الحدود الملتهبة بين طالبان وباكستان.. ماذا وراء الاشتباكات المتكررة ؟

الخميس 17/يوليو/2025 - 06:18 م
طباعة الحدود الملتهبة بين محمد شعت
 

في مشهد يعيد إلى الأذهان فصولًا متكررة من التوتر الحدودي، أفادت مصادر محلية في ولاية ننغرهار الأفغانية أن اشتباكات مسلحة اندلعت مجددًا بين قوات طالبان وحرس الحدود الباكستاني في مديرية "دور بابا". ووفقًا لشهادات من عين المكان، بدأت الاشتباكات عصر الثلاثاء واستمرت حتى صباح اليوم التالي، الأربعاء 15 يوليو، حيث استخدم الطرفان أسلحة خفيفة وثقيلة.

وحتى ساعة إعداد هذا التقرير، لم يصدر تعليق رسمي من حكومتي طالبان أو باكستان، في حين أفادت وسائل إعلام محلية بمقتل طفلين على الأقل في منطقة "دخيخل" الواقعة بولاية خيبر باختونخوا داخل الأراضي الباكستانية، دون تسجيل خسائر بشرية معلنة في الجانب الأفغاني. وتشير هذه الحادثة إلى استمرار حالة التوتر الحدودي بين البلدين، وهي حالة تصاعدت منذ استيلاء طالبان على السلطة في كابل في أغسطس 2021، مما أدى إلى تكرار الاشتباكات وتزايد الاحتكاكات العسكرية.

اشتباكات متكررة وحدود مشتعلة

منذ عودة طالبان إلى الحكم، شهدت المناطق الحدودية بين أفغانستان وباكستان توترًا متصاعدًا، تجسد في عدة اشتباكات دموية ومعارك متفرقة، كان أكثرها حدة في ولايات ننغرهار، كونر، وقندهار، مقابل ولايات باكستانية مثل خيبر باختونخوا وبلوشستان. وتركزت أغلب هذه الصدامات حول محاور خلافية تتعلق بخط “ديورند” الحدودي، وهو الخط الذي رسمته بريطانيا الاستعمارية في القرن التاسع عشر، ولا تعترف به الحكومة الأفغانية – بما في ذلك طالبان – كحد فاصل شرعي بين الدولتين.

ففي ديسمبر 2022، اندلعت اشتباكات عنيفة في منطقة "سبين بولدك" الحدودية قرب قندهار، ما أدى إلى مقتل سبعة مدنيين وإصابة العشرات من الجانبين، أعقبها إغلاق معبر "تشمن – سبين بولدك" لعدة أيام، مما تسبب في خسائر اقتصادية فادحة للمتعاملين التجاريين. وفي أغسطس 2023، شهدت منطقة "طورخم" توترًا مماثلًا أدى إلى إغلاق المعبر الحيوي لمدة أسبوع، قبل أن يعاد فتحه بوساطات قبلية وضغوط من الجهات التجارية.

وتعود أسباب هذه الاشتباكات المتكررة إلى عدة عوامل، من أبرزها محاولة طالبان إعادة ترسيم الحدود وفق رؤيتها، ومنع السلطات الباكستانية من بناء جدران حدودية أو نقاط مراقبة عسكرية، وهي خطوات تعتبرها طالبان انتهاكًا للسيادة الأفغانية. كما تتهم باكستان حركة طالبان بالسماح لجماعات مسلحة، وعلى رأسها "تحريك طالبان باكستان" (TTP)، باستخدام الأراضي الأفغانية كمنطلق لتنفيذ هجمات ضد الجيش الباكستاني، الأمر الذي نفته طالبان في مناسبات سابقة، وإن ظلت الشكوك قائمة.

 بين خطاب المصالحة وممارسة التصعيد

ورغم تأكيدات طالبان المتكررة على رغبتها في بناء علاقات حسن جوار مع باكستان، فإن سلوكها على الأرض يعكس تناقضًا ملحوظًا. فالحركة التي أعلنت مرارًا أنها لا تسمح باستخدام الأراضي الأفغانية ضد أي دولة، لم تُظهر حتى الآن خطوات حاسمة لإيقاف نشاط الجماعات المسلحة المناوئة لإسلام أباد، وفي مقدمتها "تحريك طالبان باكستان"، والتي زادت هجماتها منذ انسحاب القوات الأمريكية.

وعلى الجانب الآخر، تعتبر باكستان أن من حقها تأمين حدودها ضد التهديدات القادمة من الأراضي الأفغانية، وهو ما يبرر – من وجهة نظرها – عملياتها العسكرية وإجراءاتها الأمنية المكثفة. لكن هذا المنطق كثيرًا ما يصطدم بالرفض الأفغاني، وخاصة من طالبان، التي تعتبر أي تدخل عسكري عبر الحدود "عملاً عدائيًا" يستدعي الرد. وقد أدى هذا التوتر إلى أزمة ثقة متفاقمة بين الجانبين، خصوصًا بعدما كانت باكستان من أوائل الداعمين الدوليين لطالبان في مراحلها المختلفة.

وقد أغلقت باكستان عدة معابر حدودية رئيسية في فترات متقطعة منذ عام 2021، من بينها معبرا "طورخم" و"تشمن"، ما ألحق ضررًا بالغًا بقطاعي التجارة والنقل، خاصة أن باكستان تمثل الرئة التجارية الأهم لأفغانستان، من حيث تدفق السلع والمساعدات والعبور إلى الأسواق الدولية. وبحسب تقارير اقتصادية، فإن إغلاق معبر "تشمن" وحده يكلف الاقتصاد الأفغاني ما يقارب 10 ملايين دولار يوميًا.

سيناريوهات محتملة

رغم الصورة القاتمة التي ترسمها الاشتباكات المتكررة على الحدود بين أفغانستان وباكستان، فإن مراقبين وسياسيين من الطرفين، إضافة إلى أطراف دولية، لا يزالون يرون إمكانية، وإن كانت محدودة، للخروج من هذا النفق الأمني المعتم. فالطرفان، ورغم التصعيد، يعلمان جيدًا أن استمرار الصدامات يهدد مصالحهما الاستراتيجية والاقتصادية، ويضعف موقف كل منهما في التفاوض مع القوى الإقليمية والدولية.

تلوح في الأفق فرص لإعادة إحياء قنوات الحوار الأمني والعسكري المشترك، وهي قنوات سبق أن استخدمها الطرفان بوساطة أطراف إقليمية مثل منظمة شنغهاي للتعاون. وقد طرحت باكستان في الشهور الأخيرة مقترحات لإعادة تنشيط آليات تبادل المعلومات الاستخباراتية وتنسيق الدوريات المشتركة على طول الحدود، إلا أن تجاوب طالبان ظل محدودًا في ظل حساسيات متعلقة بالسيادة الوطنية والريبة من النوايا الباكستانية.

في الوقت نفسه، تُعد القبائل الحدودية المشتركة ركيزة مجتمعية يمكن أن تُبنى عليها تهدئة متدرجة. فالقبائل المنتشرة على جانبي خط ديورند تملك نفوذًا ميدانيًا حقيقيًا، وغالبًا ما تلعب دور الوسيط الفعّال في حل النزاعات القبلية والحدودية. ويمكن تفعيل هذا الدور من خلال آليات مصالحة تقليدية تستفيد من رمزية الزعامات القبلية وثقلها الاجتماعي في مناطق التماس.

وتعزز هذه الجهود محاولات من قوى إقليمية ودولية لها مصالح مباشرة في استقرار العلاقة بين كابل وإسلام آباد. فالصين، على سبيل المثال، تنظر إلى الاستقرار الحدودي كشرط أساسي لحماية استثماراتها الضخمة ضمن مشروع "الممر الاقتصادي الصيني – الباكستاني"، كما أن مشروعات الربط الإقليمي، مثل خط أنابيب الغاز "تابي"، ستظل رهينة لتوترات الحدود ما لم يتم التوصل إلى تفاهمات تضمن انسيابية العمل والتعاون بين الدولتين. كذلك يمكن لكل من إيران وروسيا، اللتين نسجتا علاقات قوية مع طالبان في الفترة الأخيرة، أن تستخدما نفوذهما لدفع الحركة نحو تهدئة حدودها الجنوبية مع باكستان، خاصة في ظل اهتمام موسكو وطهران بمواجهة تمدد الجماعات المتطرفة العابرة للحدود.

أما على صعيد المنظمات الدولية، فإن كلًا من منظمة التعاون الإسلامي ومجموعة الاتصال الخاصة بأفغانستان قادرتان على تقديم منصات محايدة للحوار، وتوفير غطاء سياسي لمسارات تفاهم تستند إلى مبدأ الأمن الجماعي. ويمكن أيضًا للمجتمع الدولي أن يربط بين مسألة الاعتراف الرسمي بحكومة طالبان، وبين مدى التزامها بضبط الأمن الإقليمي ومنع استخدام أراضيها كنقطة انطلاق لعمليات مسلحة ضد الدول المجاورة. هذا النوع من الشروط السياسية يمكن أن يشكل حافزًا لطالبان نحو تغيير مقاربتها الأمنية في التعامل مع باكستان.

ورغم تعدد هذه المبادرات والفرص، إلا أن تحقيقها يتوقف على مجموعة من العوامل الداخلية، أبرزها تماسك القيادة في حركة طالبان، وقدرتها على فرض قراراتها على الفصائل المتشددة داخلها، وعلى الجماعات المسلحة الخارجة عن السيطرة، وعلى رأسها "تحريك طالبان باكستان". كما أن نية باكستان في تقديم تنازلات استراتيجية تتعلق بترسيم الحدود أو أسلوب إدارة المعابر تظل موضع شك، في ظل تشبثها بخيارات أمنية صارمة في مواجهة التهديدات المتزايدة على حدودها الغربية.

في المحصلة، قد لا يكون الحل وشيكًا، لكن الضرورات الجيوسياسية، والضغوط الاقتصادية والاجتماعية، والمخاوف المشتركة من الفوضى، قد تدفع الطرفين في لحظة ما إلى استبدال لغة الاشتباك بلغة التفاهم. وحتى ذلك الحين، تبقى الحدود بين أفغانستان وباكستان مرشحة لمزيد من التصعيد، يدفع ثمنه الأبرياء، وتزداد معه الهوة بين دولتين تجمعهما الجغرافيا وتفرّقهما الحسابات المعقدة.

شارك