مفاوضات مشروطة بين مجلس قبلي و"طالبان باكستان" وسط تصاعد العنف

تعكس هذه المحادثات غير المباشرة، التي يقودها زعماء محليون بدافع من
الحاجة إلى الأمن والاستقرار، حجم الأزمة المتنامية التي تواجهها باكستان في
المناطق الحدودية مع أفغانستان، خاصة في ظل الاتهامات الرسمية المتكررة التي
توجهها إسلام آباد إلى كابول، بكونها توفر ملاذًا آمنًا لقيادات طالبان باكستان.
في المقابل، تنفي حركة طالبان الأفغانية هذه الاتهامات، وتصر على أن الحركة
الباكستانية تنشط داخل الأراضي الباكستانية فقط، رغم ما ورد في تقارير أممية حديثة
تُشير إلى أن طالبان الأفغانية تقدم دعمًا لوجستيًا وعملياتيًا لنظيرتها
الباكستانية، التي يُقدر عدد مقاتليها بنحو 6000 عنصر.
حركة تحت الضغط: من النفوذ إلى التشرذم
تشكلت حركة طالبان باكستان في أواخر عام 2007 كتحالف فضفاض يضم
مجموعات جهادية وطائفية تنشط في المناطق القبلية، تحت قيادة بيت الله محسود، الذي
كان آنذاك يُعد من أبرز المحاربين المخضرمين في جنوب وزيرستان. وخلال سنوات قليلة،
تمكنت الحركة من بسط نفوذها على معظم الإقليم، ووصلت بعملياتها المسلحة إلى مدن
كبرى مثل بيشاور وكراتشي ولاهور، ما جعلها تمثل تهديدًا وجوديًا حقيقيًا للدولة
الباكستانية، إلى أن جاءت عملية "ضربة عضب" العسكرية الواسعة في يونيو
2014، التي قلبت المعادلة وأجبرت قادة الحركة على الفرار إلى المناطق الشرقية من
أفغانستان.
منذ تلك الضربة العسكرية، تراجع حضور الحركة إلى مجرد مجموعات صغيرة
منفية تنفذ عمليات متفرقة في المناطق القبلية، مع تآكل تدريجي في قدراتها
التنظيمية والقيادية. وقد تزامن هذا التراجع مع مقتل قيادات بارزة مثل حكيم الله
محسود والملا فضل الله في غارات أميركية بالطائرات المسيّرة، وهو ما ولّد أزمة حادة
في القيادة، دفعت بعض الفصائل للانفصال، احتجاجًا على اختيار شخصيات غير قبلية على
رأس التنظيم، في إشارة إلى تولي فضل الله قيادة الحركة رغم كونه من خارج قبيلة
محسود التي كانت تُهيمن تقليديًا على القرار داخل طالبان باكستان.
لكن هذا الانهيار لم يكن نهاية القصة، إذ سرعان ما بدأت الحركة، تحت
قيادة مفتي نوروالي محسود منذ يونيو 2018، في إعادة تنظيم صفوفها. فبفضل خلفيته
القبلية والعلمية كعالم دين ومحارب قديم، استطاع المفتي استعادة جزء من التماسك
الداخلي، وجذب فصائل منشقة مثل جناح حكيم الله محسود وجماعة الأحرار وطالبان
البنجاب، بل وحتى عناصر من تنظيم القاعدة، إلى صفوف الحركة مجددًا. ومع كل بيان
ولاء جديد، كانت الحركة تُعلن عودتها كقوة موحدة تسعى إلى تثبيت حضورها في المناطق
الحدودية مجددًا.
علاقات معقدة بين طالبان كابول وإسلام آباد
في قلب هذا المشهد الأمني المعقّد تقف علاقة طالبان باكستان مع كل من
الحكومة الباكستانية وحكومة طالبان الأفغانية. فمن جهة، ترى إسلام آباد أن طالبان
باكستان تمثل تهديدًا مباشرًا لأمنها الداخلي، وتتهم كابول بالتقاعس عن اتخاذ
إجراءات حازمة ضد قادتها الذين تقول إنهم يتحركون بحرية في الأراضي الأفغانية. ومن
جهة أخرى، تظهر حكومة طالبان الأفغانية ترددًا واضحًا في التعاطي مع هذا الملف،
حيث ترفض تنفيذ عمليات ضد طالبان باكستان، وتتحدث عن كونها حركة تنشط داخل باكستان
وليست على الأراضي الأفغانية.
ويرى مراقبون أن حركة طالبان الأفغانية تواجه مأزقًا مزدوجًا؛ فهي من
جهة لا تريد أن تخسر حليفًا أيديولوجيًا وتاريخيًا كطالبان باكستان، الذي لطالما
أعلن ولاءه لها ولم يصدر عنه أي موقف عدائي ضدها، ومن جهة أخرى تسعى طالبان كابول
إلى تحسين علاقاتها الإقليمية، وتجنب مزيد من الضغوط الدولية، خصوصًا في ظل التقارير
التي تُشير إلى أن ترددها في كبح جماح الجماعات المتطرفة قد يُهدد أمن المنطقة
بأكملها.
أما على الجانب الباكستاني، فإن السلطات تحاول التوفيق بين نهج أمني
صارم تجاه طالبان باكستان، وبين محاولات الحوار مع زعماء قبليين أو فاعلين محليين
يمكنهم التوسط لتخفيف التصعيد. هذا النهج، وإن كان يُظهر مرونة تكتيكية، إلا أنه
يعكس عجزًا استراتيجيًا في التعامل مع جذور المشكلة، خاصة في ظل الإهمال المزمن
للمناطق القبلية وعدم دمجها فعليًا في النظام الإداري والسياسي الباكستاني، رغم
دمجها نظريًا في إقليم خيبر بختونخوا منذ عام 2018.
طالبان باكستان وداعش وخراسان.. تحالفات مستبعدة
رغم ما ورد في بعض التقارير الأممية عن إمكانية نشوء تحالف بين حركة
طالبان باكستان وتنظيم الدولة الإسلامية في ولاية خراسان، فإن الوقائع الميدانية
والدوافع الأيديولوجية تُشير إلى أن هذا السيناريو لا يزال مستبعدًا. فالحركتان،
رغم اشتراك بعض عناصرهما في تجارب قتالية سابقة تحت مظلة طالبان باكستان، تسلكان
اليوم طريقين مختلفين: طالبان باكستان لا تزال ملتزمة بالنهج الديوبندي والهيكلية
القبلية، فيما تتبنى داعش خراسان أيديولوجية سلفية جهادية ترفض الانتماءات القبلية
وتُكفّر الجماعات الأخرى، بمن فيهم طالبان كابول.
وقد ساهم هذا التباين في نشوء صراعات دموية بين الطرفين، خاصة في شرق
أفغانستان. وتنظر داعش إلى طالبان كابول على أنها وكيلة للمخابرات الباكستانية،
فيما تعتبر طالبان باكستان تنظيم داعش مجرد أداة استخباراتية غربية. كما أن أنشطة
طالبان باكستان تتركز داخل الأراضي الباكستانية، ولا تملك سجلًا من العمليات
المستقلة داخل أفغانستان، بخلاف تنظيم الدولة الذي يسعى للتمدد العابر للحدود.
ورغم ذلك، لا يمكن استبعاد وجود تواصل أو تنسيق تكتيكي بين عناصر من
الرتب الوسطى في التنظيمين، خصوصًا في المناطق المتداخلة جغرافيًا على الحدود. لكن
التحالف التنظيمي الرسمي لا يزال مستبعدًا بسبب الخلافات الجوهرية في العقيدة
والتنظيم والتكتيك.
عودة حذرة إلى الحزام القبلي
تشير الوقائع الميدانية إلى أن طالبان باكستان بدأت في العودة
التدريجية إلى بعض المناطق القبلية الحدودية، خاصة شمال وجنوب وزيرستان، ومهمند،
وباجور، وهي مناطق محاذية للمقاطعات الشرقية من أفغانستان. وقد تحدث سكان محليون
وصحفيون ميدانيون عن تزايد عمليات القتل المستهدف، وفرض الإتاوات على السكان،
وعودة مظاهر التهديد والابتزاز، لا سيما من قبل جماعة الأحرار المرتبطة بطالبان
باكستان. وأكدت شهادات متعددة أن المسلحين باتوا يفرضون ما يُعرف بـ"ضرائب
الحماية"، ويستهدفون المعارضين والمتخلفين عن الدفع.
ورغم أن نشاط هذه الجماعات لا يُقارن بسيطرتها السابقة قبل عام 2014،
فإنها تُراكم تأثيرًا تدريجيًا في ظل غياب السلطة الحكومية الفعلية، واستمرار
الفراغ الأمني، وتراجع الاستثمار في البنية التحتية والخدمات. ويُحذّر مراقبون من
أن فشل الدولة في توفير التنمية والعدالة في هذه المناطق، قد يُمهّد الطريق أمام
عودة طالبان باكستان كقوة أمر واقع.
تاريخيًا، لم تُظهر الحكومة الباكستانية قدرة حقيقية على تثبيت
النظام في هذه المناطق إلا من خلال العمليات العسكرية الواسعة، دون أن تُتبع بخطط
تنمية مستدامة أو إصلاح سياسي عميق. ومن هنا، فإن الرهان على الحل الأمني فقط، دون
معالجة الأسباب الجذرية، قد يُفضي إلى إعادة تدوير الأزمة بدلاً من حلها.