اقتصاد التبغ في قبضة الحوثيين.. نصف مليار دولار سنوياً لتمويل الحرب
السبت 02/أغسطس/2025 - 12:30 م
طباعة

في سياق تصاعد التحذيرات من خطورة الاقتصاد الموازي الذي أسسته ميليشيا الحوثي منذ انقلابها على الدولة اليمنية، حذّر وزير الإعلام والثقافة والسياحة معمر الإرياني من التداعيات الكارثية لاستحواذ جماعة الحوثي على قطاع التبغ، أحد أبرز القطاعات السيادية التي كانت ترفد الخزينة العامة للدولة بعائدات ضخمة تقدر بمئات الملايين من الدولارات سنويًا، ويعد هذا التحذير جزءًا من سلسلة تقارير رسمية تهدف إلى فضح وتشريح بنية الاقتصاد غير الرسمي الذي تديره الميليشيا، والذي بات يشكل تهديدًا مباشرًا للبيئة الاستثمارية، والقطاع الخاص، وصحة المواطنين، والأمن الإقليمي والدولي.
فمنذ سيطرتها على العاصمة صنعاء في 2014، بدأت ميليشيا الحوثي عملية منهجية للهيمنة على المؤسسات الاقتصادية، وقطاع التبغ كان في مقدمة أهدافها، نظرًا لما يدره من عوائد ضخمة، فقد قامت الجماعة بوضع يدها على شركة كمران، كبرى الشركات الوطنية المنتجة للتبغ، من خلال اجتماع غير قانوني لما أسمته "الجمعية العمومية"، عيّنت فيه عدداً من قياداتها في مجلس الإدارة رغم عدم امتلاكهم أي حصة مساهمة، وذلك بهدف السيطرة الكاملة على أصول وأرباح الشركة، ولم تكتفِ بذلك بل منعت تصدير منتجاتها إلى المحافظات المحررة، ما أدى إلى تراجع حاد في الإنتاج، وأجبر الشريك الدولي "الشركة البريطانية الأمريكية للتبغ BAT" على الانسحاب من السوق اليمني، في خطوة عكست عمق الاختلال القانوني والمؤسسي في مناطق سيطرة الميليشيا.
ترافق هذا الاستحواذ مع تفكيك البيئة التنافسية عبر فرض قيود تعسفية على الشركات المستقلة، ورفع الضرائب إلى أكثر من 200%، واستحداث جبايات وإتاوات غير قانونية على المنتجات المصنعة محلياً والمستوردة، بالإضافة إلى إنشاء منافذ جمركية داخلية تحاكي الدول الفاشلة، وهو ما شكّل سابقة في تاريخ اليمن، وضرب مبدأ السيادة الاقتصادية في مقتل.
كما أقدمت الجماعة على إنشاء شركات استيراد موازية يديرها رجال أعمال مقربون منها، أبرزهم مجموعة دغسان، حيث يتم تسجيل شركات بأسماء وهمية لإنتاج وتوزيع أصناف مزورة من ماركات محلية في مصانع خارج اليمن، ومن ثم تهريبها إلى السوق اليمنية ودول عربية مجاورة، ما يشكل نمطاً معقداً من التهريب وتبييض الأموال وتزوير العلامات التجارية.
وتكشف البيانات الرسمية عن أن ميليشيا الحوثي تجني من قطاع التبغ ما بين 450 إلى 500 مليون دولار سنوياً من العائدات المباشرة فقط، تشمل أرباح الشركات المنهوبة والضرائب والجبايات المفروضة على المنتجات الرسمية والمقلدة. كما تستحوذ الجماعة على تجارة السوق السوداء للسجائر المهربة، وتنتشر في السوق اليمنية أكثر من 47 علامة تجارية مزورة، تصل أسعارها في بعض الحالات إلى 500 دولار للكرتون الواحد، ما يعكس حجم الأرباح الخفية التي يتم تدويرها خارج أي رقابة حكومية.
وتشير تقديرات السوق إلى أن أرباح ميليشيا الحوثي من بيع السجائر المقلدة وحدها تقارب 316 مليون دولار سنوياً، تضاف إليها مئات الملايين التي تُجبى من خلال الضرائب غير القانونية على المنتجات المهربة والمزورة.
وإلى جانب التأثيرات المالية والاقتصادية، فإن هذا السلوك الحوثي في التعامل مع قطاع التبغ يمثل تهديداً مباشراً للصحة العامة، إذ تنتشر في الأسواق منتجات رديئة غير خاضعة لأي فحص صحي أو رقابة جودة، وقد ثبت تورط الجماعة في توزيع أصناف خطرة، مجهولة المصدر والمحتوى.
وبحسب تقارير من داخل صنعاء، فقد سجلت المستشفيات ازدياداً في حالات الإصابة بأمراض تنفسية وأورام يُشتبه في ارتباطها بتلك المنتجات، الأمر الذي يكشف كيف باتت صحة اليمنيين تُداس مقابل تمويل المجهود الحربي للميليشيا.
ويرى مراقبون أن هذا الملف هو تجسيد نموذجي لطبيعة الاقتصاد الموازي الذي تديره الميليشيا الحوثية، والذي لم يقتصر على تجريف مؤسسات الدولة بل امتد إلى خلق منظومة موازية تدر مئات الملايين، وتُستخدم لتمويل العمليات العسكرية والإرهابية، بما فيها الهجمات العابرة للحدود على خطوط الملاحة البحرية وأمن الطاقة الإقليمي.
ووفقاً لتقارير صحفية فإن استمرار هذا النمط الاقتصادي يشكل خطراً مزدوجاً: فهو أولاً يُبقي الجماعة قادرة على تمويل حرب طويلة الأمد، وثانياً يضرب أي فرصة لإعادة بناء الدولة اليمنية أو تحقيق استقرار اقتصادي، فضلاً عن تقويضه للثقة الدولية بالبيئة الاستثمارية في البلاد.
ويؤكد خبراء في الشأن اليمني أن تفكيك منظومة الاقتصاد الموازي للحوثيين بات ضرورة ملحة لا تقل أهمية عن المسار العسكري أو التفاوضي، وأن أي حل سياسي شامل لن يكون قابلاً للحياة ما لم تُجفف منابع تمويل الحرب، وفي مقدمتها تلك العوائد الضخمة الناتجة عن استغلال القطاعات الحيوية كالتبغ، ومن هذا المنطلق، فإن استمرار وزارة الإعلام اليمنية في كشف هذه الملفات يمثل خطوة ضرورية لكشف انتهاكات الحوثيين داخلياً، وحشد التأييد الإقليمي والدولي لإجراءات رادعة، قد تشمل فرض عقوبات اقتصادية مركزة، واعتبار شبكات التهريب والجبايات الحوثية جزءاً من منظومة تمويل الإرهاب العابرة للحدود.
وفي ضوء هذا التقرير، يبدو واضحاً أن ميليشيا الحوثي لم تعد مجرد جماعة متمردة، بل تحولت إلى "نظام اقتصادي موازٍ" متكامل، قائم على النهب والتهريب والمضاربة، ويُدار من خلال بنية فساد معقدة ترتبط مباشرة بمشروع إقليمي أكبر تقوده إيران، ويستهدف تفكيك الدولة اليمنية، وتمويل فوضى ممتدة من البحر الأحمر إلى الخليج العربي، وعليه فإن استمرار هذه المنظومة دون تدخل دولي حازم يعني مزيداً من التدهور الاقتصادي، ومزيداً من الألم لليمنيين الذين باتوا محاصرين بين فقر مدقع، وسوق سوداء يديرها سماسرة الحرب.