الطائفية اللبنانية من الجذور لسياسية الحروب الملتهبة
الجمعة 12/يونيو/2015 - 05:15 م
طباعة
د.غسان فوزى طه
•اسم الكتاب – شيعة لبنان العشيرة – الحزب – الدولة ( بعلبك – الهرمل نموذجا )
•اسم المؤلف: د.غسان فوزى طه
•الناشر: معهد المعارف الحكمية2006 – بيروت
يشغل لبنان اليوم مساحة تزيد قليلا عن عشرة الاف كيلو متر مربع ويتالف سكانه من جماعات دينية مختلفة بعضها مسيحي ( واهم الطوائف المسيحية عدادا الموارانة والروم الارثوذكس يليهم الروم الكاثوليك ) والاخر اسلامي (المسلمون السنة والشيعة والدروز ) وباستثناء الارمن فان الطوائف اللبنانية لاتختلف عن بعضها البعض الا بالهوية الدينية بينما يشترك الجميع في اللغة والتراث العام .وقد شهد لبنان العديد من التغيرات السياسية على هذه التغيرات لم تطال جوهر النظام السياسي للدولة القائم علي بنية النظام الطائفي في انتاج السلطة .فحافظت الدولة علي وجودها كاطار يحتضن الطوائف ويحافظ علي كياناتها الخاصة .دون ان تتحول كاطار كلي يشد الافراد للولاء الوطني العام .ففي لبنان الروابط الاهلية والقربي والطائفة والعشيرة والحزب تشد السلطة له كوحدات سياسية منتظمة وهذا الكتاب العميق والمهم يبحث في هذه التركيبة المتداخلة ففي احيانا يكتفي بطرح اسئلة شائكة واحيانا يجد اجابات صعبة .ولعلة قراءته في هذا الوقت حيث لا يوجد رئيس للبنان وهناك تدهور في حزب الله وداعش على مقربه من حدودها فلبنان على صفيح ساخن دائما
يتحدث الكاتب دكتور غسان طه عن العمل الحزبي في لبنان قائلا ان الامر بدا بالجمعيات المطالبة بالاصلاح او بالاستقلال عن الدولة العثمانية دون غيرهم من الوحدات القرابية.
اما فى المرحلة التى اعقبتها اى في مراحل الانتداب الفرنسي ثم الاستقلال فقد تميزت الحرب الاهلية باندثار الجمعيات والتنظيمات السابقة ليحل محلها عدد من الاحزاب ذات المنطلقات القومية والاشتراكية برزت بشكل متواضع خلال الانتداب ثم لتشهد تطوراً وتوسعاً في مرحلة الاستقلال ولتعرف اوج ازدهارها في الحرب الاهلية عام 1975.
فخلال مرحلة الانتداب لم يكن قد دخل الى المنطقة سوى حزبين هما الشيوعي اللبناني والحزب السوري القومي الاجتماعي اللذان نجحا الى حد ما باستقطاب بعض الافراد من الوحدات القرابية- اى من الاقارب - من غير الحيادرة – اى عائلة الحيادرة بمنطفة الهرمل - وقد نشط هؤلاء الافراد داخل صفوفهما وتبوؤوا مواقع تنظيمية ريادية لكن دون ان يمتد نشاطهما الى عدد كبير من ابناء الوحدات القرابية.
فى المرحلة التى اعقبت فجر الاستقلال استمر هذان الحزبان بنشاطهما الى جانب مجموعة من الاحزاب التى راحت تنشط فى الساحة فبرز عدد من افراد العائلات الذين تسلم بعضهم مقاعد تنظيمية بارزة ففى الحزب السورى القومي الاجتماعي برزت عائلة نزهة، عبد الستار وياغى بشكل اساسى. وبرز من بين العشائر افراد من عشيرة دندش وعلو وقوى الحزب التقدمى الاشتراكى لدى عائلة ياغى دون ان يفلح الامتداد الى منطقة العشائر. وفى حزب البعث العربي الاشتراكي برز زيد حيدر كعضو مؤسس ثم امتد الحزب الى عائلة قانصو ورعد والمصري فبرز منها عدد من القياديين على غرار عاصم قانصو وبسام رعد وعلى المصري دون ان يبرز فيه اعضاء قياديون من العشائر.
ومع نشاة التنظيمات الناصرية نشطت هذه التنظيمات فامتدت الى مجموعة من العائلات الجديدة كعائلة الطفيلى بشكل اساسى حيث برز بينها قاسم الطفيلى ثم عائلات بيان، صلح، ورفاعى ولكن دون ان تقوى هذه التنظيمات في منطقة العشائر.
مرحلة الحرب الاهلية:
وعلى هذا النحو من النجاحات والاخفاقات في امتداد هذه الاحزاب بين الوحدات القرابية فقد جاءت مرحلة الحرب الاهلية –وبنتيجة الاوضاع التي اصبحت سائدة انذاك- لتفصح عن حجم الاستقطابات الواسعة التى تجلت بانخراط عدد كبير من الشبان في صفوف الاحزاب التي تحولت الى ميليشيات اذ لم تخل عائلة او عشيرة من الانخراط فيها. وبذلك تكون هذه المرحلة قد تميزت عن غيرها من المراحل بازدهار العمل الحزبي حيث لم تعد اى عائلة او عشيرة بعيدة عن الاستقطابات التي سادت انذاك.
وبذلك لم تكن الوحدات القرابية بمناي عن التغيرات والتطورات التى هبت على المنطقة منذ القرن التاسع عشر.
بين الانتماء القربي والحزبي
وبفعل هذه التطورات تشكلت مجموعة من التنظيمات والحركات الحزبية وراحت تعمل على استيعاب الافراد داخل اطاراتها فشهدت تطوراً تدريجياً فى عملية الاستقطاب حتى بلغت ذروتها في مرحلة الحرب الاهلية.
غير انه حتى هذا التاريخ لم تكن الوحدات القرابية برغم تنازعها بين الانتماء القرابى والانتماء الحزبى قد عرفت انسداداً يقوم على اللحمة الطائفية على غرار غيرها من الطوائف.
وبرغم واقع الطائفية المتردي من الناحيتين الاجتماعية والسياسية والذى يوفر الامكانية لبلورة الوعى داخل افرادها غير ان عدم بروز قيادة او زعامة سياسية تعمل على تطير افرادها وتنزع نحو تعزيز وجودها على قاعدة نيل مطالبها الاجتماعية وتحسين ظروف تمثيلها السياسي ادى الى مراوحة افرادها بين الانتماء القربى والحزبي.
موسي الصدر:
فمع بروز الامام موسى الصدر بات هؤلاء الافراد وكذلك الطائفية المتشكلة فى اطار التنظيم الجديد أي ( حركة امل )امام تحد قوامه استيعاب الافراد وتعضيدهم فى لحمة جديدة تناي عن دائرة الانتماءات القربية والحزبية الى دائرة الانتماء لصفوف الطائفة المتسيسة حديثاً.
لقد لاقت الدعوات التي قادها الامام الصدر استجابة واسعة بين عموم افراد الوحدات القرابية وامتدت الى ما بعد غيابه عن مسرح الاحداث غير ان نجاحه لم يكن مقرونا بشكل مباشر باطلاقه لحركة المحرومين امل والتى تزامنت مع بدء الحرب الاهلية اذ ليس من شك ان الحرب الاهلية وبفعل التعبئة التى سادت انذاك سهلت عملية الاستقطاب بين افراد الطوائف غير ان بروز الامام الصدر والبدء باطلاق وتعميم الوعى بالحرمان الاجتماعى والسياسى للشيعة منذ الستينيات ادى الى انعكاس هذا الوعى تدريجيا على افراد الوحدات القرابية.
فثمة زعامة جديدة تنزع نحو توحيد الطائفية دون الاصطدام مع مرتكزات القرابة ولما كانت هذه المرتكزات قد بدأت تفقد كثير من معانيها خلال الحرب الاهلية شكل ذلك احد الاسباب التي ساهمت في المسارعة نحو التحول نحو مشروع الطائفية المتجسد باطارها التنظيمي.
ولقد أذن لهذا الإطار، الاستمرار بعد غياب الإمام الصدر، بعدما كانت الحركة قد تجذرت بناها بين أفراد الوحدات القرابية، بفعل تنامى دورها وتطوره خلال مراحل الحرب الأهلية وما بعدها.
غير أن هذا التنامي لحركة أمل بين أفراد الوحدات القرابية، لم يكن ليتخذ سياقاً تصاعدياً دون بروز أية تصدعات أو معوقات تحد من استمرار وتيرته المتنامية، وقد برز ذلك مع تشكيل إطار جديد للطائفة تحت اسم حزب الله.
ومع بروز الحزب شهد الدور الاستقطابى لحركة أمل أحد أهم ارتكازاته، إذ راح يتحول الاستقطاب بين أفراد الوحدات القرابية باتجاه المشروع الذى أطلقته قيادة الحزب، والذى قضى بالمضى فى مشروع القتال الدائر مع الاحتلال الإسرائيلى فى لبنان، ثم ليعلن عن استمرار تأييده للحزب بعد اندراجه فى حلبة المنافسة على مواقع البرلمان.
يتبين من خلال ما سبق وفى سياق تحليل المواقف وأشكال العمل السياسى فى المراحل المختلفة ما يلى:
- لعبت القرابة دوراً مهماً فى المواقف التى تجلت فى مرحلة بروز العمل السياسى مع عهد التنظيمات، وقد اقتصرت على عائلتى الحيادرة والحماديين بشكل أساسى، مما يعنى أن المواقع القرابية التى شكلت السلطة المحلية هى نفسها من تصدى للعمل السياسى بعدما وجدت الفرصة مهيأة لذلك عبر إقرار دستور عام 1908.
- اختلفت مواقف القرابة بين الدعوة إلى الكيانية اللبنانية، والدعوات العروبية، وقد برز الموقف الكيانى واضحاً بين الحماديين، بسبب عقد تحالفاتهم الداخلية مع ذوى الاتجاهات الكيانية على غرار نخلة مطران حليف الفرنسيين، فضلاً عن أن تبعية الهرمل إلى عائلة المتصرفية فى جبل لبنان من شأنه إتاحة الفرصة فى المحافظة على موقعهم فى السلطة ومدها الى خارج حدود الهرمل.
أما الحيادرة فقد انقسموا بين اتجاهين مثل كل منهما أحد زعيمى العائلة. فسعيدحيدر الذى كانت الاتجاهات العروبية قد تبلورت عنده، لانضمامه إلى الجمعية العربية الفتاة، كان مؤيداً للاتجاه العروبى انسجاماً مع ما كان مطروحاً لدى الجمعية.
أما زعيم الجب الآخر أسعد حيدر فبسبب شعوره بعدم قدرة الجمعيات الإصلاحية على الوفاء بوعودها للعرب راح يمد تحالفاته مع الفرنسيين.
- إن الجمعيات الإصلاحية وإن اتخذت لنفسها أشكالاً فى المواقف والمطالب الإصلاحية، غير أنها لم تستطع توفير الفرصة لوحدات قرابية من خارج الحيادرة على الانضواء فيها لخوض معترك العمل السياسى، فبقيت هذه الجمعيات محدودة التأثير.
فى مرحلة الانتداب:
عائلة الحيادرية
- مع دخول عهد الانتداب وبروز الاتجاهات الكيانية والعروبية، عاود الحيادرة والحماديون نشاطهم السياسى، ولكن على قاعدة الانقسام القرابى. فالحيادرة استمروا فى الانقسام بين الاتجاهين الكيانى والعروبى، بقى الاتجاه الذى مثله أسعد حيدر منسجماً مع موقفه قبل دخول الفرنسيين، أما الاتجاه الآخر الرافض للانتداب والمنفتح على الخيارات العروبية، فمثله سعيد حيدر تحالفه مع الأمير فيصل، ولم يغير فى مواقفه إلا بعد انحسار الثورة عقب معركة ميسلون التى حسمها الفرنسيون لصالحهم وبعد دخولهم إلى منطقة بعلبك، مما دفع الحيادرة الى الالتفات نحو الداخل والاندراج فى توازنات النظام الذى استحدثه الفرنسيون، لتعيد بذلك إنتاج موقعها السلطوى، مما أعفاها من مساندة توفيق هولو حيدر فى ثورته التى تحالفت مع الشهبندر فى سوريا.
وأما الحماديون فقد أظهروا تماسكاً قرابياً بين العامودين الشمصى والزعيترى على قاعدة المطالب الكيانية، غير أنه سرعان ما بدؤوا بالانقسام مع بروز حلف عشائرى مناوئ للزعامة الحمادية ومؤيد للتوجهات العروبية. لم تعان العشائر الحمادية مع بداية دخول الفرنسيين من الانقسام، بسبب قدرة زعيم الحماديين محمد سعيد على توحيدها، إذ لا زال حتى ذلك الحين يحظى باحترام وتقدير العشائر. وبعد وفاته لم يكن ابنه سعد الله يتمتع بنفس مهابة والده، كما أن العشائر شعرت بفقدان الدور الذى لعبته قبل دخول الفرنسيين حين كانت تقوم بدور سلطوى عبر تحصيل الضرائب، لذلك ما إن وجدت الفرصة باتت مهيأة مع وجود حليف خارجى يتيح لها انتاج سلطتها من جديد- فيما لو قيد لها النجاح- حتى مدت يدها لمساندته ولم تتراجع فى مواقفها إلا بعد استخدام السلطات الانتدابية لسياسة الترغيب والترهيب، وبعد تقطيع أوصال الثورة فى المناطق مما حال دون استمرارها.
- شكلت المرحلة التى أعقبت نشأة الدستور وانتهاء الثورة السورية، بداية تحول الوحدات القرابية نحو الاندراج فى الاتجاه الكيانى على قاعدة اللحمة الداخلية وبالتوحد حول زعيم واحد للحيادرة وآخر للحماديين، وبعدما وفرت قاعدة التمثيل الطائفى بشكل أساسى الفرصة لمعاودة إنتاج مواقع السلطة القرابية.
وأما السبب الآخر فتمثل فى غياب الحليف الخارجى الذى يمكن أن تستند إليه، والذى برز بعد هزيمة الثورة السورية بزعامة سلطان الاطرش، ومعاناة العشائر وعائلة الحيادرة من انقسامات داخلية، فضلاً عن عدم قدرة كل من الاتجاهات المؤيدة للثورة داخل الحيادرة والحماديين، من مدها وتوسيعها خارج وحداتهم القرابية. وقد أدى ذلك إلى الارتداد نحو أحضان العائلة والعشيرة، إيذاناً بالعمل السياسى من داخل توازنات النظام.
- شهدت هذه المرحلة غياباً للنشاط الحزبى عن الساحة. فالتنظيمات التى سبق نشؤوها انهيار الإمبراطورية العثمانية، لم يعد لها فى مرحلة الانتداب أى أثر. استمر ذلك حتى منتصف العشرينات وبداية الثلاثينات، حين بروز الأحزاب القومية والاشتراكية، ولكن لم تستطع هذه الأحزاب توسيع حركتها الاستقطابية باتجاه أهدافها الداعية لرفض الانتداب، لرزحها تحت الضغط والرقابة الشديدة، فعانت من الانكفاء وعدم القدرة على مد تحالفاتها، خصوصاً بعدما كانت العشائر الحمادية والحيادرة قد دخلتا فى توازنات النظام.
مرحلة الاستقلال:
- سبق حلول عهد الاستقلال توحد الحيادرة حول زعامة إبراهيم حيدر، فيما عمد صبرى حمادة إلى إرساء زعامته وتكريسها بين العشائر الحمادية فى الهرمل. وقد نشأ بين الزعامتين حلف بدأت تباشيره تترسخ بخوض معركة الاستقلال التى لعب فيها الزعيم الحمادى دوراً محورياً فى نيل الاستقلال، وفى تأمين الدعامات الأساسية للتسوية التى أعلنت غداة ميثاق 1943م ثم فى المراحل التى أعقبت الاستقلال.
فخلال أحداث ثورة شمعون، كان الزعيم الحمادى قد كشف عن قدرته على محورة الوحدات القرابية للمشاركة فى الثورة، ولكن على قاعدة الحفاظ على دور لبنان وهويته التى عكسها الميثاق.
بدأت زعامة صبرى حمادة تتعرض للضغوط بفعل بروز مواقع زعامة قرابية بين العشائر الحمادية خلال المرحلة الشهابية إلا أنها لعبت دورها جنباً إلى جنب فى الحفاظ على توازنات النظام اللبنانى بهويته الطائفية، وبقيت بمنأى عن تحوله نحو الانشداد إلى الخارج، بفضل المصالح التى بات يؤمنها هذا النظام ويحفظ فيها كيان العشيرة والعائلة ومواقعها داخل السلطة حتى بداية الحرب الأهلية عام 1975.
- بإزاء أهمية دور القرابة فى الحفاظ على هوية الكيان اللبنانى وتوازنات التمثيل الطائفى، لعبت الحركات الحزبية دوراً فى معارضتها للصيغة التى استقر عليها النظام اللبنانى غداة الميثاق. ولكن حجم الاعتراض بدا ضامراً فى بداية معركة الاستقلال، ثم برز نسبياً مع سعى الحزب السورى القومى الاجتماعى للانقلاب عام 1949 دون أن يقيض له الامتداد والتوسع بفعل الدور الذى لعبته الزعامة الحمادية فى إحجام العشائر عن تأييده.غير أن فى هذه المرحلة التى شهدت فيها المنطقة تأثيرات إضطرابات عام 1958، أفصحت عن توسع نشاط الحركات الحزبية وخوضها لمعركة الهوية المنشودة للبنان، ولكنها رغم امتدادها وتوسعها بقيت عاجزة عن استقطاب الوحدات القرابية حولها بشكل فعلى، نتيجة الوقوع فى مشاكلها الداخلية ثم تطويقها فى المرحلة الشهابية بفضل السياسة التى أدت إلى فصل الموجة العروبية والاشتراكية عن عمقها الإقليمى، ثم التحول نحو استيعاب العشائر فى إطار التوازنات السياسية، مما أبعدها عن التحالف مع الحركات الحزبية، وأدخلها فى لإطار الصراع والتنافس فيما بينها للحصول على مواقع فى السلطة.
فى مرحلة الحرب الأهلية والطائف:
مع تحول الشيعة إلى طائفة سياسية فى بداية الحرب الأهلية، سهل ذلك انخراط الوحدات القرابية بهذا المشروع انطلاقاً من الرغبة فى تحصيل مطالب الطائفة التى طرحها الإمام موسى الصدر.
فهذا التحول وإن جاء على وقع النتائج الكارثية للحرب الأهلية التى دفعت الوحدات القرابية إلى تأمين الأمن الجماعى لأفرادها، فإنه عبر من جهة أخرى عن محاولة الاستعاضة عن الدور المفقود نتيجة تعليق لعبة التوازن التى كان يؤمنها البرلمان، نحو الاتخراط فى المشروع الرافض لغلبة الموارنة فى المحاصصة الطائفية، وبالتحالف والولاء لزعامة الطائفة الناشئة، بما امتلكته من قدرة ومؤهلات فى التعاطى مع واقع جديد، قوامه المطالبة بحقوقها ومكانتها فى النظام اللبنانى، وهو ما حصل أيضاً فيما بعد مع تعديلات الطائف، حيث دخلت الطائفة بجناحيها فى إطار التوازنات الجديدة.
النتيجة الأساسية التى نستطيع استخلاصها من خلال دراسة الأوضاع الاجتماعية والاقتصادية، توضح أن الأوضاع الاجتماعية والاقتصادية، لعبت دوراً مسانداً فى استمرار علاقات القرابة فى الميدان السياسى حتى عشية الحرب الأهلية، ثم أدت هذه الأوضاع نفسها إلى المساعدة فى بروز وتعزيز دور الطائفة.فمن خلال المراحل المختلفة لتطورات هذه الأوضاع تبرز أمامنا الصورة التالية:
- خلال مرحلة النصف الثانى من القرن التاسع عشر، حينما كانت ممارسة السلطة وانبناؤها تتمان ضمن تراتبية النظام القائم على سحب الربع الضرائبى، فإن بعلبك- الهرمل كانت ضمن الإطار العام الذى سمح بوجود مواقع سلطة محلية توزعت بين الحماديين والحيادرة. وقد سمح لهما دورهما بممارسة أشكال من التعسف على حساب الوحدات القرابية، فاتجها معاً إلى المحافظة على تماسكها القرابى لدوام تلك المكاسب.
أما بقية الوحدات القرابية، فمع استمرار أشكال الإنتاج التى بقيت متخلفة عما عداها من المناطق اللبنانية، فقد أدت هذه الأشكال الإنتاجية إلى استمرار ارتباطها بالعمل بالارض فى ملكياتها المتناهية فى الصغر، ولدى أصحاب الملكيات الكبيرة، مما دفعها إلى دوام الحفاظ على أوضاعها السائدة لعجزها عن تشكيل لحمتها القرابية لمناوأة مواقع السلطة القائمة.
- مع الانتقال إلى المرحلة الانتدابية، نجد أن تلك المرحلة لم تأت لتغير الأوضاع السائدة. فرغم دخول لبنان بالسوق الرأسمالية العالمية، إلا إن تخلف منطقة بعلبك- الهرمل عن مثيلاتها فى بعض المناطق كالجبل وبيروت، أديا إلى استمرار الأوضاع القائمة فلم تتغير تلك المرحلة عما سبقها.
فالملكيات الكبيرة لدى مواقع السلطة المحلية، حافظت على أوضاعها السابقة وشهدت توسعاً نسبياً.
والأرض وإن لم تعد تشكل حقلاً لممارسة السلطة، فإنها بلا شك أدت ومن خلال تدعيم الركائز الاقتصادية. الاجتماعية لمواقع السلطة، إلى الحفاظ على مصالحها بالاستفادة من الأوضاع القائمة، والحفاظ على علاقتها مع السلطات الانتدابية. وهذا ما دفعها إلى عدم رعاية أى اهتمام للحركات الحزبية التى شهدت تطوراً عن المرحلة التى سبقتها.
أما لدى الوحدات القرابية التى لم تشكل مواقع السلطة والنفوذ، فبدلاً من أن يؤدى استمرار تردى أوضاعها الاجتماعية والاقتصادية إلى مناوأة أصحاب الملكيات الكبيرة من خلال الانفتاح على الحركات الحزبية، استمرت فى المحافظة على بنيانها الداخلى ضمن الأسرة الواحدة من أصحاب الحيازات الصغيرة لوجود قوانين الملكية الجماعية للأرض. كذلك استمر أفراد العائلات من العاملين لدى أصحاب الملكيات الكبيرة فى إظهار الولاء والطاعة لأصحابها، بعدما أصبحت هذه الأخيرة تتقرب منها بالود لحاجتها إليها فى تعزيز استمرار مواقعها من خلال البرلمان.
فى مرحلة الاستقلال، وجدنا أن لبنان شهد وحتى نهاية الخمسينات، ازدهاراً شمل مختلف قطاعاته الإنتاجية، بينما بقيت هذه القطاعات تعانى من الهزال والضعف فى المنطقة المدروسة، فضلاً عن استمرار تخلف القطاع الزراعى.
ورغم أن المرحلة الشهابية سعت إلى تقليص الفروقات الاجتماعية بين المناطق عبر بعض الإصلاحات على المستوى الزراعى، غير أن افتقاد هذه التوجهات إلى سياسة إنمائية فعلية، أبقى الأراضى الزراعية كما كانت عليه فى المراحل السابقة، فغياب دور الدولة وعجزها عن تحقيق تنمية فعلية،دفع الوحدات القرابية نحو تمتين الارتباط بموقع زعامة القرابة على قاعدة فكرتى الخدمة والوساطة، التى تكرست بفعل طبيعة المجتمع اللبنانى، المتعايش مع العلاقات الرأسمالية والخدماتية المنتجة من خلال مواقع النفوذ والسلطة.
تفكك في الحرب:
يقول الكاتب - فى مرحلة الحرب الأهلية، شهدنا تفكك اللحمة القرابية، حيث تحولت الوحدات القرابية نحو العمل الحزبى ثم الطائفة. فقد شكل تردى الأوضاع الاجتماعية والاقتصادية التى تزامنت مع الحرب، إلى شعور الوحدات القرابية خصوصاً النازحة من ضواحى بيروت، بفقدان موارد رزقها، فدفعها ذلك نحو الحركات الحزبية بهدف الاستفادة من التقديمات والرواتب التى راحت تؤمنها الأحزاب للمنضوين فى صفوفها.
غير أن نجاح الحركات الحزبية فى تشكيل الإطارات البديلة للعديد من أفراد الوحدات القرابية لم يؤذن له الاستمرار، إذ حين بدأت الطائفة وعلى وقع الحرب الأهلية، تشق طريقها نحو التعبئة الاجتماعية التى قادها الإمام الصدر، والتى راحت تؤطر أفرادها تحت اسم" حركى المحرومين".
- أما مرحلة ما بعد الطائف فقد تميزت بترسيخ وجود جناحى الطائفة مع غلبة لحزب الله. فجناح الطائفة المتمثل بحركة أمل، استفاد من المشاركة فى السلطة التنفيذية وفى البرلمان لتشكيل مرجعية خدماتية فى التوظيف والمطالبة بتحسين شئؤن المنطقة، فى ظل فشل خطة النهوض الاقتصادى فى الوصول إلى حال الإنماء المتوازن.
أما جناح حزب الله، فلاتخاذه موقف الاعتراض على تعثر خطوات الحكومة فى الإنماء نجح فى استقطاب الأفراد الناقمين على تلك الأوضاع المتردية، فضلا عن أنه ساهم بمؤسساته الخدماتية المتنوعة، فى التعويض نسبيا عن غياب دور الدولة فى حين لم تكد مؤسسات أمل والمؤسسات الحزبية الخدماتية تتمكن من تأمين تلك الخدمات سوى فى نطاق محدود.
الخطاب السياسي:
يضيف الكاتب تبين من خلال تناولنا للخطاب السياسى للحركات الحزبية ولوسائل نشر هذا الخطاب ما يلى:
- عبر مضمون الخطاب الحزبى عن محاولة لتشكيل هوية خاصة تنطلق من مبدأ الأيديولوجيا، وتسعى نحو صهر الأفراد فى بوتقة واحدة يجمعهم انتماء إرادى وتشدهم غايات وتطلعات مشتركة. ولذلك بدا مضمون الخطاب الحزبى متعارضاً مع ما هو سائد لدى الأطر القرابية.
- شكل البناء التنظيمى ومكوناته، الإطار الذى تم من خلاله تطبيق الخطاب فاضطلعت الزعامة والكادر الحزبى بأدوار مختلفة نتج عنها ما يلى،
- أولت الحركات الحزبية لزعامتها دوراً ريادياً بارزاً. فإلى جانب اضطلاعها بتحديد المبادئ والاهداف، ثمة دور آخر تمثل بنشر الوعى وحراسة الأفكار وصونها وجذب أفراد الأمة إليها، لتتماهى معها. وهى بذلك بدت متناقضة فى دورها مع دور الزعامة فى دائرة القرابة والتى يصعب عليها التماهى إلا مع نفسها، وليس مع زعامة تقوم على أساس رفض الاعتراف بها، وقد ساهم ذلك فى عدم الانشداد إليها.
- لم تستطع زعامة الحزب مناوأة زعامة القرابة فى شد الأفراد إليها لكون زعامة القرابة حاضرة دوماً بين الأفراد فى وحدتها القرابية، فيما لا يتسنى الأمر نفسه للزعامة الحزبية.
- قام الكادر الحزبى بأدوارمتنوعة دونها صعوبات مختلفة، فدعوات الانتماء اصطدمت بالبنية الذهنية لدى أفراد الوحدات القرابية، حيث ثمة وعى راسخ ومتوارث، قوامه إحاطة النسب بهالة من السمو والرفعة اللتين تدعوان الفرد على الدوام للتفاخر والاستغناء به عما يحوجه الى استبداله بانتماء آخر، لا يشعر معه بعلاقة نسب مشترك. اما الدعوات النضالية الاخرى، فإلى جانب افتقارها إلى التكثيف والتنوع، فقد كان لارتباطها بمحطات سياسية وانتخابية، ما جعلها ترتطم بأهم المرتكزات الوجودية للعائلة والعشيرة وعماد لحمتها الداخلية، أى تلك المقترنة بسعيها لكسب المعارك الانتخابية، والاستحواذ على مواقع البرلمان.
ويوكد الدكتور طه غسان
بعد تناولنا للخطاب السياسى للطائفة ولوسائل نشره يتبين لنا ما يلى:
- إن مضمون الخطاب السياسى للحركة يعبر عن كونه ينطلق من اعتبارات دينية وبشكل أساسى مما هو موروث لدى الطائفة وتجييره فى العمل السياسى، ولذلك فهو يختلف عن الكلام القرابى الذى يسعى إلى توفير اللحمة الداخلية فى العائلة والعشيرة.
- شكل البناء التنظيمى الإطار الذى يتم من خلاله تطبيق الخطاب. ولتأدية هذا الدور تم الاستناد على المواقع التنظيمية التى تدرجت بين الزعامة وبين الكادر الحركى.
- أما الوسائل التى تم اعتمادها لنشر الخطاب فتبرز فى ما يلى:
على صعيد زعامة الطائفة:
- إن بروز الإمام الصدر أدى إلى تشكيل زعامة بديلة لاقتران دور زعامته بفترة زمنية تمثلت بانهيار زعامة القرابة بفعل الحرب الأهلية وتوقف العمل البرلمانى. وليس من قبيل المصادفة التنادى لتلبية حضور مهرجان رأس العين فى بداية الحرب الأهلية ثم الدعوة للانخراط فى صفوف حركة المحرومين" أمل".
- الارتكاز على البعد الدينى، فلكون هذه الزعامة دمجت فى عملها الدينى والسياسى معاً، لعب هذان البعدان دوراً أساسياً فى الاستقطاب. فرجل الدين يحظى باحترام ويحظى كلامه بقدسية دينية، ليس فقط من خلال الدعوة للالتزام بتعاليم الدين من خلال تطرقه إلى سائر ما يتعلق بالواقع المعاش، وعبر مفردات الخطاب المستعملة وما رافقها من ترسيخ الإحساس والشعور بالتحدى والمظلومية، وعبر إقرانه التحرك بالبعد الإيمانى.
حركية هذه الزعامة التى لم تنأ بنفسها لإعداد الخطاب والمشاريع ولتطلب من الناس المضى وراءها بل عمدت إلى تقديم خطابها من خلال تطثيف الحضور بين الوحدات القرابية عبر الزيارات والخطب والمهرجانات.
- مراعاتها لدور زعامة العشيرة والعائلة. فمنذ تأسيس المجلس الشيعى الأعلى تمكن الإمام الصدر من نسج علاقات وطيدة مع نواب منطقة بعلبك- الهرمل، فلم تشعر الزعامة الحمادية ومعها نواب المنطقة بتحدى زعاماتها، بل بدت متحمسة لإقرار مشروع المجلس الشيعى وذلك مع انطلاق الزعامة الجديدة وقبل تشكيل حركة أمل.
الكادر الحركى:
تميز عن الكادر الحزبى بالتنوع بين كادر دينى وآخر تنظيمى:
- استمد الكادر التنظيمى قدرته من موقعه الاجتماعى والدينى، فالكادر التنظيمى هو من الأساتذة ومن الوجهاء فيما علماء الدين أضفوا ومن خلال موقعهم الدينى، طابع الشرعية الدينية على السياسى.
- استفاد هذا الكادر خصوصا الرعيل الأولمنه، من ملازمته للإمام الصدر ولارتباطه معه بعلاقة مباشرة مما أعطى لحركته دفعاً إيجابياً.
- تلاؤم نشاطه مع مرحلة زمنية كانت فيها العائلة والعشيرة فى بداية فقدانها للحمتها الداخلية، مما أدى إلى سد الفراغ الحاصل بنتيجة تصدع لحمة القرابة.
- تنوع نشاطه فى جمع أفراد الطائفة، بالمزج بين نشر مبادئ الحركة وبين التبليغ الدينى، وربطهما بواقع الطائفة المأزوم، وبضرورة العمل على تجاوز أزمتها. فلم تأت الدعوات من فراغ بل استفاد رجال الدين على ندرتهم، من المخزون لدى أفراد الطائفة الذى بقى كامناً، فعمدوا إلى إعادة تظهيره وربطه بالواقع السياسى. وعليه شكلت حالة التبليغ الدينى التى اتخذت مجالاتها الجلسات التنظيمية فى مكاتب الحركة وفى المساجد والمنازل حلة جديدة لا تنفصل عراها عن الواقع.
ثم يصل الي خلاصة عامة جاء فيها:
أثبتت الوقائع التاريخية والراهنة، أن الروابط والولاءات التقليدية سبقت فى وجودها قيام النظام اللبنانى بأطواره المختلفة. ولكن لم تتحول هذه الروابط إلى وحدات سياسية إلا مع وجود حقل سياسى وفر المناخات الملائمة لكى تعمل من خلاله.
لقد برزت أولى تجليات هذه المناخات، مع نظام المتصرفية بتقسيماته الإدارية بين الطوائف فى الجبل على منطقة بعلبك- الهرمل، حيث أفسح المجال أمام بروز مواقع عائلية فى السلطة والإدارة. وقبل ذلك التاريخ لك يكن هناك حق سياسى للطائفة فى مواقع السلطة والإدارة فى هذه المنطقة التى كانت خارج النظام المعمول به فى جبل لبنان.
فباستثناء عائلتى الحيادرة والحماديين اللتين كانتا قد برزتا فى المجال العام خلال هذه المرحلة، بقيت الروابط القرابية الأخرى مرتكزة فى وجودها على مبدأ التعاون الأسرى والعائلى فى ميادين الإنتاج والعلاقات الاجتماعية، ولم تتحول إلى وحدات اجتماعية سياسية على نحو عمومى.
لقد بقيت هذه الروابط كامنة حتى مراحل الانتداب، لتبرزمعها وبعدها، فى الميدان السياسى بعدما ارتبطت بترتيبات دستورية أو مؤسسية، أدت إلى استيعابها كعائلات تمثل حصة الطائفة فى مؤسسات الدولة، وخصوصاً فى مؤسسة البرلمان الذى أتاح وفق قوانينه الانتخابية، تفعيل الروابط العائلية المخصصة لكل طائفة من الطوائف.
لقد مثلت عائلات عدة حصة الطائف الشيعية فى المقاعد التى خصصت لها فى منطقة بعلبك الهرمل فيما أتاحت هذه العملية نفسها للعائلات الأخرى، الحفاظ دوماً على وحدتها ولحمتها الداخلية، علها تصل بأحد أفرادها إلى سدة السلطة، أو تعزز دورها فى الحياة الانتخابية. كما أتاحت العمليات التنافسية خلال الانتخابات، مد جسور التحالفات التى تمهد لربط العائلة بأحد المواقع المستحوذة على المقعد النيابى عبر زعيمها، أو الوجيه فيها، لما تؤمنه هذه العلاقة من مرجعية معنوية للعائلة نفسها ولزعيمها، ومن استفادة من حقل الخدمات التى يحتاجها أفرادها. وبرغم أن هذه الروابط لم تكن صافية بفعل ما شهدته المنطقة التى شكلت مجال البحث من استقطابات قامت على أسس حزبية، إلا أن هذه الاستقطابات لم تنجح فى تقويضها بشكل نهائى وفعلى لأسباب متنوعة، كان أبرزها وأشدها تأثيراً استمرار العمل بموجب الدستور وبقوانين الانتخاب التى شكلت أحد أبرز العوائق أمام حياة سياسية تتجاوز الطائفة والعائلة.
لقد استمر هذا المشهد حتى بروز الحرب الأهلية حيث صعدت الطائفة ككيان منجز فى إطارين تنظيميين إلى يدان العمل السياسى.
كانت العائلة والعشيرة قبل الحرب الأهلية، هى من يحدد أدوارها فى الحياة السياسية، فعملت على الاستفادة من توازنات النظام والابتعاد عما دار من انقسامات لتغيير هوية لبنان ونظامه السياسى وفق الطروحات القومية والاشتراكية، بعد ذلك أصبحت الطائفة هى من يحدد للعائلة والعشيرة دورها حيث يمر الترشح للبرلمان فى الإطار التنظيمى، دون أن يكون للعائلة أو العشيرة دور كبير فى هذا الشأن. ولقد سمح النظام المرتكز على أسس طائفية، شد أواصر العديد من أبناء الطائفة واستحضار توزعاتها فى كيان تنظيمى، فور توفر زعامة وعت مصالح طائفتها فحملت مظالمها وقلقها وطموحاتها الاجتماعية والاقتصادية إلى الساحة السياسية، ثم جاءت الحرب الأهلية بتداعياتها لتزيد هذه اللحمة وتشد عراها. ثم لتجد الطائفة نفسها أمام إطار تنظيمى آخر تمثل بحزب الله، الذى كان شريكاً لحركة أمل فى لعب دور أساسى فى الميدانى الانتخابى بعد العمل بمفاعيل دستور الطائف فى عامى 1992و 1996.
وإذا بدا لدينا استمرار وجود العلاقات القرابية، والروابط التى قامت على أسس حزبية، إلا غلبة إطارى الطائفة، يفسح المجال أمام الاستنتاج، بأن مسوغات وجودهما وغلبتهما نابعتان فى أحد أهم العوامل، من طبيعة البنية السياسية نفسها، وهذا ما يؤكد فرضيتنا الأساسية قبا إجراء البحث.
أما العوامل المساعدة فهى كذلك، تتماشى مع فرضياتنا الأخرى والتى تم إدراجها على أنها بمثابة فرضيات فرعية.فالشروط الاقتصادية هى من مستتبعات نظام المحاصصة والتوازن والغلبة. وهى وإن شكلت خصوصية لدى طائفة الشيعة حين انطلاق حركة المحرومين، لكن هذه الشروط لم تكن لتلعب دوراً بنيوياً فى هذا المجال. فالطائفة ستجد إطارها التنظيمى فى الوقت الذى تتوفر لديها زعامتها التى تحمل مشروعا سياسياً جامعاً، وإلا لماذا لم تنوجد إلا فى ذلك الوقت؟ وما معنى استمرارها بعد تحسين تمثيل الطائفة ضمن نظام المحاصصة؟ وما معنى بروز إطار تنظيمى آخر على قاعدة تختلف تماماً عما هو مطروح من الوجهة الطائفية- أى حزب الله الذى كان سبب بروزه التصدى للاحتلال الإسرائيلى- ثم اندراجه فى توازنات النظام السياسى؟
من ناحية أخرى، فإن علاقات السلطة والنفوذ شكلت أيضاً عوامل إضافية ولكنها تتصل بشكل أساسى فى تعزيز أواصر الروابط التقليدية. وقد تجلى ذلك فى علاقات الزبائنية فى بعدين رئيسيين: أولهما لجهة عموم أفراد العائلة والعشيرة جراء الرغبة فى تحصيل الخدمات والثانية لجهة الزعامة فى رغبتها الحفاظ على موقعها السلطوى. ويسرى ذلك أيضاً على العلاقات التى بدأت تأخذ دورها مع مشاركة الطائفة فى توازنات النظام السياسى على حساب العائلة والعشيرة.
وأما لناحية الدور الذى لعبه الخطاب السياسى فقد وجدنا أنه حرص على يكون تغييريا واستقطابياً، ولكنه بدأ أكثر فاعلية فى الإطار الطائفى منه فى الإطار الحزبى.
فكلا الخطابين اعتبرا أن التشكيلات القرابية ليست طيعة بلا حدود، بل تحتاج إلى التعبئة لصوغها وإدراجها فى أدوار تتجاوز البعد القرابى لكنها فى عملية التعبئة هذه تبين أن طواعيتها لتلقى خطاب الطائفة بدت أكثر مرونة من الخطاب الحزبي.
فالخطاب الحزبي بكونه انضوى على تعميمات إيديولوجية لم يكن مألوفاً لدى أفراد العائلات والعشائر، وهو يصدر عن زعامة لا تنتمى إلى دائرتها الجغرافية والطائفية، فيما خطاب الطائفة انفتح على التاريخ العميق للطائفة وعلى ما هو مختزن فى الذاكرة الجماعية، وأعاد ترميمها من جديد، وعايش الأوضاع الاجتماعية والاقتصادية، واستطاع إذكاء المخيلة الجماعية وفق أساليب لم تكن معزولة عن طقوس الطائفة، وأخرى جرى إعادة صوغها على غرار فكرة الاستشهاد الحسينى وربطها بالواقع السياسى، فاستطاع بذلك تنظيم الأفراد المرتبطين بشعور واحد وبهوية مشتركة موجودة مسبقاً قبل عملية التعبئة مما سهل استخدامها.
على هذا النحو يمكننا القول إن الروابط التى تقوم على أساس الدم والدين فى مجالنا البحثى تشكل نموذجاً للحالة اللبنانية بشكل عام. كما أن الحالة اللبنانية بروابطها التقليدية يمكن أن توجد فى مجتمعات أخرى غير لبنان.