الإخوان المسلمون واستراتيجية استخدام العنف
الخميس 16/يوليو/2015 - 02:37 م
طباعة
بعد فض اعتصامي رابعة والنهضة زادت وتيرة التهديد للمجتمع المصري والدولة، فالجميع يذكر كلمات محمد البلتاجي بأن ما يحدث في سيناء سوف يتوقف في نفس اللحظة التي يعود فيها مرسي إلى الحكم، وكذلك نتذكر من قال بأنه سوف يكون هناك سيارات مفخخة وتفجيرات بالريموت كنترول، وكل هذا شاهدناه خلال الفترة الماضية، وتسابق الخبراء والمراكز البحثية في دراسة هذه الحالة، وإيضاح جوانبها ودلالاتها وأسبابها، ومن بين تلك المراكز معهد كارنجي والذي أصدر مؤخرًا تقريرًا عن الصراع على قيادة الجماعة في مصر وعمل مقارنة بين جيلين من قيادات الجماعة أطلق عليهما الحرس القديم والشباب، وجاء في التقرير أن الصراع داخل جماعة الإخوان ليس بالحدث الجديد٬ حيث تمّكنت الجماعة من احتواء الخلاف لأشهر عّدة؛ كي تتجّنب إلحاق الأذى بتماسكها وبمعنويات أفرادها على الأرض. بيد أن التعبير العلني عن الخلاف الذي طال أمدهُ يعتبر أمراً جديداً. وقد خرج الخلاف إلى العلن في مايو ٬2015 في أعقاب تراشق حاّد بين الفصيلين في وسائل الإعلام.
وقد تعاملت وسائل الإعلام مع الصراع على أنه خلاف بشأن استراتيجيتين متعارضتين: نهج سلمي تنادي به القيادة السابقة٬ والتوّجه نحو العنف الذي اعتمدته القيادة الحالية. بيد أن هذه الصورة تبدو مضلِّلة. إذ ينطوي الخلاف على صراع أعمق حول القواعد التي تحكم عمل الجماعة٬ فضلاً عن طبيعة العلاقة بين القاعدة الشعبية والقيادة٬ ودور كل منهما في عمليات صنع القرار في الجماعة.
وحول تبني الجماعة للعنف ذكر التقرير بأنه على المستوى الحركي٬ اعتمدت القيادة الجديدة ماُ يسّمى نهج "السلمية المبدعة الموجعة"٬ الذي يجمع بين استمرار الأنشطة السلمية في الشارع وبين العنف المحدود المستخدم في عمليات تهدف إلى استنزاف قوة النظام السياسي. وقد عنى ذلك تنفيذ عمليات من دون استهداف الأبرياء٬ وممارسة الثأر الموّجه وتجّنب العنف العشوائي.
التزم أعضاء جماعة الإخوان بمبدأ السلمية في الماضي. بيد أن البعض اعتقد أن الخيار السلمي لن يحقق هدف الجماعة المتمّثل في إسقاط النظام السياسي الحالي٬ أو على الأقل الضغط عليه لتقديم تنازلات سياسية في ظل الحملة الأمنية التي يقوم بها.
ونتيجة لذلك٬ بدأ بعض الأعضاء بتنفيذ أعمال عنف فردية محدودة٬ مثل حرق سيارات الشرطة. ولأن القيادة فشلت في منع هذه الأعمال الفردية٬ حاولت بعد ذلك تنظيم تلك العمليات بهدف زعزعة النظام واستنزاف قّوته.
حرصت القيادة الجديدة على تجّنب تنفير شرائح المجتمع التي عارضت حملة القمع العنيفة ضد الإخوان٬ لكنها قد تعارض أيضاً لجوء الجماعة إلى وسائل عنيفة لمقاومة السلطات. وطالبت بضبط إيقاع العمليات تماشياً مع المشاعر الشعبية في منطقة معينة.
بعبارة أخرى٬ سمحت جماعة الإخوان بتنفيذ مستوى أعلى من العمليات في المناطق التي ساد فيها غضب واضح تجاه النظام السياسي٬ والعكس بالعكس.
مع ذلك٬ رفضت القيادة الجديدة السماح لأعضائها باستخدام العنف عشوائياً ضّد قوات الجيش والشرطة. ووفقاً للقيادة٬ لا ينبغي أن يتم استهداف الأفراد الذين لم يشاركوا في أعمال عنف ضد أعضاء جماعة الإخوان المسلمين وأسرهم. كما أعربت القيادة عن تحّفظات بشأن استخدام العنف للانتقام من أعمال العنف التيُ نّفذت ضد أعضاء جماعة الإخوان المسلمين وأسرهم٬ لكنها اضطّرت في بعض الحالات إلى الموافقة على تلك الممارسات. ومع ذلك٬ أصّرت على ضرورة أن تتناسب هذه الأعمال
الانتقامية مع أعمال العنف التي ارُتكبت في المقام الأول٬ وأن تستهدف فقط الشخص الذي شارك في أعمال العنف.
بدا أن العنف المحدود يمّثل استراتيجية مناسبة للقيادة الجديدة. فهو قد يساعد في الحفاظ على التماسك التنظيمي ويمنع الأعضاء الشباب من أن يصبحوا جزءاً من المنظمات الجهادية الأصولية٬ في ضوء تزايد غضبهم ورفضهم اعتماد الوسائل السلمية. كما يمكن أن يساعد ذلك في الضغط على النظام السياسي لتغيير ميزان القوى وتمهيد الطريق نحو التوّصل إلى حّل سياسي.
إضافًة إلى ذلك٬ تبدو نسبة الأعضاء الذين يريدون حمل السلاح داخل جماعة الإخوان المسلمين ضئيلة نسبياً. ففي استطلاع للرأي أجري في اجتماع لكوادر شباب الإخوان في إحدى المحافظات المصرية٬ أّيد أقلّ من 30 عضواً من أصل 300 عضو حضروا الاجتماع العمَل المسلّح. وفّضل الآخرون مواصلة عملهم على الأرض باستخدام وسائل غير عنيفة.
وقد وضعت القيادة الجديدة سيناريوهين لمستقبل هذه الاستراتيجية. إذ يمكن لعمل جماعة الإخوان أن ينجح في جذب المعارضين الآخرين للنظام السياسي٬ ويمكن أن يتطّور إلى ثورة شعبية قد تجبر النظام على التخلّي عن السلطة. أو يمكن للتحّرك على الأرض أن يضعف سيطرة الرئيس الجديد عبد الفتاح السيسي على نظامه؛ الأمر الذي قد يمّهد الطريق لحدوث انقلاب قد يؤّدي إلى تشكيل قيادة جديدة للدولة يمكن لجماعة الإخوان أن تتفاوض معها.
الانقسام في القيادة
ويؤكد تقرير معهد كارينجي أن جميع أعضاء جماعة الإخوان لا يشاطرون القيادة الجديدة رؤيتها٬ حيث سعى بعض الشخصيات من القيادة القديمة إلى فرض سيطرتهم مجّدداً. وتم احتواء الأزمة داخل الجماعة لأشهر عّدة٬ إلا أنها ظهرت إلى العلن في مايو 2015 في أعقاب مقال كتبه أحد قادة الحرس القديم٬ محمود غزلان. في المقال٬ لّخص غزلان ثوابت جماعة الإخوان المسلمين٬ ودعا إلى الالتزام بهذه الثوابت:
"ومن آمن بدعوة الإخوان فلا بد أن يلتزم بثوابت الإسلام العامة٬ وأن يزيد على ذلك الالتزام بثوابت الإخوان٬ ولا يجوز له أن ينكرها أو يخرج عليها. من هذه الثوابت: ضرورة العمل الجماعي٬ التربية منهجنا في التغيير٬ السلمية ونبذ العنف سبيلنا٬ الالتزام بالشورى ورفض الاستبداد والفردية سواء داخل الجماعة أو خارجها٬ رفض تكفير المسلمين".
وأعقب المقال تصريح صحافي من محمود حسين٬ الأمين العام السابق لجماعة الإخوان٬ جاء فيه:
"الجماعة تعمل بأجهزتها ومؤسساتها وفقاً للوائحها وبأعضاء مكتب الإرشاد٬ ودعمت عملها بعدد من المعاونين، وفقاً لهذه اللوائح ولقرارات مؤسساتها. وإن نائب المرشد وفقاً لّلائحة يقوم بمهام المرشد
العام إلى أن يفرج الله عنه٬ وإن مكتب الإرشاد هو الذي يدير عمل الجماعة".
أثار مقال "غزلان" وتصريح "حسين" ردود فعل غاضبة من الشباب الذين يقودون الصراع على الأرض. فقد رأوا في المقال خروجاً عن النهج الثوري الذي اعتمدته القيادة الجديدة٬ ورأوا في كلمات غزلان وحسين محاولات من جانب القيادة القديمة التي اعتبروها مسئولة إلى حّد كبير عّما أصاب الجماعة خلال المرحلة الانتقالية لفرض رؤيتها على الشباب.
رّد المتحدث الإعلامي باسم جماعة الإخوان المسلمين بعبارات لا لبس فيها بأن مؤّسسات جماعة الإخوان انتخبتها قاعدتها الشعبية٬ وأنها تتولّى إدارة شئونها بنفسها٬ وأن المتحدث باسم جماعة الإخوان المسلمين وموقعها الرسمي هما من يتحدثان باسم الجماعة فقط٬ وأن محمود حسين لم يعد أميناً عاّماً للإخوان المسلمين٬ وأن الجماعة انتخبت أميناً عاماً جديداً من الميدان.
زاد أعضاء المعسكَرين التواصل في ما بينهم في محاولة لاحتواء الأزمة. لكن التحّركات المكّثفة للقيادة خلال هذه الفترة جعلتها هدفاً سهلاً لقوات الأمن٬ وجرى اعتقال عدد من القادة البارزين.
جوهر الصراع
رأى البعض أن رّد القيادة القديمة يمكن أن يلَّخص على أنه خلاف حول استخدام العنف. غير أن الصراع أوسع من أن يكون مجّرد خلاف حول الالتزام بالوسائل السلمية أو استخدام العنف ضّد النظام. فهو يتعلّق بقواعد إدارة الجماعة وعمليات اّتخاذ القرارات الداخلية٬ والعلاقة بين القيادة والقاعدة الشعبية.
يرفض الحرس القديم الهامش الكبير للمناورة الذي منح إلى قاعدة الإخوان الأكثر ثورية٬ وقدرتها على تحديد أولوياتها على الأرض. يرى الجيل القديم في ذلك تهديداً لبقاء الجماعة كياناً متماسكاً٬ ويشعر بالحاجة إلى إحكام القيادة قبضتها على اتجاه وسرعة التحّركات على الأرض.
تعتقد القيادة الجديدة أن الأحداث تجاوزت رؤية الحرس القديم٬ وأن ميزان القوى بين القيادة والقاعدة قد تغّير، ونتيجًة لذلك يؤمن القادة الجدد بضرورة أن تؤخذ أولويات القاعدة في عين الاعتبار. ويَروْن أن الهدف ينبغي أن يكون ضمان استمرارية الحركة الثورية على الأرض. وفي حين أن البعض منهم قد يّتفق مع مخاوف القيادة القديمة٬ لا بل يشاركها فيها حتى يعتقد القادة الجدد أن الخطر يأتي بتكلفة مقبولة.
وحسب التقرير يعتقد جزء كبير من القيادة الجديدة أنه لا ينبغي اّتخاذ القرارات داخل مكاتب قيادة الجماعة وإرسالها من القمة إلى القاعدة٬ وأن الجماعة يجب أن تكون أكثر ديمقراطية. فعلى القاعدة أن تتولّى قدراً من القيادة٬ وعلى القيادة الجديدة أن تحّقق التوازن بين المبادرات على الأرض وبين مبادئ الجماعة.
تدرك القيادة الجديدة أن على القاعدة الشعبية أن تقبل وترضى بأي حّل سياسي يتم التوّصل إليه مع النظام. وهي تعرف أنها لن تكون قادرة على إقناع القاعدة بأي حّل سياسي لا يلبّي توقعاتها.
لكن القيادة القديمة تخشى هذا النهج. فهي تعتقد أن هذه الطريقة في العمل قد تنجح في احتواء القاعدة٬ لكنها ستغّير شكل الجماعة الذي كانت عليه منذ فترة طويلة. ويفّضل القادة القدامى أن يخسروا جزءاً من القاعدة الشعبية على أن يخسروا الجماعة التي يعرفونها وبنوها على مدى العقود الأربعة الماضية.
لا يزال الحرس القديم يعتقد أن لدى القيادة الحق في اّتخاذ أي قرار تراه مناسباً، وأن على القاعدة أن تمتثل إلى تلك القرارات. ولا تمانع القيادة القديمة في خسارة بعض التأييد الشعبي مقابل الحفاظ على أسلوب إدارتها.
ثّمة عنصر آخر يعّكر صفو الحرس القديم ويتمّثل في الدور ذي الأهمية المتزايدة الذي تضطلع به دوائر إسلامية ليست منتمية إلى جماعة الإخوان المسلمين٬ ولكنها متعاطفة معها٬ في تحديد مسار الحركة على الأرض. هؤلاء الإسلاميون موجودون في الخطوط الأمامية٬ حيث يتم إلقاء القبض عليهم أو يصابون خلال الاشتباكات مع قوات الأمن٬ وهم لا يشعرون أنهم مضطرون إلى الالتزام بقرارات قيادة جماعة الإخوان المسلمين٬ التي ليست سوى جزء من الصراع ضّد النظام. وفي حين تعترف القيادة
الجديدة بضرورة الاستفادة من أولئك الإسلاميين غير المنّظمين٬ حتى لو سمحت لهم بقدر أكبر من النفوذ على الأرض٬ ترى القيادة القديمة في هذا الوضع غير المستقّر خطراً على هيكل الجماعة وأفكارها.
في الوقت نفسه٬ تّتفق القيادتان في الحقيقة على ضرورة تجّنب العنف على نطاق واسع٬ ولكن لأسباب مختلفة. إذ يرفض القادة القدامى الميل نحو العنف؛ لأنه ينتهك مبادئ الجماعة٬ التي يعتبرون أنفسهم حماتها ولسان حالها. وترفض القيادة الجديدة الانجرار إلى العنف لأسباب عملية وبراجماتية تتعلّق بحجم الدعم الشعبي للنظام والخسائر التي يمكن أن تتكّبدها الجماعة في حال حملت السلاح ولجأت إلى العنف على نطاق واسع. ومع ذلك٬ يعترف القادة الجدد بأنه إذا كانت هناك موافقة مجتمعية في مرحلة ما على استخدام المزيد من العنف على نطاق أوسع٬ فإنهم سيستخدمونه. وُيعتَبر استخدام العنف بالنسبة إلى القيادة الجديدة خياراً ينبغي تقييمه وفقاً لتحليل التكاليف والمنافع فقط٬ ولا ينبغي استبعاده فكرياً كما يقول الحرس القديم.
الوقع أن القيادة القديمة لديها حسابات أخرى تتجاوز الوضع الداخلي في مصر. فالحرس القديم يدرك أن خيارات القاعدة على الأرض لا تتعلّق بالوضع المصري وحسب٬ وأنه ستكون لها آثار كبيرة على حركة الإخوان المسلمين في بلدان أخرى. وبالتالي من شأن اللجوء إلى مزيد من العنف أن يضّر بحركة الإخوان المسلمين وخطابها السلمي خارج مصر. ويبدو أن هذا البعد غائب عن أولويات القيادة الجديدة٬ التي يملي الوضع الداخلي في مصر في المقام الأول تحركاتها.