نيجيريا تحت الحصار.. تفكيك استراتيجيات الدم

الخميس 25/ديسمبر/2025 - 02:47 ص
طباعة نيجيريا تحت الحصار.. حسام الحداد
 
يمثل التفجير الإرهابي الذي استهدف مسجد "العدن" في قلب مدينة مايدوجوري فصلاً جديداً مأساوياً في رواية النزيف النيجيري المستمر منذ ما يزيد عن عقدين. هذا الهجوم ليس مجرد خرق أمني عابر، بل هو صرخة في وجه الادعاءات الرسمية التي تتحدث عن قرب نهاية التمرد الإرهابي في شمال شرق البلاد. إن استهداف المصلين في لحظة تعبدية مقدسة يعكس وصول الجماعات المسلحة إلى مرحلة من اليأس الاستراتيجي والتوحش العملياتي الذي لا يفرق بين عسكري ومدني.
تعد ولاية "بورنو" وعاصمتها مايدوجوري مسرحاً لواحد من أعقد الصراعات في القارة الأفريقية، حيث تتداخل فيه العوامل الدينية بالعرقية والاقتصادية. لقد تحولت المنطقة إلى مختبر لإنتاج نسخ مشوهة من التدين تتبنى القتل كمنهج وحيد للتعبير عن الذات السياسية. هذا الواقع يجعل من نيجيريا نقطة ارتكاز حاسمة في الحرب العالمية ضد الإرهاب، حيث يمثل استقرارها استقراراً لمنطقة الساحل وغرب أفريقيا بأكملها.
إن النظرة النقدية لهذا المشهد تكشف عن هوة واسعة بين الخطط العسكرية الموضوعة على الورق وبين الواقع الميداني الذي يتسم بالسيولة والهشاشة. فرغم الحملات العسكرية المتعددة بمسمياتها الرنانة، لا تزال المنظمات الإرهابية قادرة على الوصول إلى مراكز المدن المحصنة وتفجيرها من الداخل. هذا الإخفاق يضع تساؤلات كبرى حول كفاءة المنظومة الأمنية وقدرتها على التنبؤ والمنع الاستباقي للعمليات الانتحارية.
علاوة على ذلك، يمثل الإرهاب في نيجيريا تحدياً للهوية الوطنية، حيث يسعى المخربون إلى تمزيق النسيج الاجتماعي عبر إحداث شرخ بين الطوائف والمكونات المختلفة. استهداف المساجد تحديداً يهدف إلى إحراج الدولة وإظهارها بمظهر العاجز عن حماية مواطنيها حتى في أكثر الأماكن خصوصية وقدسية. إنه اختبار لصلابة المجتمع النيجيري وقدرته على الصمود أمام محاولات "الأفغنة" التي تسعى إليها التنظيمات المتطرفة.
يسعى هذا المقال إلى الغوص في دهاليز الأزمة النيجيرية، متناولاً الجذور الأيديولوجية لهذا التغول، وتحليل السياسات الأمنية المتبعة، وتأثير العوامل السوسيو-اقتصادية في إطالة أمد الصراع. كما سنحاول رسم سيناريوهات مستقبلية لما قد تؤول إليه الأوضاع في ظل المنافسة الشرسة بين تنظيم "داعش" وبقايا "بوكو حرام"، وما يعنيه ذلك لمستقبل الدولة النيجيرية والمنطقة الجيو-سياسية المحيطة بها.

أولاً: التحول الأيديولوجي والصراع بين "بوكو حرام" و"داعش"
بدأت "بوكو حرام" كحركة احتجاجية دينية ترفض التعليم الغربي، لكنها سرعان ما تحولت إلى آلة قتل عابرة للحدود بعد مقتل مؤسسها محمد يوسف في 2009. التحول من "الدعوة" إلى "الجهاد المسلح" أحدث صدمة في المجتمع النيجيري، حيث تبنى خليفته أبو بكر شيكاو تكتيكات شديدة التوحش. هذا التوحش شمل التفجيرات العشوائية في الأسواق والمساجد، مما جعل الجماعة معزولة شعبياً حتى في بيئتها الحاضنة.
في عام 2016، حدث الانقسام الأبرز بظهور "تنظيم داعش في غرب أفريقيا" (ISWAP) كمنشق عن جماعة شيكاو، بعد مبايعته لمركزية التنظيم في سوريا والعراق. داعش حاولت تقديم نفسها كبديل "أكثر عقلانية" في القتل، حيث ركزت هجماتها على الجيش والمؤسسات الحكومية، وحاولت كسب ود السكان المحليين. هذا الانقسام لم يضعف الإرهاب، بل خلق منافسة دموية على "من يثبت جدارته بالتغول" في المنطقة.
المنافسة بين القطبين الإرهابيين أدت إلى سباق في التسلح والتكتيكات، حيث استغل كل طرف نقاط ضعف الآخر لتعزيز نفوذه. داعش نجحت في السيطرة على مساحات واسعة حول بحيرة تشاد، بينما ظلت بقايا بوكو حرام (فصيل شيكاو سابقاً) تعتمد على حرب العصابات والتفجيرات الانتحارية. الهجوم الأخير على المسجد يرجح وقوف الفصائل الأكثر راديكالية خلفه، تلك التي لا ترى حرجاً في قتل المسلمين المخالفين لمنهجها.
أيديولوجياً، تتبنى هذه الجماعات فكراً "تكفيرياً" يخرج الدولة والمجتمع من الملة، مما يمنحها مبرراً أخلاقياً زائداً لممارسة العنف المفرط. استخدام "الحاكمية" وتطبيق الشريعة كشعارات، يهدف إلى استقطاب الشباب المحبط الذي يرى في هذه التنظيمات وسيلة للانتقام من دولة لا توفر له أبسط مقومات الحياة. هذا الصراع الأيديولوجي جعل من الصعب إجراء أي حوار سياسي، لأن المنطلقات لدى الإرهابيين صفرية لا تقبل الحلول الوسط.
تاريخياً، أثبتت هذه الجماعات قدرة مذهلة على التكيف مع الضغوط العسكرية عبر تغيير القيادات وتبديل الولاءات. فمقتل قادة كبار مثل شيكاو أو أبو مصعب البرناوي لم ينهِ الخطر، بل ولد قادة أكثر تخفياً ورغبة في إثبات الذات عبر عمليات نوعية. لذا، فإن فهم المشهد الحالي يتطلب إدراك أننا أمام كائنات تنظيمية "هلامية" تعيد إنتاج نفسها باستمرار تحت مسميات ورايات مختلفة، لكن بجوهر إجرامي واحد.

ثانياً: السياسة الأمنية النيجيرية.. فجوات الردع ومعضلة "المخيمات الفائقة"
تعتمد الدولة النيجيرية استراتيجية "المخيمات الفائقة" (Super Camps)، وهي تجميع القوات في قواعد عسكرية كبرى ومحصنة لحمايتها من الهجمات المباغتة. هذه الاستراتيجية، رغم أنها قللت من خسائر الجيش في الأرواح، إلا أنها تركت المناطق الريفية والقرى نهباً للمسلحين. غياب الوجود العسكري الدائم في الأرياف سمح للإرهابيين بإعادة التموضع وفرض الضرائب على المزارعين، مما خلق "سيادة بديلة" في الظل.
تعاني الأجهزة الأمنية في نيجيريا من نقص حاد في التنسيق الاستخباراتي، مما يجعل العمليات غالباً ما تأتي كـ "رد فعل" بعد وقوع الكارثة. الهجوم على مسجد مايدوجوري يكشف عن فشل في اختراق الخلايا النائمة التي تعيش داخل المدن الكبرى. الاعتماد المفرط على القوة الغاشمة والطيران الحربي دون وجود "استخبارات بشرية" قوية، يجعل الجماعات الإرهابية دائماً متقدمة بخطوة في اختيار أهدافها الرخوة.
الحدود النيجيرية مع الكاميرون وتشاد والنيجر تمثل ثغرة أمنية كبرى، حيث توفر غابة "سامبيسا" وجبال "ماندارا" ملاذات آمنة يصعب تطهيرها بالكامل. العمليات المشتركة مع دول الجوار (MNJTF) تعاني من مشاكل في التمويل وتضارب المصالح القومية، مما يضعف الجهد الإقليمي الجماعي. الإرهاب في هذه المنطقة لا يعترف بالحدود، بينما تظل الاستجابة الأمنية محصورة غالباً داخل الأطر الوطنية الضيقة.
هناك أيضاً انتقادات حقوقية واسعة تلاحق الجيش النيجيري، حيث تساهم بعض الانتهاكات ضد المدنيين في دفع الشباب نحو أحضان الجماعات الإرهابية طلباً للحماية أو الانتقام. بناء الثقة بين المواطن ورجل الأمن هو الركيزة المفقودة في الاستراتيجية النيجيرية. بدون حاضنة شعبية ترفض الإرهاب وتزود الدولة بالمعلومات، ستظل القوات العسكرية تتحرك في بيئة غامضة وعدائية أحياناً.
أخيراً، يبرز الفساد داخل المؤسسة العسكرية كعائق أمام حسم المعركة، حيث تُشير تقارير إلى تسرب أسلحة ومعلومات ونهب لميزانيات الدفاع. الجندي في الميدان يحتاج إلى دافع معنوي وإمدادات لوجستية مستمرة ليواجه انتحارياً لا يخشى الموت. لذا، فإن إصلاح المؤسسة الأمنية من الداخل، ومراجعة عقيدة القتال لتصبح "تأمين السكان" لا مجرد "حماية القواعد"، هو المخرج الوحيد من المأزق الأمني الراهن.

ثالثاً: العوامل الاقتصادية والاجتماعية.. الحاضنة التي لا تجف
يعتبر شمال شرق نيجيريا من أفقر المناطق في القارة، حيث تتجاوز معدلات الأمية والبطالة مستويات قياسية مقارنة بالجنوب الغني بالنفط. هذا التفاوت الطبقي والجغرافي يغذي الشعور بالظلم لدى السكان، ويجعل من الوعود "الخلاصية" التي يقدمها الإرهابيون جذابة للبعض. الفقر هنا ليس مجرد نقص في المال، بل هو غياب للكرامة والأمل، مما يحول الشاب إلى لغم قابل للانفجار في أي لحظة.
يبرز نظام "الألماجري" (التعليم الديني التقليدي) كأحد الروافد التي تستغلها الجماعات الإرهابية؛ حيث يُترك آلاف الأطفال بلا رعاية أسرية أو تعليم نظامي، مما يسهل عملية غسل أدمغتهم. الجماعات الإرهابية تملأ الفراغ الذي خلفته الدولة في قطاعات الصحة والتعليم والقضاء في المناطق النائية. عندما يرى المواطن أن "الإرهابي" هو من يوفر له الأمن (حتى لو كان زائفاً) أو يحكم في نزاعاته، تضعف هيبة الدولة في نظره.
أزمة بحيرة تشاد وتغير المناخ أضافا بعداً جديداً للصراع، حيث أدى جفاف البحيرة إلى فقدان ملايين الصيادين والمزارعين لمصادر رزقهم. هذا الانهيار البيئي خلق صراعات بين الرعاة والمزارعين، استغلتها بوكو حرام وداعش لتجنيد المتضررين عبر إغرائهم بالمال والسلاح. الاقتصاد الموازي الذي تديره هذه الجماعات، من تجارة الأسماك والمحاصيل المنهوبة، يضمن لها استدامة مالية بعيداً عن الرقابة الدولية.
اجتماعياً، تعيش عائلات الضحايا والمنشقين عن الجماعات الإرهابية حالة من النبذ، مما يعيق جهود "إعادة الدمج" التي تحاول الدولة القيام بها. برنامج "ممر السلام" (Operation Safe Corridor) يواجه رفضاً شعبياً لأن الضحايا يرون فيه تدليلاً للقتلة. هذا الانقسام الاجتماعي يجعل الجروح لا تندمل، ويخلق دورات جديدة من العنف الثأري التي قد تستمر لأجيال قادمة إذا لم يتم التعامل معها بحكمة.
لا يمكن إغفال دور التكنولوجيا ومنصات التواصل الاجتماعي في نشر الخطاب المتطرف وتجنيد الكفاءات الفنية من الشباب. داعش في غرب أفريقيا تستخدم آلة إعلامية محترفة تخاطب الشباب بلغاتهم المحلية وتعدهم بـ "التمكين" والعدالة. إن مواجهة هذا التمدد تتطلب "خطة مارشال" حقيقية لإعمار الشمال، وليس مجرد مساعدات إنسانية مؤقتة لا تغير من الواقع الهيكلي للفقر والتهميش شيئاً.

رابعاً: السيناريوهات المستقبلية.. أين تتجه بوصلة الصراع؟
السيناريو الأول هو "الاستنزاف المزمن"، وفيه تستمر العمليات الإرهابية كما هي، مع بقاء الدولة في حالة دفاعية غير قادرة على الحسم. في هذا المسار، تظل المدن الكبرى مثل مايدوجوري "حصوناً" معزولة، بينما يسيطر الإرهابيون على الريف، مما يؤدي إلى انهيار اقتصادي طويل الأمد وتدفق مستمر للاجئين. هذا السيناريو هو الأكثر ترجيحاً في ظل السياسات الحالية التي تكتفي بـ "إدارة الأزمة" دون حلها.
السيناريو الثاني يتمثل في "تغول تنظيم داعش وتوحيد الرايات"؛ حيث ينجح فصيل ISWAP في القضاء تماماً على بقايا بوكو حرام وابتلاع خلاياها. هذا السيناريو سيعني ظهور "دولة موازية" أكثر تنظيماً وقوة عسكرية، وربما تبدأ في شن هجمات عابرة للحدود بشكل أوسع لتشمل العواصم الإقليمية. قوة داعش تكمن في قدرتها على الإدارة المدنية، مما قد يغري السكان اليائسين بالقبول بسلطتها مقابل الاستقرار.
السيناريو الثالث هو "الانهيار الأمني الإقليمي" نتيجة انتقال العدوى إلى دول الجوار التي تعاني من اضطرابات سياسية (مثل مالي والنيجر وبوركينا فاسو). ترابط هذه الساحات قد يخلق "خلافة كبرى" في منطقة الساحل والصحراء، مما يستدعي تدخلاً دولياً واسع النطاق قد يحول المنطقة إلى ساحة صراع دولي بين القوى العظمى. هذا السيناريو سيمثل كارثة إنسانية وجيوسياسية تفوق قدرة المنطقة على الاحتمال.
السيناريو الرابع والأكثر تفاؤلاً هو "الحل الشامل والتحول البنيوي"؛ وفيه تتبنى نيجيريا مقاربة "الأمن البشري"، التي تزاوج بين القوة العسكرية الفعالة والتنمية الاقتصادية الجادة. هذا يتطلب تطهير المؤسسة العسكرية، وتفعيل الاستخبارات الرقمية والبشرية، وإطلاق حوار مجتمعي واسع لعزل الفكر المتطرف. نجاح هذا السيناريو مرهون بإرادة سياسية فولاذية وتعاون دولي صادق يتجاوز لغة البيانات والتنديد.
في كل الأحوال، يبدو أن تكتيك "الذئاب المنفردة" والتفجيرات الانتحارية سيظل هو الخيار المفضل للفصائل الضعيفة عسكرياً لإثبات الوجود. هجوم مسجد مايدوجوري يؤكد أن الجماعات المسلحة لا تزال تراهن على "الرعب" كأداة لكسر الإرادة الوطنية. مستقبل نيجيريا يعتمد على قدرتها على تحويل هذه الصدمات إلى حافز لإعادة بناء الدولة على أسس من العدالة والكفاءة الأمنية، قبل أن يأتي اليوم الذي لا ينفع فيه الندم.

الخاتمة
في نهاية هذا التحليل، يبرز تفجير مسجد مايدوجوري كمرآة تعكس عمق الأزمة النيجيرية وتعدد أبعادها. إن الإرهاب في هذه البقعة من العالم لم يعد مجرد عصابات تختبئ في الغابات، بل أصبح منظومة معقدة تتغذى على الفقر، وتتسلح بالأيديولوجيا، وتناور داخل فجوات السياسة والأمن. إن الدولة النيجيرية اليوم أمام لحظة تاريخية فارقة؛ فإما أن تستمر في معالجة الأعراض بـ "المسكنات العسكرية"، أو تقتلع المرض من جذوره عبر رؤية شاملة.
إن نقد المسار الحالي لا يعني التقليل من تضحيات الجيش النيجيري، بل هو محاولة لتصحيح البوصلة نحو الحلول الأكثر ديمومة. فالانتصار في المعركة لا يعني قتل آخر إرهابي، بل يعني قتل "الفكرة" التي تجعل الشاب يرى في تفجير نفسه وسط المصلين طريقاً للجنة. هذا يتطلب استعادة المساجد والمنابر من أيدي المتطرفين، وإعادة الاعتبار للقيم الإنسانية التي داسها الإرهاب تحت أقدامه.
المجتمع الدولي بدوره مطالب بأن يغير نظرته لنيجيريا من مجرد "سوق للنفط" أو "مصدر للاجئين" إلى شريك استراتيجي في استقرار القارة. دعم نيجيريا يجب أن يشمل نقل التكنولوجيا الاستخباراتية، وتوفير الدعم اللوجستي، والاستثمار في مشاريع التنمية المستدامة في حوض تشاد. إن سقوط نيجيريا في فخ الإرهاب الكامل يعني سقوط أفريقيا بأكملها في دوامة من الفوضى التي لن ينجو منها أحد.
ختاماً، سيبقى مسجد "العدن" شاهداً على خسة الإرهاب وعلى صمود المؤمنين بالحياة. إن الدماء التي سالت في المحراب هي أمانة في عنق كل مسؤول نيجيري لمراجعة الخطط، وتأمين الحدود، وحماية المواطن. إن الحرب ضد "بوكو حرام" و"داعش" هي معركة وعي قبل أن تكون معركة رصاص، وهي معركة "وجود" للدولة الوطنية في مواجهة أوهام "الخلافة" المزعومة التي لا تخلف وراءها إلا الخراب والرماد.
نحن بصدد واقع يحتاج إلى "يقظة ضمير" سياسي، يضع مصلحة المصلين والمزارعين والطلاب فوق الحسابات الحزبية أو المصالح الضيقة. نيجيريا تمتلك الموارد والقدرة على الانتصار، لكنها تحتاج إلى "الخريطة الصحيحة" للخروج من هذا النفق المظلم. ويبقى الأمل في أن تكون هذه الفجيعة هي المحرك الحقيقي لتغيير شامل ينهي عصر "رقصة الأفاعي" ويبدأ عصر "بناء الإنسان".

شارك