سؤالًا عن سبب انحسار الحاضنة الاجتماعية، ولا لماذا انفضّ كثير من أبناء تلك المناطق عن التنظيم، بل يُصوَّر الأمر وكأن التراجع سببه فقط "خيانة المرتدين". يتجاهل النص أن جزءًا كبيرًا من هذه البيئات نبذ التنظيم بسبب سلوكه المتوحش، وتطبيقه العنيف للشريعة، واستخدامه التكفير كسلاح شمولي. هذه القطيعة الحقيقية تُقابل في الخطاب بإصرار على تقسيم العالم إلى "معسكر توحيد" و"معسكر جاهلية"، في تعميم مريح يخفي الحقيقة المؤلمة: التنظيم خسر شعبه قبل أن يخسر أرضه.
يلاحظ أن الخطاب يجنح كليًا نحو المعركة الرمزية واللغوية، حيث لا وجود لأهداف سياسية أو رؤى إصلاحية أو برامج مجتمعية، بل فقط مفردات حربية متكررة مثل "المرتدون"، "الطواغيت"، "الضبع"، "معسكر الجاهلية"... هذا الانغماس في الرمزية يعكس انقطاع التنظيم عن الواقع، واعتماده على التحشيد العاطفي والمذهبي بدلًا من البناء العملي. فحتى مع تساقط التنظيمات المنافسة، لا يقدّم داعش نفسه كبديل عملي أو سياسي، بل كمجرد كيان "ثابت" في خندق العقيدة، مهما كانت كلفته على الأرض. وهذا يشي بأن التنظيم لم يعد يسعى لحكم الناس، بل فقط للحفاظ على ذاته بوصفه رمزًا نقيًّا في عالم ملوث، دون أي قدرة على التأثير الواقعي.
التحليل البلاغي والخطابي
يعتمد الخطاب على آلية بلاغية مركزية هي التضاد الثنائي الحاد بين "المؤمنين" و"الكافرين"، حيث تُختزل خريطة العالم إلى فسطاطين لا ثالث لهما: "جنود الدولة الإسلامية" بوصفهم الطائفة المؤمنة المنصورة، و"البقية" الذين يُجمعهم الخطاب في خانة واحدة: المرتدون، المشركون، الطواغيت، الصليبيون. هذا التصنيف المانوي، يهدف إلى بناء هوية صافية مغلقة، ترى نفسها مستهدفة من الجميع، ومُحقَّة دائمًا في معركتها. بهذا، يتم نفي أي إمكانية للتعايش أو حتى لاختلاف مشروع، ويصبح الاختلاف في الرأي أو المنهج مرادفًا للكفر والردة.
يتسم الخطاب بلغة شعائرية تُكرِّر مفردات محددة بكثافة، مثل "المرتدين"، "الطاغوت"، "الجاهلية"، "معسكر الكفر"، "التوحيد"، في محاولة لتثبيت بنية فكرية محددة في وعي المتلقين. هذا الأسلوب قائم على تقنية الحفر الذهني، إذ يُعاد شحن الكلمات بدلالات مطلقة غير قابلة للنقاش. فلا يُقال مثلًا: "هيئة تحرير الشام" أو "طالبان"، بل يُستخدم التوصيف العقدي مباشرة: "المرتدون"، مما يمنع التفكير النقدي، ويُبقي الجمهور في حالة تعبئة دائمة ضد الآخر. بهذه الطريقة، تتحول اللغة إلى أداة عقائدية أكثر منها وسيلة تواصل.
يستخدم الخطاب الاستشهاد بالآيات والأقوال المأثورة كآلية لإضفاء الشرعية على مواقفه السياسية، ومن ذلك قولهم:
"قال الإمام البغوي: (ولن ترضى عنك اليهود) إلا باليهودية، (ولا النصارى) إلا بالنصرانية".
هنا يتم توظيف الآية القرآنية لخدمة الفكرة الأساسية في الخطاب: أن كل تقارب مع "اليهود والنصارى" هو خيانة بالضرورة، وأن الرضا الغربي لا يُنال إلا بترك الإسلام. هذه القراءة السلفية الجهادية للنص القرآني تُغلق الباب على أي اجتهاد سياسي أو فقه مصلحي، وتربط أي علاقة مع الغرب – مهما كانت طبيعتها – بالكفر الصريح. هكذا يتحول النص المقدس إلى سلاح تأييدي يقطع الطريق أمام أي نقاش عقلاني أو تعددية في الفهم.
يقوم الخطاب على بلاغة هجومية إقصائية، تُختزل فيها صورة الخصوم في صفات سلبية مشينة، غالبًا ذات طبيعة حيوانية أو طقسية، مثل وصف الجولاني بـ"الضبع"، أو وصف الهيئة بأنها "بيادق في يد الكافرين". هذه البلاغة لا تسعى فقط إلى نزع الشرعية عن الآخر، بل إلى تجريده من إنسانيته ومكانته الدينية، وتحويله إلى كائن خائن بطبعه، لا يُرجى منه إصلاح. بذلك، يتعزز منطق المفاصلة المطلقة، ويُبرر العنف ضده بوصفه "عبادة"، لا سياسة. إننا أمام خطاب لا يكتفي بصنع العدو، بل يعيد تشكيله بلاغيًا ليصبح مشروع إبادة.
الأثر المحلي والإقليمي
في السياق السوري، يسعى تنظيم داعش من خلال هذه الافتتاحية إلى ضرب العلاقة المتوترة أصلاً بين قيادة هيئة تحرير الشام وقواعدها العقائدية، عبر اتهام الجولاني بالردة والتعاون مع أمريكا، بل وبـ"التطبيع غير المعلن" مع إسرائيل. الخطاب يربط بين قرار واشنطن بإعادة النظر في تصنيف الهيئة كتنظيم إرهابي، وبين ما يصفه بـ"التحوّلات الفكرية" و"البراغماتية الخائنة" لقادة الهيئة، مما يفتح المجال أمام عناصرها المتشددين للتشكيك في مشروعية القيادة نفسها. هذا النوع من التحريض يخاطب فئة من جمهور الهيئة التي ما تزال تحمل بقايا السلفية الجهادية، ويدفعها باتجاه التمرّد الداخلي أو الانشقاق، مما قد يؤدي إلى تفكك تنظيمي أو انقسامات على أسس عقدية.
يركّز الخطاب على تهمة "التطبيع" بوصفها الوصمة الكبرى التي يصعب الدفاع عنها في أوساط التيارات الجهادية، ويحاول تصوير أي علاقة مع الولايات المتحدة، مهما كانت شكلية أو تكتيكية، كخطوة في اتجاه القبول بإسرائيل. تقول الافتتاحية بلهجة اتهامية:
"في سوريا الجديدة يتفاخر الثوار بـ'تطبيع العلاقات' مع أمريكا بينما يتهربون من الحديث عن 'التطبيع' مع اليهود، مع أنهما فعلان متصلان مترابطان متساويان".
هذا الربط الذكي بين التطبيع السياسي والردة العقائدية يشكّل ضغطًا نفسيًا على الفصائل الإسلامية الأخرى، وخاصة تلك التي تحاول المناورة بين العمل الميداني والعلاقات الدولية، ويجعلها في مرمى نار "الخيانة الدينية". إنه سلاح بلاغي فعّال في إرباك خصومه وتشويه سمعتهم أمام أنصارهم.
إقليميًا، يحاول تنظيم داعش من خلال هذه الافتتاحية أن يقدّم نفسه كـ"الكيان الجهادي الوحيد" الذي لا يزال ثابتًا على عقيدته ولم يدخل في مساومات أو تفاهمات مع القوى الكبرى. فهو لا يكتفي بفضح "تحرير الشام" في الشام، بل يُقابل الاعتراف الروسي بطالبان بالتنديد والازدراء، معتبرًا أن روسيا وأمريكا تتقاسمان أدوارًا في "إعادة تدوير المرتدين"، بينما هو - أي التنظيم - ما يزال يقاتل في خراسان والساحل الإفريقي ضد الطرفين معًا. بهذا الخطاب، يُعيد التنظيم تفعيل سردية "الطليعة الصامدة"، مخاطبًا الجماعات الجهادية الصغيرة والعناصر السلفية غير المنضوية، في محاولة لاستقطابها إلى مشروعه العقائدي المتشدد.
في العمق، تحمل الافتتاحية بعدًا تعبويًا واضحًا، فهي لا تكتفي بنقد الخصوم، بل توجّه خطابًا نفسيًا واستقطابيًا للمجندين المحتملين في مناطق مثل أفغانستان (خراسان) أو غرب إفريقيا، حيث يسعى التنظيم إلى تعويض خسائره السابقة عبر إعادة تشكيل صورة "المجاهد الحقيقي" بوصفه من لا يهادن ولا يفاوض. يتحدث النص عن "جندي الخلافة" الذي "يحافظ على هويته الدينية - منهاج النبوة"، في تلميح موجه إلى الشباب المسلم الساخط على تناقضات الجماعات الأخرى. الهدف هنا مزدوج: ترميم صورة التنظيم بعد الهزائم، وفتح الباب أمام موجة تجنيد جديدة من المتعاطفين الذين يشعرون بالغدر من الفصائل الأخرى، أو بالفراغ العقائدي والسياسي.

خاتمة: خطاب الأمل في زمن الهزيمة
رغم الانكماش الكبير في نفوذ تنظيم "داعش" سياسيًا وجغرافيًا، فإن الافتتاحية تحاول صياغة خطاب تعبوي مفعم بالأمل المقاوِم، يبني على فكرة "الصفوة المختارة" التي بقيت وحدها في ساحة المعركة. يُقدَّم "جندي الخلافة" كما لو كان آخر حارس للعقيدة، في زمن طغى فيه الانحراف والانبطاح، مما يمنح أنصاره شعورًا بالتميز والاصطفاء. هذه السردية لا تستند إلى واقع ميداني أو توسع تنظيمي، بل إلى منطق رمزي يعيد تأطير العزلة بوصفها فضيلة، والانحسار بوصفه دليل صدق، في إطار ما يمكن وصفه بـ"العقيدة تحت الحصار".
الملاحَظ أن الافتتاحية تتجاهل كليًا مأساة انهيار مشروع "الدولة الإسلامية"، وتفادي الحديث عن الدماء والدمار والخراب الذي خلّفه التنظيم في كل مكان دخله: من الموصل والرقة إلى الباغوز وخراسان. فلا حديث عن المدن المدمّرة، ولا عن آلاف الضحايا المدنيين، ولا عن الانشقاقات والخيانات الداخلية، ولا حتى عن الخسارات العسكرية المتلاحقة. فـ"النبأ" لا تعترف بأن مشروعها السياسي قد انتهى، أو أن حلم "الخلافة" قد تفتت، بل تصر على تسويق بقايا التنظيم كـ"الطليعة المنصورة" في معركة كونية، متجاهلة أنها لم تحقق أي اعتراف دولي، ولم تقدم نموذج حكم يمكن الدفاع عنه حتى في خطابها الداخلي.
في غياب أي مشروع بنّاء أو رؤية مستقبلية مقنعة، يعتمد الخطاب على تحقير الخصوم وتكفيرهم وتخوينهم، وليس على تقديم بديل واقعي. فتحرير الشام وطالبان وبقية الفصائل الإسلامية توصف كلها بأنها "مرتدة" و"طواغيت"، بينما لا يُطرح أي تصور جديد لمستقبل المسلمين أو شكل الحكم أو العلاقة مع الشعوب. إنها سردية تقوم على الهدم لا البناء، وعلى التذكير بـ"الردة والخيانة" لا على عرض برامج أو نماذج حكم. هذا ما يعكس فراغًا فكريًا وعقائديًا، يُغطّى فقط بالعنف اللفظي والحشد العاطفي.
ختامًا، يبقى السؤال الأعمق الذي تتهرب منه الافتتاحية هو: هل ما زال التنظيم فعليًا على ما يدّعيه من "المنهاج" و"العقيدة"؟ فالتمسك اللفظي بـ"منهاج النبوة" لا يكفي أمام انهيارات واقعية، وانقسامات داخلية، وسلوك ميداني بات لا يختلف كثيرًا عما يعيبه على الجولاني وطالبان. التنظيم الذي يكرر "المناهج المناهج، العقائد العقائد!" يبدو وكأنه يعيش نسخة من "الجولانية" دون أن يعترف بذلك: نزعة للتغوّل، طهرانية متعالية، عزلة عن الواقع، وعجز عن المصالحة مع المجتمع أو تقديم مشروع حكم ممكن. فهل بقي من مشروع "الدولة" غير الخطابة والعنف؟ وهل أصبح "داعش" ذاته صورة أخرى لما يدّعي محاربته؟

شارك