من الفراغ الثقافي إلى التطرف: لماذا نحتاج مشروعًا وطنيًا للثقافة؟
الجمعة 12/سبتمبر/2025 - 05:34 م
طباعة

تتخذ العلاقة بين الثقافة والتطرف الفكري موقعًا مركزيًا في النقاشات الفكرية والاجتماعية المعاصرة. فبينما يُنظر إلى الثقافة باعتبارها الحاضنة الطبيعية للقيم الإنسانية والإبداع والقدرة على التعايش، يطلّ التطرف بوصفه الوجه الآخر للفقر المعرفي والانغلاق على الذات. هذا التباين يطرح تساؤلات عميقة حول كيفية استثمار الثقافة كوسيلة تحصين للمجتمعات، بدل أن تُترك الساحة فارغة أمام الخطابات الإقصائية التي تغذي العنف وتضيق أفق المستقبل.
ليست الثقافة ترفًا أو نشاطًا هامشيًا موجهًا للنخب أو المهتمين بالفنون والفكر، بل هي ضرورة حياتية تؤدي دورًا وقائيًا وتنمويًا في آن واحد. فهي تزوّد الفرد بقدرة على الفهم والتأويل، وتؤمن له مسارات بديلة عن الانخراط في دوائر العنف أو الانجراف وراء خطاب الكراهية. وفي السياق ذاته، تمثل الثقافة أحد أهم مصادر رأس المال الرمزي الذي يعيد تشكيل وعي الجماعة الوطنية ويعزز قدرتها على مواجهة الأزمات والتحديات.
ومع ذلك، ما زالت الثقافة في كثير من المجتمعات العربية تُعامل بوصفها خطابًا نخبويًا منفصلًا عن الحياة اليومية، محصورًا في قاعات المؤتمرات أو أروقة المؤسسات الرسمية. هذا الانفصال أتاح لجماعات التطرف أن تستثمر في الفراغ الثقافي، فتغرس أفكارها في العقول الشابة غير المؤهلة لمقاومة الخطاب المغلق. الأمر يفرض إعادة التفكير في كيفية نقل الثقافة من موقعها الضيق إلى فضاء مجتمعي أوسع يشارك فيه المواطن العادي.
من هنا يتبلور السؤال المركزي لهذا المقال: كيف يمكن للثقافة أن تتحول من خطاب نخبوي إلى صمام أمان مجتمعي، وفي الوقت ذاته تكون رافعة لإنتاج مفكرين جدد قادرين على إعادة بناء الوعي الجمعي؟ الإجابة عن هذا السؤال تستلزم تحليل دور الثقافة في مواجهة التطرف، ورسم ملامح المناخ الملائم للإبداع، وصولًا إلى تصور عملي يعيد للثقافة مكانتها كركيزة أساسية في مشروع التنمية ومواجهة الانغلاق.
الثقافة والتطرف:
الثقافة مفهوم معقد ومتعدد الأبعاد، تناولته العلوم الإنسانية والاجتماعية والفلسفة بتفسيرات متنوعة. فأنثروبولوجيًا، هي مجمل العادات والقيم والرموز التي يتوارثها الإنسان ويعيد إنتاجها لتشكل نمط حياته اليومي. واجتماعيًا، تُفهم الثقافة على أنها النظام الذي ينظم العلاقات بين الأفراد والجماعات ويحدد طرق التفاعل والتواصل. أما فلسفيًا، فهي تعبير عن قدرة الإنسان على الإبداع وإنتاج المعنى، سواء في الفكر أو الفن أو الأخلاق. بهذا المعنى، الثقافة ليست مجرد معرفة نظرية، بل هي أسلوب حياة يشمل القيم واللغة والفنون والعلوم، أي البنية التي تصوغ رؤية المجتمع لذاته وللعالم.
تلعب الثقافة دورًا جوهريًا في تشكيل الهوية الجماعية والقيم المجتمعية، فهي التي تحدد معايير السلوك المقبول، وتبني الإحساس بالانتماء، وتمنح المجتمع ذاكرة مشتركة. من خلال الثقافة يتم ترسيخ قيم مثل التسامح، والتعاون، واحترام الآخر، أو على العكس يمكن أن تُرسَّخ أنماط من الانغلاق والتعصب. لذلك تصبح الثقافة مقياسًا لصحة المجتمع: كلما اتسمت بالتعددية والانفتاح، زادت فرص الإبداع والازدهار، وكلما تكلست وانغلقت، ارتفعت احتمالات إنتاج العنف والتطرف.
التطرف لا ينشأ من فراغ، بل يتغذى على عوامل متشابكة. فعلى المستوى الاجتماعي والاقتصادي، يُسهم الفقر، والبطالة، والتهميش في خلق شعور بالإحباط وفقدان العدالة، ما يفتح المجال أمام الخطابات المتطرفة لتقديم نفسها كحل بديل. كثيرًا ما يستغل المتطرفون هذه الأوضاع لتقديم وعود وهمية بتمكين "المحرومين" عبر العنف أو الانغلاق الهوياتي، وهو ما يحول المظالم الواقعية إلى أيديولوجيا مقاتلة.
من ناحية معرفية، يشكل الجهل والأمية الثقافية بيئة خصبة للتطرف، حيث تضعف قدرة الفرد على التفكير النقدي ومساءلة الخطاب المطلق. الانغلاق المعرفي يمنح المتطرفين فرصة لاحتكار الحقيقة وتقديمها كيقين غير قابل للنقاش. أما سياسيًا، فالقمع وغياب المشاركة السياسية والأزمات المستمرة تُضعف الثقة بين المواطن والدولة، وتدفع البعض للبحث عن بدائل في الجماعات المتطرفة التي تقدم نفسها كصوت "الحقيقة" أو "العدل". هكذا تتلاقى العوامل الاقتصادية والمعرفية والسياسية لتنتج أرضية مهيأة للتطرف.
هنا تبرز العلاقة الجدلية: فكلما ضعفت الثقافة كقوة حية في المجتمع، تمدد التطرف ليملأ الفراغ. فالثقافة تشبه جهاز المناعة الذي يحمي من العدوى الفكرية؛ حين يغيب هذا الجهاز، يصبح الاستقطاب أسهل، لأن الأفراد يفتقرون إلى الأدوات الفكرية التي تمكنهم من نقد الخطاب المتطرف أو موازنته بخطاب عقلاني بديل. وبهذا المعنى، التطرف ليس مجرد ظاهرة سياسية أو أمنية، بل نتيجة مباشرة لغياب الفعل الثقافي الحيوي.
الثقافة، حين تكون حية ومنفتحة، تؤدي دور الدرع المعرفي الذي يحمي الفرد والمجتمع من الانجراف وراء الخطابات المطلقة والإقصائية. فهي توفر أدوات التحليل والنقد، وتفتح المجال لتعدد الرؤى والتجارب الإنسانية، ما يقلل من هيمنة الفكر الأحادي. كما أنها تمنح الإنسان القدرة على رؤية ذاته في إطار عالمي وإنساني أوسع، بدل حصره في هوية ضيقة. لذلك يصبح الاستثمار في الثقافة ضرورة وجودية، لا لمواجهة التطرف فحسب، بل لبناء مجتمع قادر على الإبداع والاستمرارية.
الثقافة كأداة مضادة للتطرف:
أول خطوة لمواجهة التطرف هي بناء وعي نقدي يحرر الفرد من التبعية المطلقة لأي خطاب. الثقافة هنا ليست مجرد تراكم معرفي، بل تدريب عملي على السؤال والمراجعة والتمييز بين الرأي والحقيقة. حين ينشأ الفرد في بيئة تعليمية تُشجعه على النقاش الحر وتحليل النصوص، يصبح أقل عرضة لتبني الأفكار المتشددة، لأنه يملك أدوات عقلية تسمح له بالكشف عن التناقضات والمبالغات التي يقوم عليها خطاب التطرف.
يمكن للمجتمعات أن تترجم هذا الدور الثقافي إلى برامج عملية مثل تطوير مناهج التعليم لتشمل مهارات التفكير النقدي والابتكار، وتأسيس نوادي قراءة مدرسية وجامعية تُشجع الشباب على الحوار وتبادل الأفكار. كذلك، تسهم ورش الفنون بأنواعها (مسرح، موسيقى، رسم) في تحفيز الخيال، ما يُكسب الفرد قدرة على رؤية العالم من زوايا متعددة، وهي مهارة مضادة بالأساس للتفكير الأحادي الذي يقوم عليه التطرف.
الثقافة أيضًا تخلق مساحات مشتركة للحوار، حيث يمكن لمواطنين من خلفيات اجتماعية أو دينية أو فكرية مختلفة أن يلتقوا في فضاء آمن. المسرح مثلًا يتيح إعادة تمثيل القضايا الاجتماعية والسياسية بطريقة تفتح أعين الجمهور على زوايا جديدة، والسينما تقدم سرديات بديلة تُعيد تعريف الآخر بعيدًا عن الصور النمطية. أما المنتديات الثقافية، فهي منصات عملية لإدارة الحوار المجتمعي، بما يخفف من احتمالية الانزلاق نحو الصدام أو القطيعة.
حين يُهمَّش الحوار وتُغلق منافذ التعبير، لا يبقى أمام الأفراد سوى اللجوء إلى العنف أو الانعزال. لذلك تُعتبر الثقافة بديلاً عمليًا عن الصدام، لأنها تتيح التعبير عن الغضب أو القلق أو المطالب الاجتماعية ضمن قوالب إبداعية وحضارية. الأغنية الاحتجاجية أو الفيلم النقدي أو العمل الأدبي، كلها أشكال تعبيرية تُعيد توجيه الطاقة السلبية إلى طاقة بنّاءة، وتمنع تحوّلها إلى عنف مدمر.
إحدى أهم وظائف الثقافة المضادة للتطرف هي استدعاء النماذج المضيئة من التراث الإنساني، سواء أكان إسلاميًا أم مسيحيًا أم إنسانيًا عامًا. فالتاريخ مليء بأصوات دعت إلى التسامح والعدل والاعتراف بالآخر. إعادة قراءة هذا التراث وتقديمه للأجيال الجديدة تُظهر أن التطرف ليس امتدادًا طبيعيًا للدين أو الهوية، بل انحراف عنهما. وهذا يعزز الثقة بأن قيم التعايش ليست وافدة من الخارج، بل متجذرة في عمق التجربة الحضارية.
الثقافة في جوهرها ليست "هوية ضد أخرى"، بل هي تراكم مشترك يعبّر عن الإنسانية في أوسع معانيها. الاعتراف بهذا التراكم يُضعف الخطابات المتطرفة التي تقوم على الفصل الصارم بين "نحن" و"هم". حين يدرك الفرد أن الموسيقى التي يسمعها، أو الفلسفة التي يدرسها، أو حتى التكنولوجيا التي يستخدمها هي نتاج تفاعل حضارات متعددة، فإنه يصبح أقل ميلًا إلى رؤية العالم كصراع صفري. بهذا المعنى، الثقافة لا تحمي فقط من التطرف، بل تبني أساسًا نفسيًا ومعرفيًا للعيش المشترك.
المناخ الملائم للإبداع وإنتاج المفكرين:
الإبداع لا يمكن أن يولد في بيئات مغلقة أو محكومة بالخوف، بل يحتاج إلى مساحة حرية واسعة تتيح للأفكار أن تتشكل وتنمو بلا قيود. الحرية الأكاديمية والفنية تمثل شرطًا أوليًا، إذ تُمكّن الباحثين والفنانين من التجريب دون خشية الرقابة أو العقاب. وحين تُكفل الحقوق الفكرية ويحصل المبدع على الحماية القانونية لنتاجه، يتحول الإبداع من مغامرة فردية محفوفة بالمخاطر إلى مشروع مستدام يضمن تراكم المعرفة.
إلى جانب الحرية، يحتاج الإبداع إلى موارد مادية وبشرية. المكتبات الحديثة، ومراكز البحث العلمي، والمسارح، والمعارض الفنية، كلها مؤسسات تصنع بيئة خصبة لإنتاج مفكرين ومبدعين. حتى الفضاءات الرقمية – مثل المنصات التعليمية ومكتبات الإنترنت – أصبحت ضرورية لتوسيع أفق الباحثين. إن غياب هذه الموارد يعني أن المواهب ستظل أسيرة اجتهاد فردي محدود، بينما وجودها يحول الطاقات الفردية إلى حركة ثقافية جماعية مؤثرة.
المناخ الملائم للإبداع ليس نتاج جهود فردية فقط، بل يتطلب سياسات عامة تضع الثقافة في قلب مشروع التنمية. دعم الدولة للمؤسسات الثقافية عبر التمويل والبنية التحتية يمثل استثمارًا طويل الأمد في رأس المال الفكري. الأهم هو دمج الثقافة ضمن الخطط الاقتصادية والاجتماعية، بحيث لا تبقى هامشًا، بل تصبح جزءًا من عملية بناء الإنسان. هذا يخلق شبكة دعم متكاملة تجعل من الثقافة شريكًا في صياغة مستقبل المجتمع.
لا يمكن للدولة وحدها أن تتحمل عبء التنمية الثقافية. إشراك القطاع الخاص عبر الاستثمار في المشاريع الفنية والتقنية، وتشجيع المجتمع المدني على إنشاء مبادرات ثقافية مستقلة، يعزز التنوع ويضاعف فرص الإبداع. المبادرات الشبابية مثل المراكز الثقافية غير الرسمية، والمهرجانات الفنية، والورش التعليمية المجتمعية، تقدم بدائل حيوية تتكامل مع الدور الرسمي وتفتح المجال أمام أصوات جديدة.
التكنولوجيا الرقمية أحدثت ثورة في مجال الثقافة، إذ وسعت فرص الوصول إلى المعرفة بشكل لم يكن متاحًا في الماضي. بفضل الإنترنت، يستطيع طالب في قرية نائية أن يطالع كتبًا نادرة أو يتابع محاضرات لأكبر المفكرين عالميًا. هذا التحول كسر احتكار النخب للمعرفة، وأتاح إنتاج جيل جديد من المفكرين يعتمد على التفاعل والتجريب أكثر من التلقين. غير أن هذا الفضاء الرقمي، رغم إيجابياته، يحتاج إلى تأطير ثقافي يحميه من التوظيف المتطرف.
رغم أن الإنترنت وسّع من فرص التعلم والتبادل الثقافي، إلا أنه أصبح أيضًا ساحة مفتوحة لانتشار خطاب الكراهية والتطرف. مواجهة هذه الظاهرة لا تتحقق بالرقابة وحدها، بل عبر إنتاج ثقافة رقمية بديلة تقوم على تعزيز التفكير النقدي، وتشجيع المحتوى الإبداعي، ودعم المنصات التعليمية والفنية التي تنافس الخطاب المتشدد بجاذبية أكبر. هكذا يتحول الفضاء الرقمي من أداة لنشر التطرف إلى بيئة تحتضن الإبداع وتفتح الطريق أمام مفكرين جدد.
نحو جيل جديد من المفكرين:
المفكر ليس كائنًا معزولًا يظهر فجأة من فراغ، بل هو نتاج بيئته الثقافية والاجتماعية. صحيح أن النخب لعبت دورًا تاريخيًا في إنتاج المفكرين، لكن التجارب أثبتت أن الإبداع الفكري قد ينطلق أيضًا من الطبقات الشعبية إذا توافر لها التمكين الثقافي والفرص العادلة. فالموهبة وحدها لا تكفي، بل تحتاج إلى بيئة تحتضنها وتفتح أمامها مسارات للتطور، لتتحول الأفكار الفردية إلى مشاريع فكرية ذات أثر مجتمعي واسع.
حين تُتاح للطبقات المهمشة فرص المشاركة في الحياة الثقافية، يمكن أن يخرج منها مفكرون قادرون على التعبير عن قضايا مجتمعاتهم بصدق وعمق. هذا التمكين يتحقق عبر برامج التعليم الشامل، والمكتبات العامة في الأحياء الفقيرة، ودعم الفنون الشعبية، بحيث تتحول الثقافة إلى مورد مشترك لا حكرًا على نخبة محدودة. في هذه الحالة يصبح المفكر صوتًا صادقًا للمجتمع، لا مجرد ممثل لطبقة بعينها.
الجيل الجديد من المفكرين يحتاج إلى تجاوز الفصل التقليدي بين العلوم. فالدمج بين العلوم الإنسانية مثل الفلسفة وعلم الاجتماع، والعلوم الطبيعية مثل التكنولوجيا والبيولوجيا، يفتح أفقًا جديدًا لإنتاج فكر معاصر قادر على التعامل مع تحديات العالم الراهن. هذه التعددية المعرفية تسمح بتوليد رؤى شاملة تتجاوز الحلول الجزئية، وتعيد تشكيل العلاقة بين الإنسان والطبيعة والتكنولوجيا بطريقة أكثر وعيًا.
لا يمكن فصل الفكر عن الفنون، فالإبداع الفني كثيرًا ما يكون مصدر إلهام للفكر الفلسفي والاجتماعي. المسرح، الرواية، الموسيقى، والفنون البصرية، كلها وسائط تحفّز المخيلة وتطرح أسئلة وجودية وأخلاقية عميقة. كثير من المفكرين الكبار استلهموا من الفنون زوايا جديدة للتفكير، ما يعني أن الاستثمار في الفنون لا يغني فقط الذوق العام، بل يُسهم أيضًا في تشكيل جيل من المفكرين أكثر حساسية وعمقًا في قراءته للواقع.
تاريخ النهضة العربية في القرن التاسع عشر يقدم نموذجًا بارزًا على دور الثقافة في إنتاج مفكرين جدد. فقد أسهمت حركة الترجمة، والطباعة، والاتصال بالفكر الغربي، في بروز شخصيات مثل رفاعة الطهطاوي، وجمال الدين الأفغاني، ومحمد عبده. هؤلاء لم يكونوا مجرد دارسين للعلوم التقليدية، بل مفكرين أعادوا طرح أسئلة عن الحرية، والتعليم، والإصلاح الديني، بفضل مناخ ثقافي كان مشغولًا بالتجديد والانفتاح.
في العصر الحديث، تُظهر تجارب بعض الدول أن الاستثمار في الثقافة يمكن أن ينتج أجيالًا جديدة من المفكرين. المغرب على سبيل المثال دعم الصناعات الثقافية والفنية وفتح المجال أمام أصوات شبابية في الأدب والفكر. تونس بعد الثورة شهدت حراكًا ثقافيًا أفرز طاقات نقدية جديدة. أما ماليزيا، فنجحت في الجمع بين التنمية الاقتصادية والاستثمار في التعليم والثقافة، ما أوجد نخبة فكرية قادرة على التفاعل مع قضايا العصر. هذه النماذج تؤكد أن المفكر هو انعكاس مباشر لمدى حيوية المشهد الثقافي في بلده.
التحديات والعقبات:
تمثل مشكلة التمويل الثقافي إحدى أبرز العقبات أمام تحويل الثقافة إلى أداة فاعلة في مواجهة التطرف. إذ تظل الموازنات المخصصة للمؤسسات الثقافية هامشية مقارنة بما يوجَّه لقطاعات أخرى، مما يحدّ من قدرة المكتبات العامة، ودور السينما، والمراكز البحثية على أداء أدوارها الحيوية. غياب هذا التمويل الكافي يجعل النشاط الثقافي رهين المبادرات الفردية أو المحاولات غير المنتظمة، وهو ما يحرم المجتمعات من وجود سياسة ثقافية شاملة ومستدامة.
من جهة أخرى، يشكّل هيمنة الخطاب الأحادي – سواء كان دينيًا أو سياسيًا – خطرًا مباشرًا على التعددية الفكرية. فحين يُقدَّم خطاب واحد باعتباره "الحقيقة المطلقة"، يجري إقصاء الأصوات الأخرى وتجفيف منابع النقاش الحر. هذه السيطرة لا تنتج سوى ثقافة مغلقة تهيئ المجال للتطرف، لأنها تحجب إمكانيات الحوار وتضعف ملكة النقد، وبالتالي تكرس ذهنية الطاعة العمياء بدل التفكير المستقل.
أما على المستوى الاجتماعي، فإن ضعف الوعي المجتمعي بأهمية الثقافة يخلق حلقة مفرغة: إذ ينظر قطاع واسع من الناس إلى الثقافة على أنها ترف أو نشاط نخبة، لا كحاجة يومية مرتبطة بالهوية والعيش المشترك. هذا التصور يفتح المجال لهيمنة خطابات بديلة أكثر بساطة وسرعة الانتشار، مثل خطابات الكراهية أو التحريض، التي تستغل الفراغ الثقافي لتجنيد الأفراد وبناء سرديات مغلقة.
أخيرًا، تأتي العولمة الثقافية كأحد التحديات الكبرى، فهي على الرغم من إسهامها في تبادل المعارف، تحمل في طياتها خطر طمس الهويات المحلية إذا غابت رؤية نقدية قادرة على الانتقاء والتكييف. سيطرة المنتجات الثقافية العالمية، خاصة في ظل الإعلام الرقمي، قد تؤدي إلى تآكل الخصوصية الثقافية، ما يخلق إما شعورًا بالاغتراب أو رد فعل عكسي يتجلى في التشدد والانغلاق. الحل هنا لا يكمن في الانعزال، بل في بناء ثقافة قادرة على التفاعل الخلّاق مع الآخر، دون أن تفقد جذورها الخاصة.
حلول عملية وتوصيات:
إن إصلاح التعليم يمثل حجر الأساس لأي مشروع ثقافي مضاد للتطرف. المطلوب ليس مجرد تطوير المناهج من حيث الشكل، بل إعادة هيكلة الفلسفة التربوية ذاتها، بحيث تركز على الإبداع والتفكير النقدي بدلًا من التلقين الآلي. تعليم الطفل كيف يسأل، ويبحث، ويناقش، يمنحه حصانة معرفية ضد الانجرار وراء الخطابات المطلقة. المدارس والجامعات مطالَبة بأن تتحول إلى فضاءات لتجريب الأفكار وصقل المواهب، لا مجرد مؤسسات لإعادة إنتاج القوالب الجاهزة.
إلى جانب التعليم، تبرز أهمية إطلاق برامج وطنية للقراءة والفنون، تجعل من الثقافة ممارسة يومية لا مرتبطة فقط بالنخبة. مثل هذه البرامج يمكن أن تتخذ أشكالًا متعددة: مكتبات متنقلة تجوب القرى، مسابقات أدبية وفنية للشباب، مهرجانات مسرحية وموسيقية شعبية. القراءة والفنون ليست ترفًا، بل أدوات لبناء وعي جمعي منفتح قادر على استيعاب التعددية.
كما لا يمكن إغفال دور الإعلام الثقافي في تشكيل الوعي العام. فالإعلام اليوم هو الرافعة الأقوى لتوجيه الرأي العام، وإذا استُخدم لتسليط الضوء على المبادرات الثقافية والفكرية، فسيؤدي دورًا محوريًا في نشر قيم التسامح والانفتاح. إنتاج قنوات وبرامج تثقيفية جذابة، بلغة قريبة من الشباب، كفيل بخلق جمهور واسع يتعامل مع الثقافة كجزء من حياته اليومية، لا مجرد مادة نخبوية جامدة.
وأخيرًا، هناك حاجة إلى تعزيز التعاون الدولي والحاضنات الإبداعية للشباب. التبادل الثقافي مع دول أخرى يفتح الأفق أمام تجارب مغايرة تساعد على التحرر من الانغلاق المحلي، بينما توفير مراكز بحثية، ورش إبداعية، ومسارح شبابية يمنح الأجيال الجديدة منصات للتعبير عن ذاتها وإنتاج أفكار جديدة. هذه الحاضنات يمكن أن تصبح مختبرات حقيقية لتفريخ مفكرين ومبدعين يسهمون في صناعة المستقبل، بدل أن يُترك الشباب نهبًا لخطابات العنف والكراهية.
الخاتمة:
تشكل الثقافة، في جوهرها، أكثر من مجرد ممارسة نخبوية أو نشاط جانبي، فهي استراتيجية دفاعية وتنموية في آن واحد. حين تُدمج الثقافة في مشروع الدولة والمجتمع، تتحول إلى أداة لتحصين الأفراد من الانجراف نحو التطرف والانغلاق، وتفتح أمامهم أفقًا أوسع للتفكير والإبداع. إنها القوة الناعمة التي تصوغ الهوية الوطنية الجامعة، وتمنحها القدرة على التفاعل الخلّاق مع التحديات الداخلية والعالمية دون أن تفقد خصوصيتها أو تتقوقع في عزلة مدمّرة.
غير أن تحويل الثقافة إلى صمام أمان حقيقي يحتاج إلى إرادة سياسية ومجتمعية واعية، تدرك أن النهضة لا تُبنى بالاقتصاد والسياسة وحدهما، بل عبر بناء عقل إنساني متوازن قادر على النقد والإبداع. إدماج الثقافة في خطط التنمية، وتمكينها عبر التعليم والإعلام والمؤسسات المدنية، يعني الاستثمار في أجيال جديدة من المفكرين والمبدعين الذين يصوغون خطابًا بديلاً عن خطاب الكراهية، ويؤسسون لمجتمعات أكثر عدلًا، وانفتاحًا، وإنسانية.