داعش و فاحش و أزمة الحداثة
الخميس 09/يوليو/2015 - 01:45 م
طباعة
أعاصير من الأحداث السياسية و الاجتماعية تعصف بمنطقتنا العربية و محيطنا الإقليمي , وتكاد تسقط الكثير من الأنظمة التي كانت راسخة لعقود و تحوِّل دولاً أخرى عرفت استقرارا لسنوات لتصنفها ضمن الدول الفاشلة التي انفرط عقدها وفقدت القدرة على الامساك بعجلة القيادة فانحدرت في هوة الفوضى و العنف و القتل العبثي , سوريا مصر ليبيا اليمن تونس ودعت سنوات من الانظمة القمعية البوليسية لتدخل حقبة الحرب الأهلية و التنظيمات الطائفية التي تقتل الناس بتهمة الانتماء التاريخي لأحداث وقعت قبل 14 قرن و تنفد الحكم بنفس الطرق التاريخية , أما الأنظمة المستبدة التي خيرت الناس لعقود بين الولاء لها و التسليم بخيرات الأرض و كرامة العرض مقابل العيش الذليل حتى يوم الرحيل , هذه الانظمة أصبحت تخير الناس اليوم بين الركوع و التسليم ببقائها أو الموت الجماعي و الدمار الشامل.
قد يقولون إنها الفوضى الخلاقة التي ستنتج بعد مرور سحابتها الزائلة دولا متقدمة ومجتمعات متحضرة , لكن هل من الضروري تدمير الأوطان وخراب العمران و إبادة الإنسان حتى ننتقل إلى التحضر و التقدم و التعايش؟! .
يعيش الانسان العربي تحت هذا الاعصار وأسفل هذا الاعصار يواجه ثلاثة عواصف :
عاصفة الأنظمة العربية التي أنهكت الانسان وفشلت في تحقيق نهضة اقتصادية أو اجتماعية و مارست كل انواع الفساد و القمع و التفقير لما يزيد عن ستة عقود.
و عاصفة التنظيمات العنف المتطرفة التي ظهرت مع بداية السبعينات و تكاثرت منذ مطلع التسعينات و التي تعيش اليوم عصرها الذهبي : من تنظيم الجهاد المصري ثم الجماعة الإسلامية و التكفير و الهجرة و تنظيم القاعدة ثم التوحيد و الجهاد و عصائب أهل الحق و فيلق بدر و أنصار الله و أخيرا تنظيم الدولة الاسلامية أو داعش ... تختلف هذه التنظيمات في منطلقاتها العقدية و أهدافها السياسية وتتدرج في حجم ممارسة العنف و القتل باسم الله أو الدين أو الطائفة , لكنها تنبت من مصدر واحد وهو فكرة انقاذ الانسان/المسلم/العربي من الظلم و الاستعباد الغربي أو إنقاذه من تهاوي بنية الأنظمة العالمية/الإسلامية/العربية التي أعلنت إفلاسها القيمي و فشلها الاقتصادي الاجتماعي و أشهرت تهديدها لهذا الانسان بأن لا مفر منها إلا إليها أو إلى الموت.
كيف تولد التنظيمات المتطرفة ؟ وما سبب كل هذا العنف المتولد من داخلها و الموجه للآخر ؟ وما علاقة سقوط الأنظمة بسقوط الأخلاق و القيم المجتمعية؟
يحاول الخطاب العالمي و الإعلام الدولي إلصاق تهمة العنف و الإرهاب بالحضارة الاسلامية , ويجاريه في هذا الطرح أبواق الإعلام العربي و دعوات النخبة التي تقلد من تتبعه _ مثل تقليد المريد وعضو التنظيم المتطرف لقيادته السياسية و مراجعه الفكرية_ , لكن التاريخ المشترك للإنسانية يقول أن التطرف و القتل و الطائفية العرقية و السياسية كان ملازما لكل الشعوب و الحضارات و ظهر في كل الديانات و العقائد المعاصرة أو القديمة وحتى في العقائد السياسية الملحدة , لكن ما يميز التطرف الحالي هو تركيزه على الحضارة الاسلامية , ثم انتقاله من تطرف يعيش في طرف المجتمع فكرياً و وجودياً إلى تطرف يهيمن على مركز العديد من المجتمعات و يتوسط المجتمع أو يقوده.
رغم أن كوكب الأرض يضم العديد من الحضارات إلا أن الحضارة الغربية هي التي هيمنت عليه و هي التي أنتجت الحداثة الحالية بمرتكزاتها : العقلانية , العلمية ,العلمانية , المساواة , الديمقراطية , الرأسمالية الصناعية التجارية و الفلاحية ... حتى أصبح يترادف اسم الحضارة الغربية مع الحداثة.
مع انهيار المعسكر الشيوعي بقيادة الاتحاد السفياتي و سقوط الأنظمة الفاشية , أصبحت الرأسمالية الغربية في نموذجها الأمريكي هي الممثل الوحيد للحداثة الغربية و القائدة للإنسانية حتى أن أحد مفكريهم وهو " فرانسيس فوكوياما " في كتابه " نهاية التاريخ و الإنسان الأخير " الصادر سنة 1992 بالقول بنهاية التطور الاجتماعي و الثقافي للإنسانية و الشكل النهائي للحكومات وصل إلى محطته الأخيرة وهي النموذج الأمريكي ! ما يفسر هذه النظرة الشمولية و الحدية لـ "فرانسيس فوكوياما " هو انتماؤه لتيار المحافظين الجدد الأمريكي و تتلمذه الفكري على يد أستاذه " صامويل هنتنكتون " (1927-2008) صاحب نظرية صراع الحضارات التي دافع فيها عن فكرته بحتمية صدام الحضارات على أسس ثقافية و دينية , كتب " صامويل هنتنكتون " مقالته الشهيرة " صراع الحضارات" بمجلة " فورين أفيرز" و التي سيتوسع فيها لاحقا لينتج كتابا بنفس العنوان جاءت المقالة ثم الكتاب كتكملة و تأكيد لفكرة تلميذه " فوكوياما" حيث قسم " هنتنكتون " العالم إلى تسع حضارات تقودها الحضارة الغربية, وركز على أن الخطر القادم بعد نهاية الشيوعية هو خطر الحضارة الاسلامية مشيرا إلى عدد الصراعات و الحروب على حدود الدول الاسلامية وداخلها, أهمية فكر" صامويل هنتنكتون " ليس في تنظيره لمرحلة ما بعد الشيوعية و الألفية الثالثة ولكن في حجم تأثيره في السياسات الخارجية للولايات المتحدة القلقة على مصالحها الاستراتيجية و حاجاتها الملحة من الموارد الطاقية الموجودة في الشرق الأوسط ومصالحها مع حلفائها الأوروبيين الذين يخشون أيضا على مصالحهم الاقتصادية و إرثهم الاستعماري القديم في الدول العربية الاسلامية و خوفهم من سقوط الأنظمة العربية التي تضمن هذه المصالح على حساب مصلحة الشعوب العربية.
حالة تبادل الأدوار بين السلطات الأمريكية _ الخارجية و الجيوش _ و بين المفكرين الأمريكيين و خاصة المحافظون الجدد التي تصل لحد التماهي , فيضعون التبريرات لقرارات الخارجية الامريكية أو يكتبون مصوغات أخلاقية و دوافع فكرية لحروب الجيش الأمريكي حول العالم , هذا التداخل و تبادل الأدوار بالإضافة لإشغال الرأي العالم الأمريكي و الأوروبي بصناعة عدو افتراضي يهدد حياتهم و قيمهم و اقتصادهم يتمثل في ( الارهاب الاسلامي ) العابر للقارات يُلهي الانسان الغربي عن مشاكله الحقيقة في الركود الاقتصادي و الأزمات الاقتصادية أو العنصرية المتفشية في بلدانه , أو تدمير البيئة و حجم الثلوث و الأمراض المزمنة التي يعاني منها جراء التقدم و التصنيع المفصول عن الأخلاق.
الأزمات التي تعصف الحداثة الغربية أو بالحضارة الغربية و أولها أزمة الغاية و الوجود : حيث فشلت هذه الحداثة في إيجاد هدف لحياة الانسان الغربي الذي تنكر لفكرة الاله أو الدين منذ قرون فوجد نفسه يعمل و يراكم الثروة و يضاعف لذة الشهوات الطعام/الجنس/اللباس/الثروة دون هدف أو غاية.
فشل النظم الديمقراطية في تحقيق إرادة الإنسان الغربي حيث يجد هذا الانسان نفسه أمام قرارات لا تمثله مُتخذة من هيئات وصلت بديمقراطية أصواته أو يرى حكوماته المنتخبة تخالف إرادة شعوبها ( أغلب البريطانيين و الأوروبيين كانوا ضد الحرب في العراق ورغم ذلك شاركت فيها جيوشهم) .
فضيحة وهم المساواة : قامت الحداثة الغربية على مرتكز المساواة بين الأفراد دون تمييز عرقي أو ديني أو طبقي , لكن الواقع يفضح بشاعة العنصرية المتزايدة و التمييز و الاعتداءات على مواطني هذه الدول بسبب اختلاف اللون أو اللهجة .
التقدم المفصول عن القيم و الأخلاق : تَعتبِر الحداثة الغربية العالم مجرد مادة بدون روح أو قيمة وهذه المادة معدة لتلبية حاجيات الفرد الغربي و صناعاته و شركاته الرأس مالية بدون حسيب أو رقيب , فتستهلك الصناعات الغربية موارد الكوكب من معادن و غابات و مياه وحيوانات و حتى إبادة شعوب إنسانية أخرى وتدمرها ملوثة أرضها وجوها دون وضع مُصوِّغ أخلاقي فالعالم و موارده و شعوبه مجرد مادة بدون وعي أو قيمة كما سبق.
إصرار الحضارة الغربية على تعميم نموذج حداثتها بما تحمله من أزمات هوية و غاية إلى باقي شعوب و حضارات العالم , و في واجهة هذه الحضارات و الشعوب الإنسان العربي المسلم : فهو تارة مستباح الأرض بسرقة موارده بتروله شواطئه أراضيه الفلاحية أو استغلاله في معامل دون اعتبار لأبسط شروط الكرامة , و اعتبار أرضه مكان لحل اشكاليات الحداثة الغربية حيث صدرت الحضارة الغربية مشكلة اليهود داخلها بإرسالهم وبناء دولة عنصرية عسكرية معادية لهم في قلب الحضارة العربية الإسلامية و دعم الكيان الصهيوني ليخوض حروب و أزمات أنهكت الدول و الانسان العربي المسلم و عطلت مسيرة تنميته.
الإنسان الغربي الذي ينظر لنفسه من خلال تعريف الحداثة الغربية له ككائن موجود بالصدفة و العبث متطور عبر القوانين الداروينية : الصراع و البقاء للأقوى , و المنشغل بتلبية شهواته و لذاته الأكل/الجنس/الثروة , و أزاح كل المسلمات و المقدسات في سبيل تحقيق المزيد من اللذة , يسعى لتعميم رؤيته أو أزمته لباقي الشعوب , منها تدنيس مقدسات باقي الحضارات : سرقة الآثار العراقية بعد الإحتلال الامريكي , تدنيس المصاحف في سجن غوانتنامو , الرسوم المسيئة للرسول (ص) , دعم الحركات و المنظمات التي تروج للإباحية و تجعل من الانحرافات الجنسية حرية شخصية ( حادثة تعري عضوات حركة " فيمن " في آثار مسجد حسان بالرباط ) , مطالبة الأنظمة في الدول العربية لتعديل قوانينها حتى تعطي حقوق زواج المثليين و السحاقيات و تمكينهم من حق تبني الأطفال و توسيع مفهوم الأسرة ليشمل حق زواج الانسان بباقي الحيوانات مثل البغال و الأبقار و القردة ..
الدول بتقنين و تشريع الحق في زراعة المخدرات و بيعها و استهلاكها , ثم الحق في الاجهاض و الانتحار و انهاء حياة المرضى ..
مثل تيار داعش الذي كَفَرَ بكل مظاهر الحداثة و التعايش و جابه ظلم و استغلال الحضارة الغربية للإنسان بالمزيد من العنف و التوحش , ظهر تيار فاحش الذي يدعو لمواجة تخلف الانسان العربي و ضعفه أمام عدوان الغرب الرأس مالي و الأنظمة العميلة له بالمزيد من التحلل من الأخلاق و القيم و إلغاء الهوية و تدنيس المقدس و رفض مؤسسة الأسرة و إزالة الإله لوضع مكانه إله آخر هي آلهة اللذة و الاستهلاك العبثي , أمام هذا التيار يقف الانسان في حالة دفاع عن آخر قلاعه التي يحفظ فيها سبب وجوده ويربط فيها بقاءه في الحياة بهدف يتعدى مرحلة ما بعد الموت و يمني نفسه بفكرة العدالة المطلقة و الخير الذي سينتصر على الشر في كل نهاية.