المدارس الجهادية في أفغانستان.. كيف تصنع طالبان أجيالًا متشددة؟
محمد شعت
منذ عقود طويلة، ارتبطت أفغانستان بظاهرة المدارس الدينية التي لعبت
دورًا مركزيًا في تشكيل البنية الفكرية والسياسية للمجتمع. هذه المدارس لم تكن
مجرد مؤسسات تعليمية دينية، بل تحولت خلال الحرب الباردة إلى أدوات سياسية
وعسكرية. ففي الثمانينيات، عندما غزا الاتحاد السوفيتي أفغانستان، وجدت باكستان
نفسها في قلب المواجهة، ففتحت أراضيها أمام ملايين اللاجئين الأفغان، ومعهم عشرات
الآلاف من الأطفال الذين التحقوا بمدارس دينية أنشئت بتمويل خارجي، خصوصًا من بعض
الدول العربية والخليجية، إضافة إلى الدعم الأمريكي غير المباشر في إطار الحرب ضد
السوفييت. هذه المدارس، التي عُرفت في باكستان باسم "المدارس
الديوبندية"، خرجت أجيالًا من الطلبة الذين اعتنقوا فكرًا محافظًا متشددًا،
وكانوا النواة الأولى لظهور حركة طالبان في منتصف التسعينيات.
ومع مرور الوقت، ترسخت هذه الثقافة التعليمية في المجتمع الأفغاني،
إذ اعتُبرت المدارس الدينية ملاذًا آمنًا للأسر الفقيرة التي لا تستطيع تحمل
تكاليف التعليم الحديث. ومع انسحاب السوفييت ثم انهيار الدولة المركزية في
أفغانستان، بقيت هذه المدارس الأكثر انتشارًا والأقدر على ملء الفراغ، ما جعلها
حاضنة طبيعية لإعادة إنتاج أيديولوجيا قائمة على تفسير ضيق للنصوص الدينية، بعيدًا
عن العلوم الحديثة. ومع عودة طالبان إلى الحكم في 2021، لم يكن غريبًا أن تجعل
الحركة من هذه المدارس ركيزة أساسية لسياساتها التعليمية، باعتبارها مصدرًا لبناء
الولاء الفكري وإعداد جيل جديد يتبنى رؤيتها الحصرية للمجتمع والدين.
هيمنة متشددة على التعليم
منذ وصول طالبان على السلطة، بدا واضحًا أن الحركة تضع التعليم تحت
هيمنتها الكاملة. فقد أغلقت المدارس الثانوية والجامعات أمام الفتيات، وفرضت
قيودًا صارمة على تعليم النساء، في الوقت الذي توسعت فيه بشكل غير مسبوق في إنشاء
المدارس الدينية والجهادية. فبحسب بيانات وزارة التعليم التابعة للحركة، وصل عدد
المدارس الدينية إلى أكثر من 21 ألف مدرسة، في حين شُيّدت 400 مدرسة جهادية جديدة،
وهو ما وصفه مراقبون بأنه مشروع ممنهج لإعادة صياغة المجتمع الأفغاني وفقًا لقيم
طالبان. ولم يتوقف الأمر عند فتح المدارس الجديدة، بل امتد إلى تغيير المناهج في
المدارس الحديثة لتصبح ذات طابع ديني، وهو ما يعني تراجع المواد العلمية والتقنية
لصالح مواد مركزة على الدراسات الدينية.
هذه السياسات أثارت موجة واسعة من الانتقادات. مير واعظ بلخي، القائم
بأعمال وزير التعليم الأفغاني السابق، قال بوضوح إن ما يجري هو "تعليم
سيئ"، مضيفًا أن "عدم التعليم أحيانًا أفضل بكثير من التعليم
السيئ". وحذر بلخي من أن إقصاء التعليم الحديث عالي الجودة لصالح مناهج قائمة
على التطرف سيؤدي إلى نتائج خطيرة، أبرزها تعزيز الشرعية الاجتماعية لطالبان
وترسيخ خطابها الأيديولوجي. كما اعتبر أن غياب التعليم العصري سيجعل الجيل الجديد
غير قادر على دخول سوق العمل أو المشاركة في الحكم الرشيد أو المساهمة في تنمية المجتمع،
بل قد يتحول إلى عبء على البلاد والمنطقة بأكملها.
ولم يقتصر القلق على الداخل الأفغاني، بل امتد إلى شخصيات إعلامية
وسياسية بارزة. لطف الله نجفي زاده، رئيس قناة "عمو" التلفزيونية، ذهب
إلى حد تشبيه المدارس الجهادية التابعة لطالبان بالمنشآت النووية الإيرانية،
مؤكدًا أنها تحتاج إلى مراقبة دقيقة بسبب خطورة ما يمكن أن تخرجه من أفكار متشددة.
واعتبر أن خريجي هذه المدارس يحملون رسائل تحذيرية للمجتمع الدولي، وأن الموجة
الجديدة من التعليم الديني قد تتحول إلى تهديد واسع يتجاوز حدود أفغانستان.
أما على الصعيد الدولي، فقد عبّر ريتشارد بينيت، المقرر الخاص للأمم
المتحدة المعني بحقوق الإنسان، عن مخاوفه من أن تتحول سياسات طالبان في قمع المرأة
والسيطرة على المجتمع إلى أيديولوجيا متطرفة تتجذر في نفوس الأجيال المقبلة،
خصوصًا الرجال والفتيان. وحذّر من أن إعطاء الأولوية للتعليم الديني سيكرّس رؤية
أحادية مغلقة، تزيد من عزلة أفغانستان عن العالم. وقد عززت منظمة
"فراجير" هذه المخاوف عبر بحث ميداني شمل مقابلات مع 700 شخص في 14
مقاطعة، حيث أكد المشاركون، ومعظمهم من النساء، أن سياسات طالبان أدت إلى زيادة
التطرف داخل المجتمع، وأن استخدام الدين لتبرير هذه السياسات يمثل تحريفًا للنصوص
المقدسة، وهو ما يعكس رفضًا شعبيًا صامتًا لكنه متنامٍ.
مستقبل غامض
وتذهب قراءات إلى أنه إذا استمرت هذه السياسات التعليمية على المنوال
الحالي، فإن انعكاساتها على مستقبل أفغانستان ستكون عميقة ومرعبة في آن واحد. فمن
الناحية الاجتماعية، يعني إقصاء النساء من التعليم وتعزيز المدارس الدينية إنتاج
مجتمع قائم على الانقسام الحاد بين الجنسين، مع ما يحمله ذلك من تفكك أسري وغياب
دور المرأة في الحياة العامة.
ومن الناحية الاقتصادية، فإن
التركيز على التعليم الديني دون العلوم والتقنيات الحديثة سيحرم الشباب من
المهارات المطلوبة لدخول سوق العمل، ما يؤدي إلى تفاقم معدلات البطالة والفقر،
وبالتالي زيادة الهجرة إلى الخارج. وقد بدأت بعض الأسر بالفعل في البحث عن فرص
تعليمية خارج البلاد، رغم ما يواجهه أطفالها من صعوبات في الاندماج بالدول
المجاورة.
على الصعيد السياسي، يكرّس هذا النمط التعليمي حكم طالبان من خلال
صناعة جيل جديد يعتنق رؤيتها الخاصة للعالم، ما يمنحها شرعية طويلة المدى يصعب
تفكيكها. وفي المقابل، فإنه يعمّق عزلة أفغانستان الدولية، إذ لن يكون من السهل
دمج بلد يعتمد على مناهج دينية متشددة في المنظومة العالمية التي تقوم على
الانفتاح والتعددية. أما أمنيًا، فإن تخريج آلاف الطلاب من المدارس الجهادية يثير
مخاوف من عودة أفغانستان لتكون بيئة خصبة للتنظيمات المتطرفة العابرة للحدود، بما
يهدد الأمن الإقليمي والعالمي.
ويشير هذا المشهد إلى أن أفغانستان تقف عند مفترق طرق مصيري. فبدلًا
من أن يكون التعليم رافعة لإعادة بناء الدولة بعد عقود من الحرب، يجري تحويله إلى
أداة لإعادة إنتاج الأيديولوجيا الضيقة. هذا المسار لا يهدد فقط مستقبل الأفغان
الذين يُحرمون من التعليم العصري، بل يهدد أيضًا استقرار المنطقة ككل، ويضع
المجتمع الدولي أمام تحدٍّ جديد في كيفية التعامل مع دولة تسير نحو الانغلاق
والتشدد بدلًا من الانفتاح والنهضة.
