إخوان الصفاء وخلان الوفاء (بين التجديد والتحريف)
السبت 13/يوليو/2019 - 02:30 م
طباعة
حسام الحداد
قليلة هي الشخصية أو الجماعة في التاريخ أو الفلسفة الإسلامية التي يختلف الباحثون، قديما وحديثا، في حقيقتها ومذهبها ودورها في الحياة الفكرية كاختلافهم في حقيقة إخوان الصفاء، ومذهبهم ودورهم، فمن الباحثين من ينظر إليهم نظرة شك أو عداء، ومنهم من ينظر إليهم نظرة إعجاب وتقدير، ويرى فيهم رواد فكر ودعاة إصلاح، ومنهم من يحسبهم على الشيعة، ويحدد الموقف منهم مسبقًا بشكل غير موضوعي، ومنهم من يزعم أن رسائل إخوان الصفاء من تأليف الأئمة، ويرفعها إلى الكتب المقدسة، فمن هم إخوان الصفاء، وفي أي العصور كانوا، وما هو مذهبهم؟
عصر إخوان الصفاء:
أولاً الحياة السياسية:
كان مقتل الخليفة المتوكل ( 247هـ – 869 م) على يد بعض القادة الأتراك، إيذانًا ببدء صفحة جديدة من تحكم القادة العسكريين الأتراك في سياسة الدولة العباسية، وتغيير الخلفاء الذي بات لعبة تستهويهم إلى أن استولى البويهيون على حاضرة الخلافة (334هـ – 945 م).
فعندما نلقي نظرة على هذه الفترة التي تبلغ قرنًا تقريبا، نجد أن من بين الخلفاء الستة عشر الذين تعاقبوا على الحكم.. أربعة منهم فقط ماتوا ميتة طبيعية وهم خلفاء، أما الباقون فقد أخرجوا من الخلافة، قتلا أو خلعا، وأن بعضًا منهم تولى الخلافة ليوم واحد كابن المعتز فقتل، وبعضهم لثلاثة أيام كالقاهر في المرة الأولى من توليه الخلافة.
وفي أول القرن الرابع الهجري كان المقتدر هو الخليفة، وقد انتخب (295هـ – 908م) من قبل الوزير العباس بن الحسن بمشاورة بعض القادة الأتراك، وله من العمر ثلاثة عشر سنة، انتخبه الوزير وهؤلاء العسكريون رغم وجود الأصلح من آل العباس.. كي يستغلوا صغر سنه فيحكموا قبضتهم على السلطة، ويتغلبوا على خصومهم ومنافسيهم، فأدى هذا الوضع إلى اشتداد الأزمات، فالوزير والمهيمنون على مقاليد الحكم لم يكونوا يهتمون بالمشاكل المستعصية التي كان الشعب يعاني منها، بل كان جل اهتمامهم – بعد تصفية الخصوم الطامحين أو الطامعين في الوصول الى المراكز التي يحتلونها – جمع الكثير من الأموال والعقارات والأراضي، مستخدمين في ذلك مختلف الأساليب، بل أبشعها، وإضافة إلى الوزير وبطانته وقادة الجيش دخلت أم المقتدر، وحولها بعض جواريها، في معترك جمع المال، وهي بحكم شخصيتها القوية والمؤثرة على ابنها وبصفتها أم الخليفة تمكنت من التغلب على الوزير الذي كان له اليد الطولى في تولي ابنها الخلافة، واستطاعت عزله عن كتلة الضباط الأتراك واستمالته اليها، فباتت الوزارة في خزانتها، تمنحها لمن يعرف قيمتها، ويدفع ثمنها.
وفي صراع دموي بين القائد العام للجيش مؤنس المظفر ومحمد بن ياقوت الحاجب 320هـ – 932م قتل المقتدر، و"قطع رأسه، وحمل بين يدي المظفر، ومكثت جثته مرمية على قارعة الطريق"فأُجلس القائد العام أخا المقتدر من الأب والمتسمي بـ "القاهر" على كرسي الخلافة، وكان القاهر "مقداما على سفك الدماء، محبا للمال، رديء السياسة "على ما يصفه ابن الطقطقي، مولعًا بالشراب لا يكاد يصحو من سكر.
وبعد أن قضى في منصبه سنة وستة أشهر، اتفق قادة الجيش الأتراك على خلعه، وقبضوا عليه، ولم يسمل قبله أحد من الخلفاء، وقد شوهد فيما بعد وهو يتكفف في جامع المنصور ببغداد.
وبعد القاهر جاءوا بالراضي (322هـ – 934م)، فأسند الوزارة على التوالي الى عدة اشخاص، الا انهم لم يتمكنوا من تدبير الخروج من الضائقة المالية التي كان البلاط يعيش فيها، والعجز في ميزانية الدولة، فسلم الخليفة مقاليد الأمور بشكل رسمي الى محمد بن رائق قائد الجيش، ومنحه لقب "أمير الأمراء" سنة 224هـ لقاء قيامه بدفع النفقات اللازمة وإدارة الدولة، فصارت الكلمة بذلك للجيش في كل المجالات، واستولت "أرباب السيوف على الدولة" وبذلك لم يبق للخليفة إلا اسمه وظهوره في الحفلات الرسمية والمناسبات الدينية، وكان اسم أمير الأمراء يذكر جوار اسم الخليفة في خطبة الجمعة، وهو إجراء لم يسبق له مثيل في التاريخ الإسلامي، ولبث الراضي في الحكم ست سنوات وكان مصيره القتل بيد الجنود.
في سنة 333هـ – 945 م دخل البويهيون العراق، فوزع الخليفة الألقاب على أمرائهم وأمر أن تضرب ألقابهم على الدينار والدرهم، إلا أن البويهيين أحسوا بأن هناك مؤامرة في الخفاء تحاك ضدهم، يشارك فيها الخليفة والقهرمانة، فسارعوا الى خلع المستكفي وسلموه، كما قطعوا لسان تلك المرأة المتخصصة في هذا النوع من الحياكة.
وفي تلك الفترة نلاحظ وجود نوع من المجابهة بين الجناح المدني والذي يمثله الخليفة والوزير ورؤساء الدواوين وكبار موظفي الدولة والتجار. والجناح العسكري الذي يمثله بصفة خاصة قادة الجيش الأتراك، إلا أن الجناح المدني لم يتمكن – لتضارب المصالح الذاتية بين أطرافه – من إقامة تحالف فيما بينه من خلال مواقف صائبة، يستقطب حولها الجماهير، ويقف أمام تحكمات القادة العسكريين وتدخلاتهم في الشؤون السياسية، بل كان منقسمًا على نفسه، يستنجد بعضهم بالجيش لإزاحة البعض الآخر، وكانت الجماهير هي الضحية أولًا وأخيرًا.
ولكي يضمن هؤلاء القادة العسكريون ولاء جنودهم لهم، كانوا يطلقون لهم العنان، فأمست كبساتهم على منازل سكان بغداد وكبريات المدن العباسية آفة جديدة منتشرة، في فترة دائمة الشكوى من المجاعة، وكان الخليفة يمثل الحلقة الضعيفة السهلة الكسر والفكاك التي يركز عليها الجيش في توجيه ضربته لغرض سيطرته وسطوته من خلال ذلك على الدولة، لذا فلم يكن الخليفة يحظى باحترام الجيش، كما لم يكن باستطاعته ممارسة صلاحياته كرأس للدولة.
وإذا كان العهد البويهي يمتاز برعاية الحركة العلمية والتقدم العمراني إلا أنه من الناحية السياسية والاقتصادية لم يكن إلا امتدادا لعهد المماليك الأتراك العسكريين.
ثانيا الحياة الاجتماعية:
نتناول في هذا الجزء أبرز الظواهر التي كانت تتحكم في المجتمع العباسي آنذاك وهي الخصومات المذهبية، والتعصب القومي، والانحلال الخلقي.
الخصومات المذهبية:
رغم أن بداية الخصومات المذهبية كانت أيام الإمام علي رضي الله عنه، إلا أنها في العصر الأموي كانت بداية الاضطهاد الفكري، ففي هذا العصر أعدم الجعد بن درهم، لأنه كان يقول بخلق القرآن، كما أعدم غيلان الدمشقي، لقوله بمبدأ الاختيار، وهذا الرأي لم يكن يتفق وسياسة الدولة التي كانت تدعو للجبرية.
وفي عهد المأمون والمعتصم والواثق، اضطهدت المعتزلة كل من لم يوافقها الرأي، حتى أن أماما كأحمد بن حنبل ضرب بالسياط إلى أن سال منه الدم، لأنه لم يشارك المعتزلة القول بخلق القرآن.
ولم يعد هذا الصراع المذهبي في القرن الرابع الهجري محصورًا بين العلماء، أو بينهم وبين السلطة الحاكمة المتدخلة دوما لنصرة رأي معين يخدمها، وضد الرأي المخالف لذلك، بل اتسعت دائرته، ودخل فيها العامة من الناس، وأخذ طابع العنف، فقد اشتد في بداية هذا القرن، اضطهاد الحنابلة لكل من يخالفهم، فمن حين لآخر كانوا يقومون بأعمال شغب، ومن بين ما يذكره ابن الأثير في حوادث عام 306 هـ أنه "وقعت فتنة بين العامة والحنابلة، فأخذ الخليفة جانبا منهم، وسيرهم إلى البصرة وحبسوا" وأن ابن جرير الطبري لما تُوفيَ (310هـ – 923 م) دُفن ليلًا في داره، لأن العامة اجتمعت ومنعت من دفنه نهارا، وادعوا عليه الرفض والإلحاد "والسبب في ذلك أنه ألف كتابا ذكر فيه اختلاف الفقهاء، ولم يذكر فيه أحمد بن حنبل، فلما قيل له في ذلك قال: انه لم يكن فقيها، وإنما كان محدثا" فاشتد ذلك على الحنابلة، فوقفوا منه هذا الموقف. ولما توفى الأشعري ودفن "طمس قبره، خوفا عليه، لئلا تنبشه الحنابلة وتحرقه، فإنهم عزموا على ذلك مرارا عديدة، ومعظم الحنابلة يحكمون بكفره، ويستبيحون دمه ودم من يقول بقوله (تاريخ أبي الفداء – 2/15).
ولم يكن هذا الاختلاف المذهبي ليقف عند المناقشة والجدل، بل كان يصل إلى استخدام السواعد، وما تستطيع السواعد أن تحمله، وربما كان ذلك لمجرد اختلاف حول تفسير آية قرآنية، و إن لم تمس أصلًا من أصول العقيدة الإسلامية، فالحنابلة كانوا في هذا العصر يُحَاربون على عدة جبهات:
جبهة الشافعية: والشافعية لم يكونوا أقل منهم شدة في الرد عليهم، وكما يقول المقدسي: " فالشافعية أشد الفقهاء قدرة على النظر والشغب" (الحضارة الاسلامية – 1/298)، وجبهة المتكلمين بمن فيهم المعتزلة، وجبهة الشيعة، وكذلك كان الصراع بين الحنفية والشافعية حتى آل الأمر، في بعض الأحيان إلى الخراب والدمار، ليس هذا فحسب بل كان هناك القرامطة وثورتهم وثورة الزنج ..الخ هذه الفرق المتحاربة.
التعصب القومي:
كان الصراع القومي في هذا القرن دائرًا بين:
العرب: وهم يعتزون بتاريخهم كقبائل مستقلة قاومت المحتلين، وبمزاياهم وخصائصهم، وأن محمدًا صلى اللهُ عليه وسلم منهم، وأن الإسلام نشأ بينهم، وأن القرآن نزل بلغتهم.
الفرس: وهم يعتزون بتاريخهم كامبراطورية واسعة الأرجاء، وشعب ذي حضارة موغلة في القدم، وبأن الدولة العباسية مدينة لهم بنشأتها، وقوتها، وتطورها.
الترك: وهم يفتخرون بقوة أجسامهم وبأسهم في الحر، وبأنهم حماة الخلافة السُنية من تآمر الشيعة والفرس عليها.
الانحلال الأخلاقي:
ونقتصر على لمحات أساسية من بعض مظاهر الانحلال:
- نكث العهد: لم يكن للعهد في هذا القرن كثير الاحترام.
- الرشوة: حيث باتت في عرف المسئولين أمرًا مشروعا.
- السلب والنهب واللصوصية
- أغلب الخلفاء كانوا عاقرين للخمر، وكان مباحة للعامة
- فتح دور للملاهي وتجارة العشق والغرام
- انتشرت ظاهرة الشذوذ الجنسي والتغزل بالغلمان.
ثالثا: الحياة الاقتصادية:
كانت الثروة في القرن الرابع الهجري وبشكل محدد في المملكة العباسية موزعة بشكل جائر، فهناك طبقة مفرطة في الترف، وعددها محدود تمثل الارستقراطية الحاكمة، تقابلها طبقات مسحوقة، لا تملك قوت يومها تعيش في بؤس وحرمان نتيجة هيمنة الطبقة المتسلطة وسيطرتها على مقاليد الحكم، ومصادر الثروة، وامتلاك الأراضي، والإنتاج الزراعي.
والطبقة التي من الممكن أن نسميها "متوسطة" وهي إن كانت منتعشة نوعًا ما اقتصاديًا فلأنها متصلة بالطبقة الحاكمة، وفي خدمتها، وتمتلك مهارات تجارية واقتصادية، وعسكرية، وفنية لا يمكن الاستغناء عنها.
وحيث إن الزراعة كانت الدعامة الأساسية التي يقوم عليها اقتصاد البلاد، فإن الحكام والمسئولين، في الخلافة العباسية، في القرن الرابع الهجري لم يحاولوا اتخاذ خطوات في طريق تنظيم الشئون الزراعية، مثلما كان في العصر الذهبي العباسي بحيث تؤدي الزراعة إنتاجًا وافرًا تسد حاجات البلاد، وتدخل قيمة الفائض منها خزانة الدولة.
ويرجع تردي الأوضاع الاقتصادية إلى حالة الفوضى السائدة في الحياة السياسية، والصراعات والمنازعات والحروب الدائرة بين قادة الجيش.
وكان من أبرز مفردات هذا الإهمال المتعمد لتنظيم الشئون الزراعية، وجشع المسئولين واستغلالهم للفلاحين:
- إهمال وسائل الري
- نظام الإقطاع والضمان
- الضرائب والمصادرات
رابعا: الحياة الثقافية:
على الرغم من سوء الحياة السياسية والاجتماعية والاقتصادية في هذا القرن، إلا أن العلوم بجميع فروعها المتداولة، كانت في تقدم ملحوظ، ومن الممكن أن نقول بأن القرن الرابع الهجري كان العصر الذهبي للعلوم والمعارف الإسلامية والفلسفية.
ففي هذا العصر امتزجت الثقافات اليونانية والفارسية والهندية والسريانية بالثقافات الإسلامية، فالفرس والهنود كانوا يتثقفون بالثقافة العربية، وينتجون فيها، ووثنيو حران والسريانيون يواصلون العمل لنشر الثقافة اليونانية.
واذا ما ألقينا نظرة على هذه العلوم الإسلامية المتوارثة حتى اليوم، نجد أن نموها واكتمالها كانا في هذا القرن الرابع الهجري الذي شهد المشاهير في كل فن.
ويرجع هذا التقدم العلمي والازدهار الثقافي إلى عدة أسباب منها:
- المنافسة الشديدة التي كانت بين العواصم الجديدة في أنحاء البلاد الإسلامية، فأصبح العلماء والأدباء ينتقلون من بلاط لبلاط.
- الحرية التي كان العالم أو الأديب يشعر بها، فإن اضطهد هنا لرأيه أو اتجاهه فقد يجد هناك من يقدره ويشجعه، إلى غير ذلك من الأسباب.
إلا أن الصراع لم يترك هذه الناحية من نواحي الحياة أيضًا في تلك الفترة، فقد اشتدت شقة الخلاف بين المتصوفة والفقهاء، فكان لكل من الطائفتين وجهة نظر خاصة في أغلب المسائل التي هي من صميم الدين (ابو العلا عفيفي – التصوف 113)
والأمر على هذا الصراع الدائر بين المشتغلين بالفلسفة والمتكلمين، فقد كان الفلاسفة والمشتغلون بالفلسفة يرمون المتكلمين بالتعصب، واستحسان التقليد، وأنهم من قبيل العوام والمتكلمون كانوا يرون في اتجاه هؤلاء الفلاسفة خطورة على الإسلام، فيرمونهم بشتى التهم، وكذلك الصراع الدائر بين الفقهاء والنحويين، حيث يتهمهم الفقهاء بأنهم، في الغالب ليسوا متدينين، وقد قال بعضهم "النحو يذهب بالخشوع من القلب"، حتى البلاغيون واللغويون كانوا منقسمين على أنفسهم.
من هم إخوان الصفاء؟!
كل ما وصل إلينا عن جماعة إخوان الصفاء من خلال رسائلهم، أنهم أشخاص عديدون، من مختلف الفئات والطبقات، دون تحديد أسماء لهم، فيقولون في الرسالة الثامنة والأربعين "إن لنا إخوانا وأصدقاء من كل كرام الناس، وفضلائهم، متفرقين في البلاد، فمنهم طائفة من أولاد الملوك والأمراء والوزراء والعمال والكتاب، ومنهم طائفة من أولاد الأشراف والدهاقين والتجار، ومنهم طائفة من أولاد العلماء، والأدباء والفقهاء وحملة الدين، ومنهم طائفة من أولاد الصناع والمتصرفين وأمناء الناس" (رسائل إخوان الصفاء 4/165) كما لا يحددون عدد أعضاء جماعتهم، وإذا كانت هناك خلافات كثيرة حول ماهية إخوان الصفاء وعددهم وقيادتهم من خلال رسائلهم، فلا نملك وثائق تؤكد على وجودهم وهويتهم إلا رسائلهم وما قاله عنهم أبو حيان التوحيدي في الإمتاع والمؤانسة، أن عبد الله الحسين بن أحمد بن سعدان وزير صمصام الدولة البويهي، وكان مهتما بالفلسفة ومجالس الفلاسفة وتولى الوزارة عام (372هـ)، سأل أبا حيان التوحيدي بقوله " إني لا أزال أسمع من زيد بن رفاعة قولًا ومذهبًا لا عهد لي به، وكناية عما لا أحقه وإشارة إلى مالا يتوضح شيء منه، فما حديثه؟ وما شأنه؟ وما دخلته؟ ..الخ" فيجيب أبو حيان التوحيدي "أيها الوزير هو الذي تعرفه قبلي قديما وحديثا بالتربية والاختيار والاستخدام، وله منك الاخوة القديمة، والنسبة المعروفة، قال: دع هذا، وصفه لي، قلت: هناك ذكاء غالب، وذهن وقاد، ويقظة حاضرة وسوانح متناحرة، ومتسع في فنون النظم والنثر، مع الكتابة البارعة في الحساب والبلاغة، وحفظ ايام الناس، وسماع للمقالات، وتبصر في الآراء والديانات، وتصرف في كل فن، إما بالشدو الموهم، وإما بالتبصر المفهم، وإما بالتناهي المفحم، فقال: فعلى هذا ما مذهبه؟ قلت: لا ينسب إلى شيء، ولا يعرف برهط، لجيشانه بكل شيء وغليانه في كل باب، ولاختلاف ما يبدو من بسطة تبيانه، وسطوة لسانه. وقد أقام بالبصرة زمانًا طويلا، وصادف بها جماعة جامعة لأصناف العلم وأنواع الصناعة، منهم أبو سليمان محمد بن معشر البستي، ويعرف بالمقدسي، و أبو الحسن علي بن هارون الزنجاني، وأبو أحمد المهرجاني، والعوقي وغيرهم، فصحبهم وخدمهم، وكانت هذه العصابة قد تآلفت بالعشرة، وتصافت بالصداقة واجتمعت على القدس والطهارة والنصيحة، فوضعوا بينهم مذهبا زعموا أنهم قربوا به الطريق إلى الفوز برضوان الله، والمصير إلى جنته وذلك أنهم قالوا: إن الشريعة قد دُنست بالجهالات، واختلطت بالضلالات، ولا سبيل لغسلها وتطهيرها إلا بالفلسفة، وذلك لأنها حاوية للحكمة الاعتقادية والمصلحة الاجتهادية، وزعموا أنه متى انتظمت الفلسفة اليونانية والشريعة العربية، فقد حصل الكمال، وصنفوا خمسين رسالة في جميع أجزاء الفلسفة، علميها وعمليها وأفردوا لها فهرستا، وسموها رسائل إخوان الصفاء وخلان الوفاء، وكتموا أسماءهم وبثوها في الوراقين، ولقنوها للناس، وادعوا أنهم ما فعلوا ذلك إلا ابتغاء وجه الله عز وجل، وطلب رضوانه"(ابن حجر العسقلاني – لسان الميزان 2/506) وأبو حيان التوحيدي سواء أكان منتميًا إلى هذه الجماعة أم لم يكن، فإن لكلامه قيمته التاريخية والموضوعية، ذلك أنه كان متصلًا بالجماعات الفلسفية والحركات السرية، يدل على ذلك كتبه، وبالأخص "المقابسات" و "الإمتاع والمؤانسة" وقلقه وسخطه على الأوضاع السائدة في عصره وقد كتب لزيد بن رفاعة، أي كناسخ ينسخ له كتبه ورسائله، وصلته به كانت حميمة، كما يدل على ذلك كلام الوزير.
وعندما نتصفح ونبحث عن تاريخ هؤلاء الخمسة من كبار إخوان الصفاء وأشهرهم، نجد هنا وهناك نتفًا عن حياتهم ونشاطهم العلمي، ولا شك أن ذلك يساعدنا على تكوين فكرة عنهم:
1- زيد بن رفاعة:
لقد أبدى التوحيدي شديد إعجابه به، ووصفه بمديح الصفات، قلما تتوفر في شخص واحد، ولكن رجال الأحاديث كانت لهم آراء مختلفة حول الرجل وما يهمنا في هذا المقام أن زيد بن رفاعة كانت له كتب منها:
كتاب "جوامع إصلاح المنطق لابن السكيت"، كتاب "الأمثال" الذي طبع في حيدر آباد
2- أبو سليمان محمد بن معشر البستي، ويعرف بالمقدسي.
هكذا ذكره التوحيدي، وكذلك الشهرزوري والبيهقي وقد وضعه الشهرستاني بين فلاسفة الإسلام من طبقة الكندي والفارابي
3- أبو الحسن علي بن هارون الزنجاني:
هناك بعض الاختلاف في اسم والده، ونسبته، ففي بعض النسخ من الإمتاع والمؤانسة جاء "الريحاني" بدل الزنجاني.
4- أبو أحمد المهرجاني
5- العوقي
مكان إخوان الصفاء:
لا نجد في رسائل إخوان الصفاء ما يدل صريحًا على تحديد مقر هذه الجماعة ومكان تأسيس جمعيتهم، فكل ما لدينا هو كلام أبي حيان التوحيدي، وإذ كنا مطمئنين إليه في معرفة مؤلفي الرسائل وزمانهم، فسنطمئن إلى قوله: إنها نشأت في البصرة، فقد جاء في كلامه عن زيد بن رفاعة أنه "أقام بالبصرة زمانًا طويلًا، وصادف هذه الجماعة" وهذا ليس بغريب على البصرة، فهي بحكم موقعها الجغرافي، كانت ملتقى رجال الشرق من العرب والفرس والهنود والزرادشتين والنصارى واليهود والدهريين والصابئة، فمنذ تأسيسها أيام عمر بن الخطاب باتت أكبر ملتقى لمختلف الفروع الثقافية، ليس هذا فقط بل كانت أيضًا متحررة نوعا ما من قيود السلطة وعيونها، نظرًا لبعدها عن مركز الخلافة، ورقابتها الشديدة المباشرة.
نظام جماعة إخوان الصفاء:
أولاً: مراتب إخوان الصفاء:
من خلال دراسة تنظيم هذه الجماعة في رسائلهم نجد أن للعمر دوره في التسلسل الهرمي داخل تنظيمهم، حيث إن عمر الإنسان عبارة عن مراحل، ولكل مرحلة متطلباتها وقابلياتها لذلك فقد حددوا لكل مرحلة ما يتفق وطبيعتها، وعلى الأخ أن يبدأ بالمرحلة الأولى، فإذا نجح فيرتقي إلى الثانية، وهكذا إلى الأخيرة، ومراتب جمعيتهم أربعة:
المرتبة الأولى: وهي خاصة لا أعضاء المبتدئين الذين تتراوح أعمارهم بين السادسة عشرة والثلاثين ويسمونهم "الإخوان الأبرار الرحماء" و "هي مرتبة ذوي الصنايع" وهي تمثل قاعدة التنظيم.
المرتبة الثانية: وهي خاصة بالأعضاء الذين أكملوا الثلاثين إلى الأربعين، ويسمونهم "الإخوان الأخيار الفضلاء" وهي مرتبة الرؤساء ذوي السياسات، ويتلقون في هذه المرحلة الفلسفة.
المرتبة الثالثة: خاصة بالأعضاء الذين أتموا الأربعين إلى الخمسين ويسمونهم "الإخوان الفضلاء الكرام" وهؤلاء هم "أصحاب الرأي والنهي" يحلون المشاكل والخلافات التي تظهر بين الإخوان باللطف وحسن التصرف والإدارة.
المرتبة الرابعة: خاصة بالأعضاء الذين أكملوا الخمسين من العمر، وهم الذين "يشاهدون الحق عيانا" وهي مرتبة الحكماء، وكل الإخوان مدعوون إلى هذه المرتبة، وهي أعلى المراتب في نظرهم، ومن يصل اليها يكون من "الواصلين" حسب التعبير الصوفي.
ثانيا: الدعوة:
كان إخوان الصفاء حريصين على نشر دعوتهم بين الشباب دون الشيوخ لقناعتهم أن نفوس الشباب مثل ورق أبيض نقي لم يكتب عليه شيء، فتستقر الدعوة في نفوسهم وتتمكن ".. فينبغي لك أيها الأخ ألا تشغل بإصلاح المشايخ الهرمة الذين اعتقدوا من الصبا آراء فاسدة، وعادات رديئة، وأخلاقا وحشية، فإنهم يتبعونك ثم لا ينصلحون، وإن صلحوا قليلا فلا يفلحون، ولكن عليك بالشباب السالمي الصدور، الراغبين في الآداب، المبتدئين بالنظر في العلوم" إذ يكون بذلك خلق جيلًا جديدًا لا يعرف الهوى والجدل، غير متعصب على المذهب، ويستدل الإخوان لوجهة نظرهم هذه، بأن الله تعالى "ما بعث نبيًا إلا وهو شاب، ولا أعطى لعبد حكمة إلا وهو شاب، كما ذكرهم ومدحهم فقال عز وجل "إنهم فتية آمنوا بربهم وزدناهم هدى".
وعلى الأخ المسئول عن التنظيم أن يتفرس في الشخص ويتبع أخباره، ويراقبه بدقة، فإذا توسم فيه الاستعداد للانضمام، والاستفادة منه كعضو أو كمؤيد عليه أن يكتب تقريرًا حول ذلك ويرفعه إلى الجهة التي يتبعها تنظيميًا، لتقرر وتبت في الأمر "فإذا عرفت منهم أحدا، وآنست منه رشدا، عرفنا حاله وما هو بسبيله من أمر دنياه وطلب معاشه، وتصرفه في حالاته، لكي نعرف ذلك ونعاونه على ما يليق به من المعاونة "وهذه المعاونة تكون من وراء الشخص، ودون أن يعرف مصدرها في أول الأمر".
وبعد ذلك يأتي دور الاتصال المباشر ومفاتحة الشخص، فإن لكل طائفة أو طبقة "داعية" أو "منظم" أعد إعدادًا خاصًا لهذا الأمر، فإن كان الشخص المراد ضمه إلى الجماعة من الولاة وكبار موظفي الدولة، فعلى الداعي أن يفاتحه في الأمر بعد أن يتفرغ ذلك الشخص من أعماله اليومية، وأن يكون في حالة نفسية مرضية، وأن تكون المفاتحة في خلوة. واذا استجاب الرجل لدعوة الإخوان، ووافق على الدخول في صفوف هذه الجماعة، وتعهد بالمطلوب، يحضر المجلس ويقرأ خطبة الجماعة، ويخاطب إخوان الصفاء كل طائفة بما تقبله قلوبهم، وتحتمله عقولهم، وتتسع له نفوسهم فإذا كان المدعو ملكًا أو سلطانًا فلابد أن يأخذوه من حيث يسهل أخذه، فالملك والسلطان يحب أن تتسع رقعة مملكته، ويضم إليها بلاد أخرى.
يستخدم الإخوان الأسلوب الاقناعي في أول الأمر، ثم يستخدمون القوة في بث الدعوة في المراحل الأخيرة، وأن هذه الطريقة أقرها الأنبياء، فكانوا في بدء دعوتهم يذكرون الناس ما قد نسوه من أمر الأخرة والمعاد، وتنبيههم من نوم الجهالة.
ثالثا الخلايا:
يبدو أن إخوان الصفاء كانوا يأخذون بنظام الخلايا المعروف لدى الأحزاب المعاصرة، حيث تلتقي أعضاء كل خلية بصورة دورية بإشراف مسئول الخلية ويتداولون الأوضاع العامة، ويدرسون التوجيهات الصادرة، والرسائل والتوضيحات الواردة اليهم من الجهة الأعلى رتبة من الخلية.
والاجتماع الدوري هو دليل الالتزام التنظيمي، فالإخوان اينما كانوا لابد أن يقوموا بهذا الواجب "ينبغي لإخواننا أيدهم الله حيث كانوا في البلاد أن يكون لهم مجلس يجتمعون فيه في أوقات معلومة، لا يداخلهم فيه غيرهم، يتذاكرون فيه علومهم، ويتحاورون فيه أسرارهم" فواجبات كل خلية:
1- أن تجتمع كل اثني عشر يومًا مرة.
2- أن يكون الاجتماع في مكان يأمنون فيه على أنفسهم، بعيدا عن أعين الرقابة.
3- أن يتطهروا ويتنظفوا، ويكونوا في كامل أناقتهم للاجتماع.
4- الحضور ضروري، ولا يتغيب العضو إلا لعذر قهري.
رسائل إخوان الصفاء:
رسائل إخوان الصفاء موسوعة ضخمة اشتملت على أغلب فنون الثقافة المعروفة في عصرهم، وتشتمل على اثنين وخمسين رسالة "في فنون العلم وغرائب الحكم وطرائف الأدب، وحقائق المعاني عن كلام الخلصاء الصوفية.. وهي مقسومة على أربعة أقسام، فمنها رياضية تعليمية، ومنها جسمانية طبيعية، ومنها نفسانية عقلية، ومنها ناموسية إلهية" (الرسائل – الفهرست 1/21) فهنا نجد ان تبويب الرسائل جاء وفق تقسيمهم الفلسفة: الرياضيات، الطبيعيات، الإلهيات، إذ النفسانية العقلية والناموسية (الشرعية) الإلهية تندرجان تحت الإلهيات.
منهج الرسائل:
يقول إخوان الصفا عن رسائلهم "عملنا هذه الرسائل وأوجزنا القول فيها شبه المدخل والمقدمات، لكيما يقرب على المتعلمين فهمها، ويسهل على المبتدئين النظر فيها، كما يقولون في رسالتهم الأخيرة "إننا نحب لإخواننا.. ما يكون به صلاح شأنهم .. ولما كان ذلك أكثر أغراضنا منهم، بسطنا لهم هذا الكتاب، وأوردنا فيه معرفة مبادئ الأعمال، والصنايع العلمية، والعملية، بحسب ما قدرنا عليه بتوفيق الله، والذي حملنا على ذلك هو أننا لم نقتصر على علم واحد، وصناعة واحدة، لأننا علمنا اختلاف طبائع الناس وجواهرهم، وما يشتاق كل واحد منهم اليه بما يوافق طبيعته.. فجعلنا في رسائلنا هذه من مبادئ الصنائع والمعارف والعلوم ما يكون معينا للمبتدئ، ورياضة للمتعلم" (الرسالة الأخيرة 4/394).
فاذا ما قارنا بين ما كتبه الإخوان في موضوع فلسفي وبين ما كتبه، مثلا، الفارابي او ابن سينا نجد تمايزًا شاسعًا بين عرضين، هما عرض إخوان الصفاء لذلك الموضوع وعرض الفارابي او ابن سينا، فالأول عرض خفيف، سلس، لا يدخل عمق الموضوع بدءا بل يربطه بمواضيع أخرى، معتمدا على التشبيهات المادية والأمثلة الملموسة، حتى يسهل على القارئ فهمه، واما العرض الثاني يعتمد على المصطلحات وبإيجاز يخاطب المتخصصين في الفلسفة.
ولكن اذا كانت الثقافة كما يقال: شيء من كل شيء فإن الرسائل محاولة لتحقيق هذا المفهوم للثقافة في المرحلة الأولى، فقد كان الإخوان بصدد نشر ثقافة عامة موجهة، ولم يكونوا مسبوقين بذلك، ولم يكن إعداد برنامج لنشر وتحقيق هذا النوع من الثقافة بالأمر اليسير، كما وجدوا الكتب التي تتناول آراء الفلاسفة وشرح أفكارهم مغلقة، فيجد الباحث والمتخصص صعوبة في فهمها، لذلك يقول إخوان الصفاء في رسالتهم الأولى: إن الحكماء "لما طولوا الخطب في كتبهم، ونقلها من لغة إلى لغة من لم يكن فهم معانيها، ولا عرف أغراض مؤلفيها.. انغلق على الناظرين في تلك الكتب فهم معانيها وثقلت على الباحثين أغراض مصنفيها، ونحن قد أخذنا لب معانيها، وأقصى أغراض واضعيها، وأوردناها بأوجز ما يمكن من الاختصار في اثنتين وخمسين رسالة" (الرسالة الأولى 1/77)، فمادة الرسائل خلاصات وتطبيقات، وليست نظرات عميقة في العلم والفلسفة، فقد كتب أكثرها للذين يريدون تفهم مذهب هذه الجماعة بطريقة سهلة، فهي أشبه – الرسائل – بموسوعة تبسط فيها المسائل الفلسفية الأولية بأسلوب يوافق عقلية العامة، حتى لا ينفروا من الفلسفة.
لغة الرسائل:
يقول طه حسين في مقدمته للرسائل: إن لرسائل إخوان الصفاء قيمتها الفنية الخالصة، فهي من حيث أنها تتجه إلى جمهرة الناس للتعليم والتثقيف، قد عدل فيها عن العسر الفلسفي إلى اليسر الأدبي، وعني كتابها بألفاظها وأساليبها عناية أدبية خالصة، ففيها خيال كثير، وفيها تشبيه متقن، وفيها ألفاظ متخيرة، ومعان ميسرة، وليس من الغلو أن يقال: إنها قاربت المثل الأعلى في تذليل اللغة العربية وتيسيرها لقبول ألوان العلم على اختلافها، وجملة القول: إن هذه الرسائل كنز لم يقدر بعد، لأنه لم يعرف بعد.
الرمزية في الرسائل:
تحتوي رسائل إخوان الصفاء على كثير من القصص، ذات المغزى الأخلاقي والنقد السياسي، وترد أغلب هذه القصص على لسان الحيوانات، لأن ذلك "أبلغ في المواعظ وأبين في الخطاب، وأعجب في الحكايات، "كما أنهم وجدوا في هذا اللون من التعبير حماية لأنفسهم في حملتهم على الأوضاع الاجتماعية والسياسية، وكما يقول ديبور: فقد قالوا على ألسنة الحيوان ما لو خرج من فم إنسان لأثار حوله الشكوك ويقول جولدتسيهر: إن إخوان الصفاء وجدوا تحت غطاء التعبير في الوصف القصصي صورا لحقائق أبعد سموًا، يستسيغ الناس إدراكها بمقدار فهمهم، فهذا النوع من الأسلوب من أصلح الأساليب في مخاطبة الجميع، بحيث يفهم منه كل حسب مستواه المعرفي.
الرسالة الجامعة:
يشير إخوان الصفاء في مواطن كثيرة من رسائلهم إلى رسالة أخرى غير تلك الرسائل، يسمونها: "الرسالة الجامعة" ويصفونها بأنها جامعة "لما في هذه الرسائل المتقدمة كلها، والمشتملة على حقائقها، والغرض منها إيضاح حقائق ما أشرنا اليه، ونبهنا في هذه الرسائل عليه، أشد الإيضاح والبيان، يأتي على ما فيها فيتبين حقائقها ومعانيها، ملخصة مستوفاة مهذبة، ببراهين هندسية يقينية، ودلائل فلسفية حقيقية، وبيانات علمية، وحجج عقلية، وقضايا منطقية، .. والرسالة الجامعة من رسائلنا هي منتهى الغرض لما قدمناه، وأقصى المدى ونهاية القصد، وغاية المراد" (الرسائل – الفهرست 1/42 – 43) وبناء على هذا النص الواضح الخطوط، فإن منهج إخوان الصفاء في الرسالة الجامعة يختلف عن منهجهم في بقية الرسائل، فالرسالة الجامعة ألفت لمن تثقفوا بالرسائل أو بكتب مماثلة، أي أخذوا قسطا وافرا من تلك المعارف السائدة في عصرهم وارتفعوا إلى مرتبة أعلى من المرتبة الأولى التي خاطبت الرسائل أصحابها.
لذلك فالرسالة الجامعة تعتمد على البراهين والحجج العقلية في تناولها القضايا المطروحة للبحث.
موقف أهل السنة والجماعة من اخوان الصفاء:
الإمام الغزالي:
وجه أبو حامد الغزالي نقدا لإخوان الصفاء وطعن في افكارهم ومذهبهم وبما أن الإخوان سبقوا الغزالي في الفترة الزمنية، فإن بعض الباحثين اعتقد أن الغزالي تأثر بآراء الإخوان التعليمية مع علمهم بالاختلاف الكبير بين فلسفة الإخوان والغزالي ولنوضح هنا مدى تأثر الامام الغزالي بأفكار واطروحات اخوان الصفاء التعليمية.
إن من يقرأ رسائل إخوان الصفاء ومؤلفات الغزالي يجد تشابها كبيرا في كثير من الآراء التي تتعلق بالتعليم، فشابه تقسيم الإخوان للعلوم الفلسفية التقسيم الذي قدمه الغزالي في المنقذ وتشابهوا في تأكيد اقتران العلم بالعمل، واشترطوا على أن يكون القصد من العلم طلب الآخرة لا الدنيا ومغرياتها الزائلة . فضلا عن ربطهم العلم بالأخلاق وقدموا شروطا يجب على المعلم التزامها وأخرى يجب على المتعلم التزامها . فضلا عن تأكيدهم ضرورة التوسع في العلوم والمعرفة هذا التوسع الذي يجب أن يكون بشكل تدريجي مراعاة لمستوى عقول المتعلمين.
1 ـ العلوم الفلسفية:
قسم إخوان الصفاء العلوم الفلسفية الى خمسة اقسام وهي العلوم الرياضية والعلوم المنطقية والعلوم الطبيعية والعلوم الإلهية والعلوم السياسية فأما الرياضية تشمل علم العدد الحساب والهندسة وعلم النجوم والعلوم المنطقية وتشمل صناعة الشعر وصناعة الخطب وصناعة الجدل وصناعة البرهان وصناعة المغالطين(الغزالي، المنقذ من الضلال والموصل إلى ذي العزة والجلال، تحقيق وتقديم د. جميل صلبيا ود. كامل عياد، دار الأندلس بيروت، ط 7/ 1967 )، أما العلوم الطبيعية فتشمل علم المبادئ الجسمانية أي معرفة ( الهيولي، والصورة والزمان، والمكان، والحركة، وتشمل هذه العلوم أيضا علم السماء والعالم الذي يبحث في جواهر الكواكب والأفلاك ـ وعلم الكون والفساد الذي يهتم بمعرفة الأركان الأربعة (النار والهواء والماء والأرض) وعلم حوادث الجو فضلا عن (علم المعادن وعلم النبات وعلم الحيوان) (الغزالي، ميزان العمل، تحقيق د . سليمان دنيا ـ دار المعارف، القاهرة ط1 / 1964).
أما بالنسبة للغزالي فقد قسم علوم الفلاسفة ستة أقسام، وهذا التقسيم نجده في كتاب المنقذ من الضلال حصرًا وتحديدًا، أما باقي مؤلفاته كمقاصد الفلاسفة وإحياء علوم الدين وغيرها فلم يشر الى هذه الأقسام الستة التي ذكرها في المنقذ حيث عرض علوم الفلاسفة بصورة عامة دون أن يذكر التفاصيل التي قدمها إخوان الصفاء ولكنه على كل حال يعني التقسيم نفسه الذي ذكره الإخوان فأكد بان علومهم الفلسفية تتمثل بالعلوم الرياضية التي تشمل علم الحساب والهندسة وعلم هيئة العالم (عمر فروخ، تاريخ الفكر العربي إلى أيام ابن خلدون، دار صادر بيروت، ط4/ 1983) والمنطقيات التي تتمثل بالنظر في طرق الأدلة والمقاييس وشروط مقدمات البرهان وكيفية تركيبها وشروط الحد الصحيح وكيفية ترتيبه .
2ـ العلم والعمل:
إن الاقتران بين العلم والعمل من المواضيع التي أكدها اخوان الصفاء حيث نظروا للعلم على انه قنية روحانية ينال الإنسان من خلالها السعادة في الاخرة وهذه السعادة لا تزول ابدا فبالعلم ينال الإنسان طريق الاخرة وبالدين يصل إليه وباجتماع العلم والدين تضيء النفس وتشرق (المجريطي، الرسالة الجامعة، تحقيق وتقديم، جميل صلبيا، مطبعة الترقي، دمشق 1949)، وأكدوا على أهمية الشرائع الإلهية والعلوم الإلهية حيث قالـوا عن العلـوم الشرعيـة ( وأعلم يا اخي انه ليس من علم ولا عمل ولا صناعة ولا تدبير ولا سياسة مما يتعاطاه البشر هو اعلى منزلة ولا اسنى درجة، ولا في الآخرة اكثر ثوابا، ولا بأفعال الملائكة اشد تشبها ولا إلى الله، اقرب قربة، ولا لرضاه ابلغ طلباً من وضع ( الشرائع الإلهية ) (النشار، علي سامي، نشأة الفكر الفلسفي في الإسلام، دار المعارف، مصر ط 2 1964)
أما عن العلوم الإلهية فقد جعلوها غايتهم القصوى والغرض الاساس من وراء دراستهم للعلوم، أما الغزالي فأكد هذا الموضوع، ففي "إحياء علوم الدين" يقول (إذا نظرت إلى العلم رأيته لذيذا في نفسه فيكون مطلوبا لذاته، ووجدته وسيلة إلى دار الآخرة وسعادتها وذريعة الى التقرب من الله تعالى ولا يتوصل إليه إلا به، وأعظم الاشياء رتبة في حق الآدمي السعادة الابدية، وأفضل الأشياء ما هو وسيلة إليها ولن يتوصل إلى العمل إلا بالعلم بكيفية العمل، فأصل السعادة في الدنيا والآخرة هو العلم فهو افضل الأعمال)، أما عن أهمية العلم الإلهي عند الغزالي فنجدها في حديثه عن تفاضل العلوم ـ فأفضلية العلم وشرفه تتحدد عنده بثمرته أو وثاقة دليله وبما أن العلوم الالهية كالعلم بالله عز وجل وملائكته وكتبه ورسله تمتاز بقيمة ثمرتها ووثاقة دليلها فهي أشرف العلوم، فإخوان الصفاء والغزالي اكدوا موضوع اقتران العلم بالعمل فهم قد تشابهوا في هذا الموضوع مثلما حدث التشابه في تقسيمهم للعلوم الفلسفية
3 ـ ما يجب على المعلم التزامه
أعطى إخوان الصفاء والغزالي للمعلم مكانة كبيرة وبالغوا في تعظيم المعلم، فوصفوه بأنه خليفة الله في أرضه، وهذا الوصف نجده في حديث إخوان الصفاء عن الإنسان المطلق بوصفه معلما للإنسانية وخليفة الله فـي أرضـه، وهذا نص قولهم (واعلم يا أخـي أيدك الله بروح منه بأن هذا الإنسـان الذي قلنا هـو خليفة الله وهو مطبوع على قبول جميع الأخلاق وجميع العلوم الإنسانية والصنائع الحكمية، وهو موجود في كل وقت وزمان ومع كل شخص من أشخاص البشر تظهر منه أفعالـه وعلومـه وأخلاقه)
وهكذا فكرة نجدها عند الغزالي في قوله (والمعلم متصرف في قلوب البشر ونفوسهم واشرف موجود على الأرض جنس الإنس واشرف جزء من جواهر الإنسان قلبه، والمعلم مشتغل بتكميله وتجميله وتطهيره وسياقته الى القرب من الله عز وجل، فتعلم العلم من وجه عبادة الله تعالى ومن وجه خلافة الله تعالى وهو من اجل خلافة الله، فان الله قد فتح على قلب العالم العلم الذي أخص صفاته، فهو كالخازن لأنفس خزائنه ثم هو مأذون له في الإنفاق منه على كل محتاج إليه فأي رتبة أجل من كون العبد واسطة بين ربة سبحانه وتعالى وبين خلقه).
فضلا عن ذلك فقد أكد الإخوان والغزالي على دور المعلم كأب روحي للمتعلم، حيث فضلوه على الأب الحقيقي وحجتهم في ذلك أن الأب منح ولده صورة جسد آنية، فكان سببا في وجود هذا الجسد في الدنيا ودوره هو إصلاح حال هذا الجسد في هذه الدار التي هي دار فناء، أما المعلم فيعطي المتعلم صورة روحانية من خلال تغذية نفس المتعلم بالعلوم والمعارف التي تهديـة إلى طريـق الآخرة، وأكدوا أيضا على ضرورة التعاون بين المتعلمين والمعلم على أمور الدين والدنيا، وهذا التعاون لا يتم ما لم يكن غرضهم طلب الآخرة، فقال إخوان الصفاء (لأن إخوان الصدق هم الأعوان على أمور الدين والدنيا جميعًا وهم أعز من الكبريت الأحمر)، وقال الغزالي في هذا الموضوع)، وكما أن حق أبناء الرجل الواحد أن يتحابوا ويتعاونوا على المقاصد كلها، فكذلك حـق تلامـذة الرجـل الواحـد التحـاب والتوادد، ولا يكون إلا كذلك ان كـان قصدهم الآخرة)، فإخوان الصفاء والغزالي أكدوا على دور المعلم وبشكل بارز وتشابهوا في هذا الموضوع .
أما عن الشروط اللازم توافرها بالمعلم عند الإخوان والغزالي فنقول ان إخوان الصفاء وخلان الوفاء وضعوا شروطا عدة أكدوا ضرورة توافرها عند المعلم وهي تشبه الشروط التي وضعها الغزالي حيث طلب الإخوان من المعلم أن لا يحسد أخا ذا مال ولا يستحقره لجهله، ولا يفتخر عليه بعلمه ولا يطلب عوضا منه فيما يعلمه، وأن لا يمن على المتعلم وإلى نفس تلك الأفكار ذهب الغزالي، حيث طلب من المعلم أن يقتدي بصاحب الشرع صلى الله عليه وسلم، بألا يطلب على إفادة العلم أجرا أو شكرا بل يعلم لوجه الله وان لا يمن على الذين علمهم بل يجب أن يرى الفضل لهم إذ هذبوا قلوبهم للتقرب إلى الله وان يطلب الأجر من الله تعالى
وأكد الإخوان والغزالي أن على المعلم مراعاة مستوى المتعلمين وان يعتمد التدريج في إعطاء المواد الدراسية لهم . ولنبدأ بإخوان الصفاء حيث أوضحوا بان على المعلم ان يراعي المستوى العلمي والإمكانيات المتوافرة عند المتعلم وان يعرف رغبة المتعلم و إلى أي العلوم يميل لأن العلوم تتفاضل فيجب على المعلم مراعاة هذه المسألة وان يراعي التدريج في التعليم، وهكذا أفكار أكدها الغزالي أيضا حيث طلب من المعلم أن لا يدع من نصح المتعلم شيئا وان يمنعه من التصدي إلى طلب رتبة قبل استحقاقها والتشاغل بعلم خفي قبل الفراغ من الجلي، وشابه إخوان الصفاء الغزالي في شرط رئيس أكدوا ضرورة توافره بالمعلم وهو أن لا يكون قصده من علمه طلب الرئاسة والمنازعة والتعصب والعداوة والبغضاء بين المتعلمين لان الغرض من العلوم هو التقرب من الله تعالى.
4 ـ ما يجب على المتعلم التزامه أكد إخوان الصفاء على مجموعة مسائل وطلبوا من المتعلمين الأخذ بها وهي تشبه الى حد كبير المسائل التي أكدها الغزالي، ومنها ضرورة صفاء جوهر نفس المتعلم وتطهيرها من الأخلاق المذمومة، فإخوان الصفاء قسموا أفراد جمعيتهم على أساس صفاء جوهر نفوسهم، واعتبروا أن من الأسباب المانعة لصداقتهم هي رداءة الأخلاق وسوء الأعمال وفساد الآراء وتراكم الجهالات ومسألة صفاء النفس وطهارتها من الرذائل أكدها الغزالي أيضًا، حيث بين ان العلم هو عبادة القلب وصلاة السر وقربة الباطن إلى الله ولكي تصح هذه العبادة فيجب التزام طهارة القلب من خبائث الأخلاق وأنجاس الأوصاف.
ونجد التشابه بين الإخوان والغزالي أيضا في تأكيدهم مسألة امتحان المتعلم في مواطن المحبوبات عنده والهدف الأساس من هذا التأكيد هو معرفة مدى اهتمام المتعلم بالعلم من جانب ومن جانب آخر حثهم المتعلم على ترك مشاغل الدنيا، حيث أوضح إخوان الصفاء بأن على المعلم أن يمتحن المتعلم في الأشياء المحبوبة عنده كأن يأمره بمفارقة الأحباب وانفاق الأموال والجهاد بالنفس وترك الزوجة والأولاد لمعرفة مدى تمسكه بالعلم.
أما الغزالي فقد أكد على ضرورة تقليل المتعلم علائقه بالدنيا وأن يبتعد عن الأهل والوطن لأن العلائق شاغلة وصارفة عن العلم، فالمعلم كما يرى الغزالي لا يعطيك بعضه حتى تعطيه كلك وإذا أعطيته كلك فأنت من إعطائه إياك بعضه على خطر، ونجد شبها أيضا بين الإخوان والغزالي في موضوع تأكيدهم على ضرورة احترام المتعلم للعلم حيث أوضح الإخوان أن على المتعلم أن لا يتكبر على المعلم، وأن يخضع له ويستمع إليه فواجب على المتعلم احترام كل من يملك علما لا يملكه هو، فيجب عليه أن يتعلم منه كتعلم صبيان الكتّاب، وأن يستمع إليه استماع الخطيب يوم الجمعة او اتباع المأموم للإمام خصوصا إذا كان ما يقوله المعلم حقا، وعلى حد تعبير الغزالي يجب إذعان المتعلم لنصيحة المعلم كإذعان المريض الجاهل للطبيب المشفق الحاذق.
ونجد شبهصا أخر بين أفكار إخوان الصفاء والغزالي في حديثهم عن المتعلم وهو طلبهم من المتعلم المبتدئ ان لا يخوض في الشبهات واختلاف المذاهب لان ذلك مضلة له وحيرة لذهنه، أما إذا أصبحت له قدرة الاطلاع على الشبه بقصد توخي الحق فهذا جائز لأنه قد يجد مذهبا من المذاهب صحيحا فيأخذ به، فكلاهما أكد على الدراسة الموضوعية للمذاهب لغرض معرفة الحق.
أكد إخوان الصفاء على ضرورة اطلاع المتعلم على العلوم المتنوعة لأن العلوم مترابطة مع بعضها البعض ويجب على المتعلم أن لا يعادي علما من العلوم وهكذا فكرة نجدها عند الغزالي أيضا حيث طلب من المتعلم ان لا يدع فنا من العلوم المحمودة ولا نوعا من أنواعه إلا وينظر فيه كي لا يجهل العلوم لان الناس أعداء ما جهلوا، وطلب إخوان الصفاء من المتعلم ان يتدرج في دراسته للعلوم فيرتقي من علم إلى أخر وصولا إلى العلم الإلهي، وهذه المسألة أكدها ابو حامد الغزالي عندما طلب من المتعلم ان لا يخوض في فن حتى يستوفي الفن الذي قبله والترقي الى ما فوقه من العلوم وصولا إلى العلم الذي يتعلق بالآخرة.
ابن تيمية:
عن إخوان الصفا يقول ابن تيمية: هم "جماعة في دولة بني بويه ببغداد، وكانوا من الصابئة المتفلسفة المتحنفة، جمعوا بزعمهم بين دين الصابئة المبدلين، وبين الحنيفية، وأتوا بكلام المتفلسفة وبأشياء من الشريعة، وفيه من الكفر والجهل شيء كثير" (مجموع الفتاوى لابن تيمية: 4/79)
حديثا: محمد أمحزون
يقول عنهم المؤرخ والباحث الأستاذ الدكتور محمد أمحزون، أستاذ التاريخ الإسلامي الوسيط بكلية الآداب جامعة المولى إسماعيل في كتابه فرق الباطنية: "اختلف الناس في أسماء من صنفوا هذه الرسائل، ولعل هذا الاختلاف يعود إلى السرية التامة التي أحاط بها إخوان الصفا أنفسهم في تطوير نظام حركتهم الهدامة وهو ما يعرف في التاريخ الإسلامي بالتقية، وهو أسلوب استعمله الرافضة والفرق الباطنية للتعمية عن أخبارها وعدم الاهتداء إلى أعضائها. فظهور الرسائل وانتشارها بين الوراقين وفي المجالس الأدبية والعلمية، تلك غاية كانت ضمن سياق خطة مؤلفيها لإثارة لغط واسع في الأوساط العلمية وبين جمهور الناس عن شخصيات المصنفين، بالإضافة إلى تأثير نفسي لدى المتلقي يفرض عليه البحث وراء سرِّ هؤلاء من خلال قيادته إلى قراءة الرسائل، ومن ثم التأثر والتفاعل مع ما ورد فيها من أفكار وآراء.. ويكفي في ذم هؤلاء الأشخاص المنتسبين إلى جماعة إخوان الصفا أنهم اشتغلوا بطاغوت الفلسفة وجعلوها دينهم، إذ يستشف من تعاليمهم وآرائهم أنها ناجمة عن نزعة فلسفية مستوحاة من أفكار فيثاغورس، واقتباسهم من العقائد الأفلاطونية والأفلاطونية الجديدة، وفلسفة المشائين والفرس والهنود"(الفرق الباطنية التاريخ والمنهاج للدكتور محمد أمحزون: ص81)
الرسائل وذكر الدعوة الإسماعيلية:
انتقلت كتب الدعوة الإسماعيلية الفاطمية المصرية في أيام خلافة المستنصر بالله والمستعلي لدين الله والآمر بأحكام الله، بعد انقراض الدولة الفاطمية في مصر إلى اليمن، لأن الصلات كانت موجودة بين الأئمة الفاطميين في مصر والسلاطين الصليحيين في اليمن، ثم اتخذت الدعوة اليمنية تدرس الرسائل، و أن أول من ذكر الرسائل والرسالة الجامعة في تاريخ آداب الدعوة الإسماعيلية هو الداعي إبراهيم بن الحسين الحامدي المتوفى سنة 557 هـ. و الدعاة اليمنيون أكثروا مباحثهم في الرسائل وأمعنوا في مطالعتهم إياها وتأليف الدعاة المتقدمين، فصارت الرسائل عندهم " قرآن الإمامة " ويحترمونها كما يحترمون " قرآن الأمة " كما قال الشيخ إبراهيم السيفي المتوفى سنة 1236 هـ في كتابه المسمى "تحفة رسائل الإخوان الذي هو شرح الرسائل الأربعة الرياضية من القسم الأول من رسائل إخوان الصفا ": "وسمعت بعض العلماء يقول إن رسائل إخوان الصفا هي القرآن بعد القرآن وهي قرآن العلم كما أن القرآن قرآن الوحي وهي قرآن الإمامة وذلك قرآن النبوة".
وهم يعتقدون بأن الرسائل ألفها "الإمام الهمام قطب الأقطاب مولانا أحمد المستور ابن عبد الله بن محمد بن إسماعيل بن جعفر الصادق"، في أيام الخليفة المأمون العباسي كما صرح به ونص عليه إدريس عماد الدين المتوفى سنة ( 872 هـ - 1467 م ) في كتابيه (عيون الأخبار) و(زهر المعاني) وهنا نورد بيان الداعي إدريس في أمر الرسائل حيث قال في الجلد الرابع في كتاب " عيون الأخبار " (ص 229)
" وقام الأمام التقي أحمد بن عبد الله بن محمد بن إسماعيل بعد أبيه بأمر الإمامة وبث دعاته في الآفاق من سلمية واتصل به الدعاة ودعوا إلية وهم مخفون لمقامة كاتمون لاسمه..، وكان المأمون حين احتال على علي بن موسى الرضي بن جعفر، ظن أن أمر الله قد انقطع وحجته عن الأرض قد ارتفعت... فحين ظن المأمون العباسي ..، ذلك الظن ووهم ذلك الوهم سعى في تبديل شريعة محمد صلى الله عليه وسلم وتغييرها، وأن يرد الناس إلى الفلسفة وعلم اليونانيين... وخشي الأمام من أن يميل الناس إلى ما زخرف المأمون عن شريعة جده ... فألف رسائل إخوان الصفا
الأزهر وإخوان الصفاء:
لم يصل إلينا موقف محدد اتخذه الازهر من هذه الجماعة قديما أو حديثا إلا أنه أجاز رسالة الدكتوراة لفؤاد معصوم رئيس العراق الحالي، والتي تناول فيها إخوان الصفاء وتكوينهم وعصرهم وفلسفاتهم وغايتهم في رسالة معنونة" إخوان الصفاء فلسفتهم وغايتهم" وقد تناول اخوان الصفاء ايضا من هو داخل المؤسسة الأزهرية وهو الشيخ أحمد حسن الباقوري والذي انتج عنهم مؤلفًا بعنوان "إخوان الصفاء ودورهم في التفكير الاسلامي" حيث يتتبع مراحل تطورهم واسهامهم لتطوير وتقدم الفكر الاسلامي وانحيازهم للعقلانية واهتمامهم بمعظم معارف عصرهم.
ومازال هناك جدل دائر في الأوساط العلمية حول إخوان الصفاء وانتمائهم حتى الآن، فهناك من اتهمهم بالانحراف عن الشريعة، وهناك من اتهمهم بأنهم فرقة اسماعيلية " عارف تامر" على سبيل المثال، وآخرون رفعوا من شأنهم إلى ريادتهم للتنوير العربي أمثال د. "محمود إسماعيل" صاحب كتاب "إخوان الصفا.. رواد التنوير في الفكر العربي".