من فيينا إلى بروكسل: أوروبا تراجع علاقتها بجماعة الإخوان بعد فضيحة التجسس النمساوية

الإثنين 03/نوفمبر/2025 - 04:01 م
طباعة من فيينا إلى بروكسل: علي رجب
 
في خطوة وصفت بأنها الأكثر صرامة منذ سنوات في مواجهة خطر جماعة الإخوان المسلمين داخل أوروبا، أعد البرلمان النمساوي تقريرا موسعا تناول فيه تاريخ الجماعة، وأيديولوجيتها، وأنشطتها التنظيمية في القارة الأوروبية، إلى جانب تحليل لأشكال التغلغل التي تمارسها داخل المؤسسات الرسمية والمجتمع المدني. ويهدف التقرير إلى رفع مستوى وعي النواب والرأي العام بخطورة التنظيم الذي تصنفه النمسا رسميا كـ"منظمة مناهضة للدستور".

ويأتي التقرير في وقت حساس، بعد تفجر قضية تجسس داخل جهاز الاستخبارات النمساوي (DSN)، أظهرت وجود موظف مشتبه في نقله معلومات سرية إلى جماعة الإخوان المسلمين، ما أثار عاصفة سياسية وأمنية في البلاد، وفتح من جديد ملف تسلل الجماعات المتطرفة إلى المؤسسات الأوروبية الحساسة.

قضية تجسس تهز جهاز الأمن النمساوي

بحسب مصادر أمنية في فيينا، فإن الموظف الذي كان يعمل بصفة مؤقتة في جهاز الاستخبارات، يشتبه في تسريبه تفاصيل عن تحقيقات متعلقة بالإرهاب إلى أعضاء مرتبطين بجماعة الإخوان المسلمين. وقد خضع الرجل لمراقبة دقيقة على مدى أسابيع قبل أن تتدخل السلطات وتوقفه عن العمل فورا عقب اجتماع جمعه بعناصر من التنظيم.

وذكرت المصادر أن الشرطة النمساوية داهمت منزله وصادرت مستندات وأجهزة إلكترونية يعتقد أنها استخدمت في تمرير المعلومات. ويعمل مكتب المدعي العام في فيينا حاليا على إعداد لائحة اتهام ضده بتهمة "أنشطة استخباراتية تضر بأمن جمهورية النمسا".

وقال متحدث باسم المكتب الاتحادي لحماية الدستور ومكافحة الإرهاب إن القضية "فردية"، مشيرا إلى أن "آليات الرقابة الداخلية كانت فعالة وكشفت الانتهاك في الوقت المناسب"، لكنه أكد أن التحقيقات لا تزال مستمرة لتحديد مدى عمق الاختراق المحتمل.

وفي تصريح لصحيفة كرونة النمساوية، أوضح المكتب أن المشتبه به يخضع للتحقيق بسبب أنشطة استخباراتية تضر بالدولة، وأن الأدلة كافية لتوقيفه عن العمل فورا.

البرلمان يرفع التحذير: "اختراق أيديولوجي لا يقل خطورة عن الإرهاب المسلح"

التقرير البرلماني النمساوي الذي صدر متزامنا مع الحادثة، قدم صورة شاملة عن تاريخ جماعة الإخوان المسلمين وبنيتها التنظيمية داخل أوروبا، محذرا من أن أنشطتها "لم تعد تقتصر على الدعوة الدينية، بل أصبحت مشروعا سياسيا متكاملا يستهدف بنية الدولة الديمقراطية نفسها".

ويشير التقرير إلى أن الجماعة، التي تأسست في مصر عام 1928 على يد حسن البنا، تمتلك شبكة غير رسمية ومعقدة من الجمعيات والمراكز والمساجد في أوروبا، وتهدف إلى "أسلمة المجتمعات الأوروبية تدريجيا عبر اختراق المؤسسات السياسية والتعليمية والحقوقية".

كما وصف البرلمان الإخوان بأنهم "يتبعون نهجا طويل المدى تحت مسمى المسيرة عبر المؤسسات"، وهي استراتيجية تهدف إلى التأثير في السياسات الداخلية الأوروبية من الداخل عبر واجهات قانونية وإنسانية.

الفضيحة السياسية: اتهامات لوزير الداخلية بالفشل

من جانب آخر، استغل حزب الحرية النمساوي (FPÖ) الفضيحة لتوجيه انتقادات حادة لوزير الداخلية جيرهارد كارنر (من حزب الشعب النمساوي)، متهما إياه بـ"التقصير الكارثي" في حماية جهاز الاستخبارات من الاختراق.

وقال المتحدث باسم الحزب لشؤون الأمن، جيرنوت دارمان، إن ما حدث "ليس حالة فردية، بل نتيجة لغياب رقابة فعالة"، مضيفا أن "من غير المقبول أن يتمكن متطرف من الوصول إلى بيانات حساسة دون أن يكتشف لفترة طويلة".

ووصف دارمان الوزير بأنه "تحول إلى وزير فوضى"، ودعا إلى إصلاح شامل لآليات الرقابة الأمنية الداخلية.

تحذيرات أكاديمية: التسلل إلى الدولة خطر على الأمن الأوروبي

في السياق ذاته، أعربت نينا شولتز، أستاذة العلوم السياسية في جامعة فيينا، عن قلقها من الحادثة، معتبرة أن "تسلل المنظمات الإسلامية المتطرفة إلى أجهزة أمن الدولة يشكل خطرا هائلا على الأمن الوطني والأوروبي".

وأوضحت شولتز أن جماعة الإخوان المسلمين تتبع استراتيجية تغلغل ناعمة، تعتمد على إنشاء منظمات خيرية ومراكز ثقافية ومؤسسات تعليمية تعمل على بناء نفوذ اجتماعي يمهد لنفوذ سياسي، مضيفة أن الجماعة تسعى إلى "تحويل أوروبا تدريجيا من الداخل عبر التأثير على النخب وصناع القرار".

وأكدت أن التنظيم استخدم ذات الأسلوب في الشرق الأوسط سابقا قبل أن ينخرط في أنشطة إرهابية أو دعم حركات عنف مثل حركة حماس الفلسطينية التي تعد أحد فروعه التاريخية.

الإخوان في أوروبا: شبكة عابرة للحدود

تقرير البرلمان النمساوي ليس الأول من نوعه، إذ تزايدت في السنوات الأخيرة التقارير الرسمية الأوروبية التي تحذر من نفوذ الإخوان. ففي سويسرا، تقدمت السياسية جاكلين دي كواترو، من حزب الأحرار الراديكاليين، بطلب لإجراء تحقيق رسمي مشابه للتقرير الفرنسي حول الجماعة، مؤكدة أن "الإخوان يمثلون تهديدا حقيقيا إذا تركوا دون رقابة".

وقالت دي كواترو: "في فرنسا، بنى الإخوان شبكة قوية داخل المدارس والجمعيات الثقافية والاجتماعية لعقود، بهدف تطبيق الشريعة تدريجيا... لا نريد لهذا النموذج أن يتكرر في سويسرا".

وطالبت السياسية السويسرية المجلس الفيدرالي بتوثيق وجود هذه الشبكات وتحليل أثرها الأيديولوجي والاجتماعي ومدى توافقها مع الدستور السويسري.

أما في ألمانيا، فقد وصف الخبير الأمني والسياسي مصطفى العمار جماعة الإخوان بأنها "أخطر من داعش"، مشيرا إلى أن الاستخبارات الفيدرالية الألمانية (BND) تعتبر الجماعة تهديدا استراتيجيا طويل الأمد "يسعى إلى زعزعة استقرار الدولة والتأثير على صنع القرار".

فرنسا: من التحذير إلى التشريع

في فرنسا، تتخذ الحكومة بقيادة الرئيس إيمانويل ماكرون خطوات تشريعية لمواجهة تمدد جماعة الإخوان المسلمين في المجتمع الفرنسي. ووفق تقرير رسمي نشر هذا العام، تسيطر الجماعة على ما لا يقل عن 139 مكان عبادة و280 جمعية تعليمية وخيرية و21 مدرسة، وتعمل على بناء "أنظمة بيئية متكاملة لتنظيم حياة المسلمين من الولادة حتى الوفاة".

وقد أمر ماكرون بإعداد مشروع قانون يهدف إلى مواجهة نفوذ الإسلام السياسي ومراقبة تمويل الجمعيات ذات الصلة بالإخوان. وأكدت الرئاسة الفرنسية أن الجماعة تمثل "تهديدا للتماسك الوطني والعلمانية الفرنسية".

أنشطة ضغط داخل مؤسسات الاتحاد الأوروبي

تقرير صحيفة بوليتيكو الأوروبية أشار أيضا إلى أن جماعة الإخوان وحلفاءها يحاولون التأثير في مؤسسات الاتحاد الأوروبي عبر أنشطة ضغط (لوبيينغ) تهدف إلى تغيير سياسات حرية التعبير والدين، ومن بين الكيانات التي ورد اسمها في التقرير مجلس المسلمين الأوروبيين (CEM) ومنتدى المنظمات الشبابية والطلابية الإسلامية الأوروبية (FEMYSO).

ووفق التقرير، فإن بعض أعضاء الدائرة الداخلية للإخوان ينتمون إلى هذه المنظمات التي تستخدم كمنصات تدريب وتأهيل لقيادات مستقبلية داخل التنظيم في أوروبا.

توافق أوروبي على خطورة الجماعة

تؤكد دراسة صادرة عن برنامج التطرف بجامعة جورج واشنطن أن أجهزة الأمن في سبع دول أوروبية — من بينها النمسا وألمانيا وفرنسا وهولندا والسويد — تتبنى موقفا سلبيا للغاية تجاه جماعة الإخوان المسلمين.

وتشير الدراسة إلى وجود "شبكة متطورة تعمل بسرية في أوروبا، ذات بعد وطني وعابر للحدود، تتخذ من منظمات مظلة مثل FIOE/CEM وFEMYSO واجهات لأنشطتها".

ختاما: أوروبا أمام اختبار الأمن الفكري والسياسي

تجمع معظم التقارير الأوروبية على أن الخطر الذي تمثله جماعة الإخوان المسلمين لم يعد محصورا في العنف المباشر، بل يكمن في قدرتها على التأثير الأيديولوجي والتسلل المؤسساتي داخل المجتمعات الديمقراطية.

ومع تصاعد الدعوات في النمسا وسويسرا وألمانيا وفرنسا لإجراء تحقيقات معمقة وتشريعات صارمة، يبدو أن القارة الأوروبية أمام مرحلة جديدة من إعادة تقييم علاقتها بالتيارات الإسلامية السياسية.

وفي حين ترى النمسا أن قضية التجسس الأخيرة جرس إنذار حقيقي، فإن مستقبل التعامل الأوروبي مع جماعة الإخوان سيعتمد على مدى استعداد الحكومات للانتقال من التحذير إلى الفعل التشريعي والتنفيذي، لضمان حماية الديمقراطية الأوروبية من التهديدات الأيديولوجية المنظمة.

شارك