تقارير دولية تكشف الأوضاع المأساوية لمسيحيي الشرق الأوسط
الجمعة 31/يوليو/2015 - 12:07 ص
طباعة

يواجه المسيحيون الذين يعيشون في الشرق الأوسط وضعاً مأساوياً، و لم يُلاحظ وضع مزرٍ مماثل له خلال أكثر من ألف عام، ومن خلال دراسة حديثة أجراها مركز بيو للأبحاث Pew Research Center و"تقارير منظمة المسيحية اليوم، لوحظ أن تعداد المسيحيين حالياً في الشرق الأوسط قد تناقص بشكل كبير من نسبة 14% الى نسبة 4% من المجموع السكاني للمنطقة.
وأرجعت التقارير السبب الرئيسي لذلك إلى ظهور وصعود جماعة (داعش)، إذ يُعّد المسيحيون في منظور هذه الجماعة العدو اللدود، وغالباً ما تُشير دعايات داعش إلى البلدان ذات الغالبية المسيحية "بالجيوش الصليبية".
ونشرت صحيفة نيويورك تايمز تقريرًا رئيسياً يُسلط الضوء على وضع المسيحيين في الشرق الأوسط للكاتبة إليزا جريسول، تحت عنوان ( هل هذه نهاية المسيحية في الشرق الأوسط؟)، حيث أكدا على ان داعش والحركات المتطرفة الأخرى في جميع أنحاء المنطقة تقوم باستعباد وقتل واقتلاع المسيحيين، مع عدم وجود مساعدات في الأفق.
إبادة جماعية

منذ مئة سنة، أدى سقوط السلطنة العثمانية واندلاع الحرب العالمية الأولى إلى بدء أعنف حقبة ضد المسيحيين في المنطقة، وقعت إبادة جماعية على يد حركة "تركيا الفتاة" باسم القومية وليس الدين، ما أدى إلى مقتل مليونَي أرمني وآشوري ويوناني على الأقل، كان معظمهم من المسيحيين. من بين الناجين، غادر بعض الأشخاص المتعلّمين إلى الغرب. واستقر آخرون في العراق وسورية حيث استفادوا من حماية الحكام العسكريين الدكتاتوريين الذين تقرّبوا من تلك الأقليات النافذة اقتصادياً.
بين عامَي 1910 و2010، استمر تراجع عدد المسيحيين في الشرق الأوسط (أي في مصر وإسرائيل وفلسطين والأردن)، بعدما كان المسيحيون يشكّلون 14% من السكان، يقتصرون الآن على 4% تقريباً، (في إيران وتركيا، أصبح وجودهم شبه معدوم)، في لبنان، البلد الوحيد في المنطقة حيث يتمتع المسيحيون بنفوذ سياسي قوي، تقلَّص عددهم خلال القرن الماضي من 78% إلى 34% من السكان، سُجّل هذا التراجع بسبب انخفاض الولادات، فضلاً عن البيئات السياسية العدائية والأزمات الاقتصادية. يُعتبر الخوف عاملاً مؤثراً أيضاً، فقد رحل الناس بسبب توسّع نفوذ التنظيمات المتطرفة واقتناعهم بأن جماعتهم بدأت تتبخَّر.
لأكثر من عشر سنوات، استهدف المتطرفون المسيحيين وأقليات أخرى كانت تؤيد الغرب في معظمها، هذا ما حصل تحديداً في العراق بعد الغزو الأمريكي الذي دفع مئات آلاف الناس إلى الهرب، قال بشار وردة: مطران أربيل للكلدان الكاثوليك: {منذ عام 2003، خسرنا كهنة وأساقفة وقُصفت أكثر من 60 كنيسة}. مع سقوط صدام حسين، بدأ المسيحيون يغادرون العراق بأعداد كبيرة، وتقلص عددهم إلى أقل من 500 ألف اليوم بعدما كان يبلغ مليون ونصف المليون في عام 2003.
ثم جاء {الربيع العربي} ليزيد الوضع سوءاً. بعد إسقاط حكام مثل مبارك في مصر والقذافي في ليبيا، انتهى مفعول الحماية التي وفروها طويلاً للأقليات، اليوم، يسعى {داعش} إلى استئصال المسيحيين وأقليات أخرى نهائياً. يحرّف أعضاء هذا التنظيم تاريخ المسيحيين القديم في المنطقة (الإخضاع بقوة السيف) لتشريع معتقداتهم المحسوبة زيفًا على الإسلام، وعرض {داعش} فيديوهات يؤكد فيها أن المسيحيين مواطنون من الدرجة الثانية في دولة الخلافة، حذَّر المتحدث في الفيديو من تدمير كل الأشخاص الذين لا يبدون استعدادهم لدفع الجزية أو تغيير دينهم، وقد بلغت تلك الفيديوهات ذروتها مع عرض المشاهد الشهيرة التي يظهر فيها المسيحيون المصريون والإثيوبيون في ليبيا وهم يسيرون على الشاطئ قبل أن تُقطَع رؤوسهم ويسيل دمهم في البحر.
الهرب

بالنسبة إلى المسيحيين الذين يريدون الهرب من الشرق الأوسط، يمرّ أحد أبرز المعابر بلبنان. خلال الربيع الماضي، وجد آلاف المسيحيين من القرى في شمال شرق سورية، على طول نهر الخابور، مأوى لهم في لبنان، بعدما هربوا من هجوم {داعش} التي أسرت 230 شخصاً وطلبت فدية لإطلاقهم. لم تكن تلك المرة الأولى التي يُطرَد فيها الأشخاص المنتمون إلى هذه الجماعة المتماسكة من منازلهم، إذ ينحدر عدد كبير من هؤلاء القرويين من عائلات الأشخاص الذين هربوا من العراق في عام 1933، بعد ارتكاب مجزرة بحق المسيحيين الآشوريين أسفرت عن قتل 3 آلاف شخص في يوم.
في أحد أيام السبت، تجمّع 50 شخصاً من هؤلاء اللاجئين لحضور جنازة في الكنيسة الآشورية الشرقية في بيروت. كان الكاهن سارغون زومايا يستعد لإقامة مراسم دفن بنيامين إيشايا الذي وصل منذ أشهر قليلة بعد تهجيره من إحدى القرى التي هاجمها {داعش}. (توفي بسبب المضاعفات التي تلت إصابةً في الرأس سبّبها له أحد المجاهدين).
قال زومايا الذي غادر قريته الواقعة على طول نهر الخابور منذ أكثر من عشر سنوات للدراسة في لبنان: {نخشى أن يتبخر مجتمعنا كله}. كانت الكنيسة تقدم المساعدة للاعتناء بألف وخمسمائة عائلة سورية: {الضغط كبير علينا، أكثر مما نستطيع تحمّله}. لم تشأ العائلات أن تعيش في مخيمات اللاجئين المكتظة في لبنان، فقد كانت تعجّ بمليون ونصف مليون سوري هربوا من الحرب الأهلية. ما عادوا يريدون العيش بين المسلمين. لذا تجمّعوا في شقق إيجاراتها مرتفعة ووفرت لهم الكنيسة الدعم الذي تستطيع تقديمه.
داخل الكنيسة، جلس الرجال والنساء ضمن مجموعتين منفصلتين، وزعت إحدى الشابات القهوة التركية في أكواب ورقية، كانت ترتدي بذلة زيتية وجلست تبكي فوق التابوت المفتوح، فيما راحت النساء يلمسن جثة زوجها. بالقرب منها، جلس ابنها، بسام إيشايا، وكانت قدماه مكسورتين: كان يحاول مساعدة عائلته عبر إصلاح الكنبات، فوقعت إحداها عليه. غادرت عائلة إيشايا سورية وهي لا تحمل شيئاً معها. قال بسام إن «داعش» خيّرهم بين دفع الجزية وبين تغيير دينهم والموت». ثم أشار إلى وشم بشكل صليب أزرق على ذراعه اليمنى: «بسبب هذا الوشم، اضطررتُ إلى ارتداء ملابس بأكمام طويلة».
للهرب من البلدة، استقلّ أفراد عائلة إيشايا طائرة من محافظة الحسكة التي تقع في شمال شرق سورية وتخضع لسلطة نظام الأسد والأكراد (لكن وقعت مساحات كبيرة منها بيد {داعش} منذ ذلك الحين)، فقطعوا 400 ميل نحو دمشق، ومن هناك، توجهوا إلى الحدود اللبنانية، فرضت الخطوط الجوية السورية 180 دولاراً مقابل الرحلات الجوية، وفرض نظام الأسد 50 دولاراً للشخص بحسب اللاجئين خلال الجنازة.
منذ اندلاع الحرب الأهلية في سورية في عام 2011، سمح الأسد للمسيحيين بمغادرة البلد، لم يجد ثلث المسيحيين في سورية (نحو 600 ألف شخص) خياراً آخر إلا الهرب من البلد، بعيداً عن الجماعات المتطرفة مثل {جبهة النصرة} ثم {داعش}. قال بسام: {الرئيس جعل الخراف والذئاب تسير معاً. لا نأبه إذا بقي أو رحل، كل ما نريده هو الأمان}. استغل الأسد توسع نفوذ {داعش} لترسيخ دعمه لمن بقي في البلد، وقد نشر بينهم الخوف نفسه الذي حاول نشره في الغرب: هو الرادع الوحيد الذي يحول دون استيلاء {داعش} على البلد. كانت هذه الحجة فاعلة بنسبة كبيرة. في هذا السياق، قال النائب سامي الجميل رئيس حزب الكتائب في لبنان: {حين شاهد المسيحيون قطع رؤوس إخوتهم المسيحيين، اختار كل من كان يعتبر الأسد عدواً أهون الشرَّين. كان الأسد نسخة مخففة من {داعش)
اللاجئون

مثل معظم اللاجئين في بيت الرعية، لم يكن بسام يخطط للعودة إلى سورية. بل كان يبحث عن طريقة للتوجه إلى الغرب. انتقل شقيقه يوسف إلى شيكاغو قبل سنتين. لم يجد وظيفة بعد لكن تعمل زوجته في متاجر {وول مارت}.
قال أحد المشاركين في الجنازة: {هربنا من الحرب كي نموت في الشارع}.
ثم تحدث زومايا مع أفراد عائلته الذين كانوا من بين 230 أسيراً لدى {داعش}. يوم وصول {داعش} إلى قرية زوجته ظهراً، اتصل زومايا بوالدها للاطمئنان عليه.
قال الرجل الذي أجاب على الهاتف: {معك داعش}.
فتوسل إليه الكاهن: {أرجوك أطلق سراح عائلتي. لم يؤذوك في شيء. ليسوا محاربين}.
فأجابه الرجل: {هؤلاء الأشخاص أصبحوا مُلكاً لنا الآن. من يتكلّم؟}.
أقفل زومايا الخط. كان يخشى أن يكتشف عناصر {داعش} مكان وجوده. لكن لم ينتهِ تواصله معهم عند هذا الحد. فقد أرسلوا له صوراً عبر خدمة {واتساب}. أخرج زومايا هاتفه ليعرض الصور: يظهر مجاهد في إحداها على دراجة نارية وهو يبتسم بعدما أحرق متجر بقالة كان مُلكاً لوالده. وثمة صورة لمعمودية طفل في شهره الثالث قبل وصول {داعش}. وثمة لقطة لأفراد العائلة وهم يرتدون أزياء تنكرية للاحتفال بعيد آشوري حيث يرتدي الراشدون ملابس مرعبة لتخويف الأولاد ودفعهم إلى الصوم.
قال زومايا: {جميع هؤلاء الأشخاص مفقودون}.
تريد {داعش} 23 مليون دولار لإطلاق الأسرى، بمعدل 100 ألف لكل واحد منهم، لكن لا يستطيع أحد دفع هذا المبلغ.
خلال الربيع الماضي، اجتمع مجلس الأمن لمناقشة مأساة الأقليات الدينية في العراق. قال المفوض السامي لحقوق الإنسان، زيد رعد الحسين: {إذا طالبنا بحقوق الأقليات بعد بدء المذابح، فيعني ذلك أننا فشلنا}. بعد انتهاء المؤتمر، تصاعد الغضب بسبب الجمود الأميركي. صحيح أن الضربات الأميركية كانت فاعلة لكن منذ أكتوبر 2013، قدمت الولايات المتحدة مساعدات إنسانية بقيمة 416 مليون دولار فقط، وهي ميزانية ضئيلة جداً مقارنةً بالحاجات المادية الضرورية.
85% من العراقيين المهجّرين (عددهم 3.1 ملايين) هم من السُّنة، لم يعانِ أحد على يد {داعش} بقدر المسلمين. لكن تضررت أقليات دينية أخرى أيضاً وبأعداد كبيرة: احتُجز الإيزيديون في جبل سنجار في شمال العراق خلال الصيف الماضي وقد هددهم {داعش} بارتكاب إبادة جماعية بحقهم، وتعرّض التركمان الشيعة والشبك والكاكاي والمندائيون الذين يتبعون يوحنا المعمدان للاضطهاد نفسه، قال ديفيد سابرستين، السفير الأمريكي المتجول للحريات الدينية: {واجه الجميع ممارسات الصلب وقطع الرؤوس أو أُجبروا على تغيير دينهم. عند رؤية تلك الجماعات، لا سيما الفئات المسيحية والإيزيدية وغيرها، وهي تتعرض للاضطهاد بهذه الأعداد الهائلة، لا مفر من الشعور بقلق شديد}.
كان يستحيل على رئيسَين أمريكيين (بوش الإنجيلي المحافظ وأوباما الليبرالي التقدمي) أن يعالجا مأساة المسيحيين بشكل صريح خوفاً من أداء دور الصليبيين ومن تجدد خطاب {صراع الحضارات} الذي يُتَّهَم الغرب بتبنّيه. في عام 2007، حين كانت {القاعدة} تخطف وتقتل الكهنة في الموصل، تقول نينا شيا التي كانت المفوضة الأمريكية للحرية الدينية إنها اقتربت من وزيرة الخارجية السابقة كوندوليزا رايس التي أخبرتها بأن الولايات المتحدة لا تتدخل في شؤون {طائفية}. لكن تقول رايس الآن إن حماية الحرية الدينية في العراق كانت من الأولويات بالنسبة إليها وإلى إدارة بوش مع ذلك، لم تُعالَج مظاهر العنف المستهدَف وهجرة المسيحيين الجماعية، يقول تيموثي شاه، مدير مساعِد في {مشروع الحرية الدينية} في جامعة جورج تاون: {كانت إحدى الشوائب في أداء إدارة بوش تتعلق بالعجز عن التعامل مع هذا الوضع باعتباره نتيجة مباشرة لقرار الغزو}.
منذ فترة قصيرة، تعرّض البيت الأبيض للنقد بسبب تجنب استعمال مصطلح {المسيحيين} عمداً. تحمل مسألة اضطهاد المسيحيين بُعداً سياسياً مشحوناً. لطالما استعمل اليمين المسيحي الفكرة القائلة إن المسيحية معرّضة للخطر ويجب أن تحشد قاعدتها. حين ذبح {داعش} الأقباط المصريين في ليبيا خلال الشتاء الماضي، تعرّضت وزارة الخارجية الأميركية لنقد لاذع لأنها وصفت الضحايا بعبارة {مواطنين مصريين}. يقول دانيال فيلبوت، أستاذ علوم سياسية في جامعة نوتردام: {حين نوقف الحديث عن دوافع {داعش} الدينية أو عن الهويات الدينية للأقليات التي تهاجمها، يصبح حذر إدارة أوباما في المسائل الدينية مبالغاً فيه}.
خلال الخريف الماضي، سمّى أوباما مجموعات المسيحيين والأقليات الدينية الأخرى باسمها في أحد خطاباته فقال: {لا يمكن أن نسمح بطرد هذه الجماعات من أراضيها القديمة}. وحين هدد {داعش} باستئصال الإيزيديين، {تدخلت الولايات المتحدة لهزم المقاتلين} بحسب قول أليستار باسكي، المتحدث باسم مجلس الأمن القومي الأميركي، في شمال شرق سورية حيث يتابع {داعش} شنّ الاعتداءات ضد القرى الآشورية، حضر الجيش الأمريكي حديثاً لتقديم المساعدة، لكن تبدو مسألة اللاجئين أكثر تعقيداً، ينتمي 40% من اللاجئين العراقيين الذين دخلوا الولايات المتحدة (أكثر من 122 ألف شخص) إلى الأقليات المضطهدة. سيصعب استقبال عدد إضافي منهم. أوضح سابرستين: {ثمة حدود لما يمكن أن يفعله المجتمع الدولي}.
تسعى عضو الكونجرس الديمقراطية آنا إيشو إلى إعطاء الأولوية لمنح صفة اللجوء إلى الأقليات التي تريد مغادرة العراق: {الوضع شائك. متوسط الوقت اللازم للحصول على الإذن بدخول الولايات المتحدة يفوق الستة عشر شهراً، وهي مدة طويلة جداً. سيموت كثيرون خلال هذه الفترة}. لكن قد يصعب حشد دعم واسع لهذا القرار. بشكل عام، يفضّل المسيحيون في الشرق الأوسط فلسطين على إسرائيل. وبما أن دعم إسرائيل يُعتبر عاملاً محورياً بالنسبة إلى اليمين المسيحي (يجب أن يحتل اليهود إسرائيل قبل عودة المسيح!)، سيكون هذا الموقف كفيلاً بإبعاد المسيحيين الشرقيين عن جماعة الضغط النافذة التي يمكن أن تدعم قضيتهم. منذ فترة قصيرة، اعتبر تيد كروز أمام جمهور من مسيحيي الشرق الأوسط، خلال حدث للدفاع عن المسيحيين في واشنطن، أن {المسيحيين ليس لديهم حليف أفضل من الدولة اليهودية}. فأطلق الحاضرون صيحات الاستهجان ضده.
لا يتعلق مصير المسيحيين في الشرق الأوسط بالجانب الديني حصراً، بل إنه يرتبط أيضاً بأنواع المجتمعات التي ستنمو تزامناً مع تصدّع خارطة المنطقة. في لبنان مثلاً، حيث يؤدي المسيحيون دوراً نافذاً في الحكومة دوماً، تزداد أهميتهم كجدار فاصل بين السُّنة والشيعة المتخاصمين. طوال 70 سنة تقريباً، شكّل لبنان ساحة حرب بالوكالة للصراع بين إسرائيل وفلسطين. في أنحاء المنطقة، يُعتبر هذا الصراع الآن ثانوياً أمام الانقسام الجارف بين السُّنة والشيعة كونه يهدد بحصول سفك دماء مريع.
لبنان
في وقت سابق من هذه السنة، أغلق لبنان حدوده أمام معظم الهاربين من الحرب في سورية، مستثنياً المسيحيين الهاربين من {داعش}. حين هاجم المتطرفون القرى على طول نهر الخابور، أمر وزير الداخلية اللبناني نهاد المشنوق، المسؤول عن الحدود، بالسماح بدخول المسيحيين إلى البلد. فقال له ذلك المسؤول: {لا يمكن أن أصدر هذا الأمر خطياً}. فأجابه المشنوق: {لا بأس! كرر الأمر حرفياً بصوت مرتفع}.
أخبرني المشنوق هذه القصة في إحدى الأمسيات أخيراً: {هم يدفعون الثمن أكثر بكثير من غيرهم في سورية والعراق، هم ليسوا سُنّة ولا شيعة ولكنهم يدفعون الثمن أكثر من الجماعتين معاً}، كنا نجلس في مكتبه الذي يقع في مدرسة سابقة للفنون تعود إلى عهد الحكم العثماني، بالنسبة إلى هذا الوزير السني المعتدل، يُعتبر إيواء المسيحيين واجباً اجتماعياً وسياسياً وأخلاقياً في آن.
في لبنان، يتصاعد التوتر بين السُّنة والشيعة في ظل نظام المحسوبية السياسية الذي يقسم المجتمع المسيحي بين حزبين سياسيين متخاصمين اشتقّا من الحرب الأهلية التي دامت 15 سنة.
قال آلان عون، نائب عن {التيار الوطني الحر} وابن شقيقة ميشال عون: {إنها لعبة سياسية}. أدى تنامي نفوذ {داعش} إلى تقوية التحالف: {سيُسَرّ المسيحيون إذا أبدى أي طرف استعداده لمحاربة داعش}. دفع {حزب الله} لشبّان مسيحيين من سهل البقاع الفقير في لبنان بين 500 و2000 دولار لمحاربة {داعش}.
اعتبرت مديرة تحرير موقع {ناو ليبانون} الإخباري، حنين غدار، أن {المسيحيين يحللون الأوضاع مثلما يفعل أوباما}، في إشارةٍ إلى استعداد الأخير لدعم إيران بهدف التصدي للتطرف السني. بالنسبة إلى عدد كبير من المسيحيين في الشرق الأوسط، يوفر التحالف مع الشيعة أملاً بالصمود، ولو كان ضئيلاً. بحسب رأي غدار الشيعية المستقلة، لا أحد يعرف ما ستؤول إليه هذه التحالفات الهشة. خلال الربيع الماضي، كانت قوات {حزب الله} الموالية لإيران تحارب المتطرفين السُّنة في سورية. لا أحد يعلم من سيتفوق في النهاية. تقول غدار: {الأمر أشبه بـ}صراع العروش}. نحن ننتظر أن يذوب الثلج لمعرفة ما سيحصل}.
بلدات فارغة
على طول جبهة القتال ضد {داعش} في شمال العراق، ثمة ساتر ترابي يمتد على مئات الأميال في أنحاء نينوى. أصبحت مجموعة من البلدات المسيحية فارغة الآن، وتحتل القوات الكردية الأراضي التي كانت، طوال آلاف السنين، ملكاً للجماعات الآشورية والكلدانية والسريانية. في بلدة تللسقف التي سيطر عليها {داعش} في السنة الماضية، تعج الساحة الرئيسة بالعلّيق والأشواك. كان هذا المكان في السابق عبارة عن سوق مزدهرة. كل يوم خميس، كان مئات الناس يأتون لشراء الملابس والعسل والخضراوات. ضمت تللسقف حينها سبعة آلاف شخص، لكن لم يبقَ منهم اليوم إلا ثلاثة أشخاص.
تقوم {قوات سهل نينوى}، وهي ميليشيا آشورية مسيحية تتألف من 500 عضو، بدوريات في البلدة. هذه القوات هي واحدة من خمس ميليشيات آشورية تشكّلت خلال السنة الماضية بعد تراجع {داعش}. تتقاسم هدفاً مزدوجاً مع ميليشيتين أخريين: قوات {دويخ نوشا} المؤلفة من مئة متطوع تقريباً، وكتيبة {وحدات حماية سهل نينوى} التي تتألف من أكثر من 300 شخص. تسعى هذه الجماعات إلى تحرير الأراضي المسيحية من {داعش} وحماية شعبها حين يعود إلى دياره، وكأنها جزء من حرس وطني ناشئ. ثمة ميليشيتان أخريان وهما {المجلس العسكري السرياني} الذي يحارب إلى جانب الأكراد في شمال شرق سورية، و}كتائب بابليون} التي تنشط تحت إدارة الميليشيات التي يسيطر عليها الشيعة في العراق.
جمود إزاء {داعش}
يتلقى عدد ضئيل من هذه الميليشيات المساعدة من بعض المواطنين الأميركيين والكنديين والبريطانيين الذين استاؤوا من جمود حكوماتهم أمام {داعش}، لذا قرروا السفر إلى سورية والعراق للمحاربة بنفسهم. يأتي بعضهم باسم إخوتهم المسيحيين، بينما يحضر البعض الآخر لإعادة إحياء أدوارهم في الغزو الأميركي للعراق وأفغانستان (أو للتعويض عن ما قاموا به). قدّم أميركي اسمه ماثيو فاندايك، وهو مؤسس شركة {أبناء الحرية الدولية}، تدريبات مجانية لكتيبة {وحدات حماية سهل نينوى}، وهو يوشك الآن على التعاون مع ميليشيا {دويخ نوشا}. يبلغ فاندايك 36 عاماً وقد سافر إلى ليبيا في عام 2011 للمحاربة ضد قوات معمر القذافي. فأُلقي القبض عليه وأمضى 166 يوماً في الحبس الانفرادي قبل أن يهرب ويعود إلى القتال. لم يتلق أي تدريب عسكري رسمي، لكن منذ الخريف الماضي، استقدم محاربين أميركيين قدامى إلى العراق لمساعدة {وحدات حماية سهل نينوى}، منهم جيمس هالترمان الذي حارب سابقاً في أفغانستان والعراق واكتشف الجماعة عبر الإنترنت بعد مشاهدة مقتطف عن الغربيين الذين يحاربون {داعش} على قناة {فوكس نيوز}. لا تدعم الحكومة الأميركية الجماعات كتلك التي أسسها فاندايك. يقول القنصل العام في أربيل، جوزيف بنينغتون: {الأميركيون الذين سافروا إلى العراق للقتال ليسوا جزءاً من الجهود الأميركية في المنطقة. ليتهم لم يأتوا إلى هنا}.
في العراق، لا تنشط الميليشيات في جبهة القتال إلا بموافقة البشمركة الكردية التي تستغل المعركة ضد {داعش} لتوسيع أراضيها في سهل نينوى الذي كان من الأراضي المتنازع عليها لفترة طويلة بين العرب والأكراد. حتى لو أرادت الميليشيات المسيحية قطع كيلومتر واحد بين القواعد العسكرية والمراكز الأمامية، يجب أن تطلب الإذن من الأكراد. يسعى هؤلاء إلى ضمّ جميع الميليشيات المسيحية إلى قواتهم.
نجحوا بتحقيق هذا الهدف مع {قوات سهل نينوى} ومجموعتين أخريين. لكن لا تزال {وحدات حماية سهل نينوى} مترددة حتى الآن. تخشى أن يستعمل الأكراد القضية المسيحية للاستيلاء على الأراضي وإنشاء كردستان الكبرى. وبما أن القوات الكردية تخلّت عنها مع اقتراب {داعش}، تطالب الميليشيات بحق حماية شعبها. حتى الآن، هي تستفيد من المساعدة التي تجدها. قال رئيس {قوات سهل نينوى}، روميو هكاري: {نريد مدرّبين أميركيين لكننا نعجز أصلاً عن تحمّل كلفة شراء الأسلحة}. بعدما اشترت جماعته 20 بندقية (AK-47) من السوق المفتوحة في أربيل، أعطاها الأكراد مئة بندقية إضافية.
ما الحل؟
حتى لو هُزم {داعش}، يبقى مصير الأقليات الدينية في سورية والعراق قاتماً. ما لم تستفد الأقليات من بعض التدابير الأمنية المشددة، لن يتردد الناس في المغادرة إذا سنحت لهم الفرصة. تقول نينا شيا من {معهد هدسون} (مركز سياسي محافظ) إن الوضع تدهور لدرجة أن المسيحيين العراقيين يجب أن يحصلوا على إقامة كاملة في كردستان، مع ضمان حقهم بالعمل، أو يجب مساعدتهم على المغادرة. يؤكد آخرون على ضرورة إنشاء منطقة مستقلة للأقليات. يعتبر الناشطون أن المنفى هو أشبه بناقوس موت بالنسبة إلى هذه الجماعات. يقول عضو البرلمان الكردي سرود المقدسي: {نحن موجودون هنا كجماعة عرقية بحد ذاتها منذ 6 آلاف سنة والمسيحيون هنا منذ 1700 سنة. لدينا ثقافتنا ولغتنا وتقاليدنا الخاصة. لكن إذا عشنا داخل مجتمعات أخرى، ستزول هذه المظاهر كلها بعد جيلَين}.
وفق عدد من المسيحيين الآشوريين، يقضي الحل العملي بإنشاء منطقة آمنة في سهل نينوى. يقول نوري كينو من منظمة {المطالبة بالتحرك}: {إذا تمكن الغرب من استيعاب عدد كبير من اللاجئين وتولّت المفوضية السامية للأمم المتحدة لشؤون اللاجئين عملية مماثلة، فلن نطالب بِحلّ دائم. لكن يقضي أكثر خيار واقعي بالعودة إلى الديار}.
قال الأب عمانوئيل يوخنا، رئيس برنامج مساعدة المسيحيين في شمال العراق: {لا وقت لدينا لانتظار الحلول. للمرة الأولى منذ ألفَي سنة، تتوقف القداديس في الموصل. ابتكر الغرب حلاً واحداً يقضي بتقديم التأشيرات لبضع مئات الناس. لكن ماذا عن مئات آلاف الناس الآخرين؟}. إذا انقسم العراق إلى ثلاث مناطق (بين السُّنة والشيعة والأكراد)، يمكن أن تنشأ منطقة رابعة للأقليات. قال يوخنا: {العراق أشبه بزواج قسري بين السُّنة والشيعة والأكراد والمسيحيين ولكنه زواج فاشل. حتى أنا، الكاهن، أفضّل الطلاق في هذه الحالة}.
يقول مؤيدو هذا الحل إن إنشاء منطقة آمنة لن يتطلب أي قوة دولية أو منطقة حظر جوي، علماً أن أياً من هذين الخيارين لن يحظى أصلاً بدعم واسع من الولايات المتحدة أو حلفائها. تؤدي السياسة الأميركية دوراً في هذا المجال. حين طُلب من الكونغرس أن يصادق على تقديم مساعدات بقيمة 1.6 مليار دولار للقوات العراقية التي تحارب «داعش» (الجيش العراقي، الأكراد، القبائل السنية)، عدّل القانون كي يشمل صراحةً القوات المحلية في سهل نينوى، لكنه مرر أيضاً تشريعاً يوجّه وزارة الخارجية لإنشاء منطقة آمنة هناك. لكن في نهاية المطاف، تقع المسؤولية على العراقيين. قال القنصل العام بنينغتون: «سيكون إنشاء منطقة آمنة في نينوى حلاً يمكن أن يطبّقه البرلمان العراقي بما يتماشى مع الدستور العراقي».
يقول طارق متري، وزير لبناني سابق والممثل السابق لأمين عام الأمم المتحدة في ليبيا، إنه استنتج من محادثاته مع مسؤولين في البيت الأبيض {أنّ أوباما يركز على الانسحاب. يظن أنه انتُخِب كي ينسحب من أفغانستان والعراق وكي يعقد صفقة مع إيران. في ظل هذا المزاج السائد، يجب ألا نتوقع أو نطلب الكثير من الأميركيين}. لكن يردّ باسكي من مجلس الأمن القومي على تلك الادعاءات معتبراً أن الرئيس وأعضاء إدارته لم ينسحبوا بل حافظوا على التزاماتهم وقد أنشأوا وقادوا تحالفاً مؤلفاً من 60 دولة تقريباً بهدف إضعاف {داعش} تمهيداً لتدميره في نهاية المطاف}.